العجرفة المنكسرة والهجوم الاجتماعي

العجرفة المنكسرة والهجوم الاجتماعي

من الظواهر السياسية ما يكون خادعًا أحيانًا مثل انتصار جزئي في إحدى المعارك لطرف من المتحاربين، بينما يكون على وشك خسارة شاملة لحرب بأكملها.

لقد أشرت إلى ذلك الأمر في كتابي «الثورة الاشتراكية العالمية»، الصادر في القاهرة عام 1961، حيث كتبت في ص 273 ما يلي:

«بعد هؤلاء يأتي فريق العلماء، مثل الاقتصادي الأمريكي «بول سويزي»، الذي ألف مع «ليو هيوبرمان» كتابًا عن كوبا خلصا فيه إلى أن قيام القطاع العام بالتنمية الاقتصادية يجعل من الممكن للاشتراكية أن تبني فيها وفي البلاد المماثلة دون قيادة شيوعية.

«ولكن قادة كوبا أعلنوا أخيرًا أنهم يتبعون الماركسية اللينينية، لقد شعروا بالعجز عن حماية طريقهم المستقل إلى الاشتراكية في عزلتهم السحيقة تحت أنف الولايات المتحدة الأمريكية، فتخلوا عنه ليقيموا رابطة عضوية بينهم وبين المعسكر الآخر حتى يلتزم بحمايتهم، وذلك وضع فريد خلقه الصراع العالمي، والمكسب الأصيل لشعب كوبا، إنما هو الاشتراكية، أما كسب زعمائها للينينية، فليس إلا صحوة الموت لمذهب محتضر».

قلت ذلك وأنا أسجل عبر كتابي بأجمعه وأؤكد، أنه بعد المؤتمر العشرين للحزب البلشفي في عام 1956، وإدانته أيضًا للطغيان الستاليني المروع، إنما مهّد لسقوط المذهب اللينيني في فرض الاشتراكية على الشعوب بالقوة القاهرة تحت اسم ديكتاتورية البروليتاريا، وبدء العودة عند مَن يحلمون بالاشتراكية أو يدعون إليها، إلى الاشتراكية الديمقراطية، حيث تكون إقامة النظام الاشتراكي أو إزالته، أو المدى الذي يبلغه في تطبيقه رهنًا بالاختيار الحر من جانب الشعوب المعنية.

وأظن أن التاريخ قد أثبت صحة هذا التوقع، بحيث تم التخلي عن اللينينية قبل أن يسقط النظام الاشتراكي برمته، في ما كان يعرف باسم الاتحاد السوفييتي والأنظمة المماثلة في شرق أوربا، أما كوبا التي لاشك تشعر بالارتياح إلى التحولات اليسارية الجارية عند كثير من جيرانها في أمريكا اللاتينية، فإن احتفاظها بنظامها الخاص لا يحول دون ارتباط تلك التحولات بالديمقراطية الاشتراكية، ولا يمنع من الاحترام الذي تبديه تلك الدول وقادتها إزاء الزعيم الكوبي التاريخي الطاعن في السن، فيدل كاسترو!

العجرفة الإمبريالية

لاشك في أن سقوط المعسكر الاشتراكي في بداية التسعينيات من القرن الماضي، وخروج المعسكر الرأسمالي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية منتصرًا بغير قتال في الحرب الباردة، قد ملآ قلوب الدوائر الإمبريالية من المحافظين الجدد في تلك الدولة، التي أصبحت تتمتع بوضع القوة الكبرى الوحيدة في العالم، أقول ملآ قلوبهم بنوع من الغرور والغطرسة في معاملاتها مع الدول الأخرى، على نحو لم يتردد معه بعض مواطنيها، بل العاملون الرسميون في حكومتها في التصريح به في مناسبات مختلفة، وانسحب هذا الغرور وتلك الغطرسة إلى الحليف الرئيسي للولايات المتحدة في منطقتنا ليشملاها بدورها، وأعني دولة الكيان الصهيوني القائمة على الأرض المغتصبة في فلسطين.

ولكن كل شيء له حد كما يقال! فقد أصيبت تلك الدوائر بانتكاسة ظاهرة كان من شأنها انكسار ظاهر في ما كانت تبديه من عجرفة في تعاملها مع الآخرين:

فمن الملاحظ - مثلاً - أن الولايات المتحدة الأمريكية بدأت تعاني ثمرات مرة لسياستها المتعجرفة المملوءة بالأخطاء في العراق، من ذلك مثلا قرار حل الجيش العراقي بعد استسلام نظام صدام حسين المنهزم في أوائل الحرب منذ نحو خمس سنوات. فالجيش المنهزم، إما أن يباد وإما أن يُستأنس من جانب المنتصر، بتغيير بعض القيادات التي لا يضمن ولاءها، ووضعه في خدمة القوى المنتصرة ولو لضبط الأمن الداخلي، الأمر الذي تعاني منه الولايات المتحدة الآن الأمرين لإنشاء جيش بديل يقوم بالمهمة المذكورة، بالتعاون - بالطبع مع الحكومة العراقية المتحالفة معها حتى الآن، حيث تحوّل الجيش القديم المنحل إلى عصابات مقاتلة، وتحت يديه ما كان يملكه من خبرة عسكرية ومعدات، بغض النظر عن تسمية بعض العراقيين لتلك القوات بالمقاومة، وتسمية الأمريكان لها بالإرهاب!

وبالطبع لايخفى على أحد أن الولايات المتحدة الأمريكية في المؤتمر المنعقد في أواخر أبريل وأوائل مايو 2007، في شرم الشيخ المصرية بشأن العراق، قد اضطرت إلى الغض بقدر أو آخر من عجرفة بعض مسئوليها في تعاملهم مع قوى إقليمية كانت ولاتزال موضع ارتياب الساسة الأمريكان مثل سورية وإيران، وذلك طلبًا لتعاونهم في إشاعة الاستقرار بأرض العراق، للخروج من الوضع المتأزم الحالي، الذي يكلف الولايات المتحدة كثيراً من الخسائر البشرية والمادية، مما يثير سخط الجماهير داخل الولايات المتحدة ذاتها، الذي تمثل في هزيمة الجمهوريين في الانتخابات النيابية الأخيرة، وعودة السيطرة للحزب الديمقراطي على مجلسي الكونجرس، ومعارضته دفع مزيد من الأموال في الإنفاق على الحرب الدائرة في العراق، حتى تضع الرئاسة الأمريكية ورئاسة الأركان العسكرية جدولاً زمنيًا لانسحاب قواتها من هناك.

ويصاحب ذلك الارتباك في العراق ارتباك مماثل في أفغانستان تعانيه القوات المتحالفة هناك، يجعل طالبان المقاومة لوجود تلك القوات، تكسب كل يوم موقعًا جديدًا، وتتمتع بتأييد متزايد من جانب الشعب الأفغاني الذي تعاني جماهيره متاعب جمة بعضها مثير للدهشة، من ذلك ما ذكر أخيرًا من قيام القوات الأمريكية بتدمير مدرسة في إحدى القرى، لم تكد القوات الإيطالية المتحالفة معها تفرغ من إنشائها ترضية لسكان تلك المنطقة، وذلك - طبقًا لما تذكره التقارير الإخبارية عن هذا الموضوع - قبل أن يتناول تلاميذ تلك المدرسة وجبة واحدة فيها، وربما قبل أن يتموا يومًا دراسيًا واحدًا يتعلمون فيه شيئًا مما يعلمه مدرسوها!

عجرفة صهيونية

فإذا نظرنا إلى الحليف الصهيوني، نجد أن انكسار عجرفته قد تزامن على نحو ما مع انكسار عجرفة حليفه الأكبر، وذلك بعد صدور البوادر الأولى لتقرير ما يسمى لجنة فينوجراد، التي أمر بتشكيلها رئيس الوزراء إيهود أولمرت للتحقيق في مجريات ونتائج الحرب التي شنتها دولة الكيان الصهيوني على لبنان في يوليو 2006, والتي انتهت فيها إلى تحميل مسئولية الأداء السيئ في تلك الحرب لكل من رئيس الوزراء ووزير دفاعه، اللذين أقرّا خطة رئيس الأركان المستقيل في الاعتماد على القوات الجوية وحدها في محاولة كسب تلك الحرب، فبالرغم من «نجاحها» في إلحاق دمار هائل في البنية العمرانية للمجتمع اللبناني، وقتل كثير من أبنائه، فلم تفلح تلك الخطة في القضاء على قوات المقاومة التابعة لحزب الله، ولا في حماية المجتمع الإسرائيلي من تساقط الصواريخ اللبنانية عليه!

وتتمثل آثار تلك الانتكاسة في عجز المجتمع الإسرائيلي عن الخروج من أزمته السياسية المتمثلة في الهبوط الحاد لشعبية رئيس الوزراء وارتباك ذلك المجتمع بسبب حسابات معقدة بشأن مَن يذهب ومَن يجيء! وقبيل ظهور ما ظهر من تقرير اللجنة المذكورة، كان من المظاهر الواضحة للانكسار في العجرفة، ما أبداه بعض الساسة الصهاينة من رؤيتهم ما يسمونه عناصر إيجابية في مبادرة السلام العربية، بالرغم من كونهم لم يتوصلوا إلى أي موقف واضح بعد، ولم تبدر بوادر حقيقية لإمكان تحقيق السلام، خاصة أنهم سادرون في غيّهم من اضطهاد الشعب الفلسطيني واغتيال حقوقه وبعض أفراده بالطبع، وفي فرض الحصار والتجويع عليه، والاستمرار في اغتصاب أراضيه والتوسع الاستيطاني على حسابه، في الوقت الذي لا يجد فيه الحليف الأكبر متسعًا من مشاكله الخاصة، لكي يبذل - إن كان في نيته حقًا أن يبذل - جهدًا ملحوظًا في الضغط على حليفه الصهيوني للتوصل إلى حل لأي من المشاكل المعلقة قديمها وحديثها، وظاهر الأمر أن الطابع العام لمجريات الأمور سوف يكون هو المزيد من الصدام العسكري بين الفريقين، كل في حدود مقدرته وإمكاناته!

الوافد الجديد

في وسط زحام المشاكل المذكورة والانكسار الظاهر في العجرفة الإمبريالية، تنتهي الانتخابات الرئاسية الفرنسية، ليؤكد الرئيس الجديد المنتخب، المحسوب على اليمين المحافظ نيته في الوقوف إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية في كل شيء! لكونه معجبًا بأسلوب الحياة الأمريكية (ومن الذي لا تعجبه تلك الحياة إلا فقراء أمريكا، وربما بعض شرائح الطبقة المتوسطة، الغاضبون من إهدار موارد بلادهم الغنية في حروب لا طائل من ورائها إلا الخراب؟!).

على أن ساركوزي قد جاء إلى موقعه عقب أحداث صاخبة، تمثلت في ثورة سكان الضواحي المهمّشين من الجاليات المهاجرة إلى فرنسا أساسًا من مستعمراتها السابقة، احتجاجًا على أوضاعهم المزرية، كان مجيء ساركوزي بمنزلة خط الدفاع الأخير لليمين الفرنسي للذود عن امتيازاته، آملاً أن يكون الارتباط مع اليمين العالمي الإمبريالي طوق نجاة له! ولكن الهجوم الجماهيري الذي بدأ ليلة إعلان نتائج الانتخابات واضطرار قوات الأمن إلى إطلاق الغاز المسيل للدموع على المظاهرات المعارضة لساركوزي في ميدان الباستيل في قلب باريس واعتقال عشرات المتظاهرين في صبيحة اليوم التالي، قد يدل على أن الدور السياسي للمرشحة الخاسرة سيغولين روايال لم ينته بعد، وربما لم يبدأ بعد، وسوف يبدأ في تنظيم صفوف المهمّشين اجتماعيًا لمعارك مقبلة! وفق ما يكون من سياسة ساركوزي المعتذر للمحافظين الأمريكان عمّا بدر من سياسة سلفه في خذلان أمريكا في العراق! ولعلنا نشهد مشهدًا آخر لخائب يلوذ بمن هو أخيب منه!.

أنّي وجدتُ «انيتَ» لاحَ يَهزّني طيفٌ لوجهك رائعُ القسماتِ
ألق «الجبين» أكاد أمسح سطحه! بفمي، وأنِشق عِطرَه بشذاتي
ومنوَّر «الشفتين» كادت فرجةٌ ما بين تسدُ من حسراتي
وبحيثُ كنتُ تساقطَت عن جانبي نظراتُ محترِسين من نظراتي!
نَهب العيون يُثيرها ويزيغها إطراق أشعثَ زائغ اللفتات
متوزِّع الجنبات يَرقُب قادماً! شقٌّ وآخرُ مالَ للطرقات
حسبي. وحسبك شقوةٌ! وعبادةٌ! أن ليس تفرُغُ منك كأسُ! حياتي


محمد مهدي الجواهري

 

عبدالرحمن شاكر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات