الماضي في الحاضر

الماضي في الحاضر

المؤلف: الدكتور فهمي جدعان

وهو يؤكد أنه منذ وضع "أسس التقدم" و" المحنة" و"الطريق إلى المستقبل" وهو ينصاع لكينونته الروحية وللدفعة الحيوية التي تتلبس هذه الكينونة وللشروط الوصفية والإنسانية المشخصة التي تكتنف واقع الأحوال.

ودراسات "الماضي في الحاضر" تشكل صورة بانورامية شاملة للتجربة الفكرية العملية من بداياتها الإسلامية إلى عصرنا الحاضر. وتفصح عن الأسس أو الأصول "المعرفية" التي توسل بهـا الفكر العربي والإسلامي في تجربته التاريخية، في "مجازه" في العالم الحضاري الذي عبره. كما أن هذه الدراسات التي تعزز الاعتقاد بأن التجرية الفكرية العربية كانت على الدوام تجربة متفتحة ومتقدمة. هذا من جهة ومن جهة أخرى وهي الأهم أنها تجيب عن سؤال: ما علاقتنا بالتراث، أو الماضي؟

وهكذا نتبين في القسم الأول من هذه الدراسات-وهو القسم الذي حمل عنوان: "مراكب لكل الفصول" نظرة تاريخية وتحليلية للوجوه الفكرية الأولى للتجربة الثقافية العربية في تمثيلها لظاهرة الوحي وللنص.

وحمل القسم الثاني عنوان "مراكب إغريقية" وفيه تفاصيل انتشار الحضارة العربية كعلوم وأدوات ناجعة في بناء العالم وتشكيله، علميا وماديا وإنسانيا. لقد اتخذت الحضارة العربية، غداة لقائها التراث القديم-واليوناني منه بخاصة- وجها جديدا وقسمات أكثر بروزا ووضوحا وعمقا، وذلك بما مثلته واستوعبته وأعادت إنتاجه وتطويره والتقدم به من فكر فلسفي وعلوم نظرية وعملية وتطبيقية، ربما عبرت عنه من نظرات شاملة في المعرفة والوجود والإنسان والفعل تشي بهـذا الوجه من حضارة العرب والإسلام والعالم.

أما القسم الثالث "مراكب الحداثة" فإنه يضعنا قبالة "نظر في التراث" بقصد تبيان مال التراث الماضي في عالمنا الحديث. والحصاد الذي يمكن أن تجنيه منه بعد انقضاء قرون طويلة على بداياته. فهو يصلنا ببدايات الفكر العربى الحديث الذي جرت العادة على تسميته بفكر "النهضة" ويقف عند فكرة التقدم التي بدت ردا على ما كان ابن خلدون قد ذهب إليه من معتقد درامي في الأفول الحتمي للعمران.

وهذا القسم من الكتاب يفرد للإسلام والغرب والحداثة والمستقبل العربي المكانة المركزية في النظر وفي الاهتمام وفي التفكر. وهي على كل حال أبرز القضايا التي تتصدر واقع الاتصال بالعالم الحديث والتفاعل معه على وجوه غير منقطعة الصلة بالامتداد التاريخي الضارب في متعلقات الماضي.

الأصول المعرفية للفكر العربي

والبحوث والمقالات الواردة في الكتاب تبحث في الأصول المعرفية الابستيمولوجية، التي ارتكز عليها الفكر العربي في تجربته التاريخية الممتدة، وهي في واقع الأمر بضربين: المصادر أو المبادئ. الضرب الأول خارجي أو مفارق، والثاني: أنثروبولوجي في حين أن الأصل المفارق هو الأصل الذي استندت إليه المعرفة "الدينية" في وجوهها النظرية العقيدية وفي وجوهها العملية على حد سواء.

ويقول الدكتور جدعان مواصلا الحديث عن تفسير روابط الظاهرة الإسلامية إنها أسست البدايات، وأسهمت في تشكيل الوسائط والأطراف والنهايات، تستند إلى "الوحي"، إلى "النص". فالنظر أو العقيدة، والعمل أو العبادات والمعاملات والأفعال، ترجع جميعا إلى النصوص الدينية، هي التي تحكم وتؤسس وتوجه وتشكل. والوحي مبدأ "خارج" عن الطبيعة الإنسانية، أما الأنثروبولوجي فيتعلق بطبيعة الإنسان المشخصة، بما هو إنسان "عالم" وبما هو إنسان "صانع". عن الوجه الأول تصدر الأفكار والعلوم والمعتقدات والفلسفات والنظم البشرية. وعن الوجه الثاني تصدر المبدعات الفنية والمصنوعات المادية.

ههنا "العقل" لا الوحي، هو الأصل، بتعبيرآخر ههنا ينضاف العقل إلى الوحي. أو هذا على الأقل هو ما شخصته التجربة الفكرية العربية الإسلامية.

وبهذا يضعنا المؤلف أمام استنتاج مفاده أن "مركب التنزيل" أو الوحي هو المركب الأول الذي قاد هذه التجربة في بداياتها الإسلامية و"مركب العقل" هو الذي قاد هذه التجربة في عصور التشكيل الكبرى التي بلغت ذروتها في تمثل العقل العربي والإسلامي للإنتاج العقلي والعلمي اليوناني القديم. لكن هذا المركب الجديد الذي تمتد جذوره أصلا في "تيار الرأي" المبكر لم يستقل بذاته استقلالا مطلقا، وإنما جعل نفسه معززا ورديفا- وأحيانا مستقلا في حدود لا يتجاوزها إلا لماما- للمركب الأول مركب الوحي. لقد تضافر "النص" و"العقل" ليخطوا بالحضارة العربية والإسلامية خطوات حاسمة وليشكلاها على النحو الذي استقر، وجها بارزا خالدا من وجوه الإنجاز الحضاري الإنساني الشامل.

أما العصور الحديثة، منذ ابن خلدون إلى يومنا الحاضر، فقد أعادت تشكيل "الأصول-المراكب" لتضيف إليها أصلا ثالثا هو مركب التقنية، وهو أصل صادر عن "الإنسان الصانع" لا "الإنسان العالم"، والفصل بينهما في الكينونة الأنثروبولوجية ما هو إلا فصل وهمي مصطنع. وتبدو عظمة الفكر في تساوق المراكب جميعا لتشكيل أدوات الحاضر والمستقبل.

وفصول الكتاب تشكل اتجاهين، الأول: بحوث أكاديمية خالصة، الثاني: مقالات اجتهادية تأسيسية.

وهي إضافة لما سبق تأكيده من تحليلات للتجربة الفكرية العربية، تؤكد أن التجربة الفكرية العربية "حية ومناضلة" حية بمعنى التجدد وعدم تحديد نهـائي لأي شيء فيها، ومناضلة من حيث مكافحتها من أجل الحياة والاستمرار. يقول الدكتور جدعان: "وقد تجسدت هذه الواقعة في التراكم الغني للأفكار والعلوم وفي التنوع الثري في المذاهب والمؤسسات والنظم والمنجزات الفنية والمطبوعات المادية وصانعيها، وفي الانفتاح المستمر على كل المظاهر الحضارية الإنسانية، القديمة والمستحدثة، على حد سواء".

ويقول المؤلف عن المبدأ في معنى إطلاق العنوان الذي تحمله مجموعة الدراسات هذه "الماضي في الحاضر"، إنه "معنى يختلف بكل تأكيد عن المعنى الذي يمكن أن ترد فيه هذه الصيغة إلى مجرد القول إن الماضي هو قوام الحاضر والمستقبل".

وليست هذه المباحث والدراسات والمقالات جديدة كلها، فقد سبق أن أذيع بعضهـا بين الناس منذ زمن غير قريب. لكن أغلبية هذه النصوص- وبعضها حديث العهد تماما- هي مما لم يتيسر وصوله إلى أيدي القراء. وهذا ما يسوغ إعادة نشرها في هذا الكتاب. كما أن المؤلف لم يقم بإجراء تعديلات واضحة على النصوص السابقة إلا في مقالة "نظرية التراث" فاستبدلها بكلمة "نظر" لأنه قدر أن العنوان السابق كان أبعد غورا من المضمون.

والهدف الكامن وراء هذه المباحث كما يقول الدكتور جدعان ليس تحصيل معرفة تاريخية بجملة من القضايا والمسائل التي تتعلق بالماضي وبالحاضر فحسب، وإنما أيضا وبشكل أخص في تعميق استراتيجيات الوعي والتنوير في حياتنا الفكرية والثقافية المعاصرة وفي التوجه إلى المستقبل بقدر أعظم من الحكمة والفاعلية. لقد ظهـرت في أقسام الكتاب الثلاثة وجوه وغابت وجوه، وتقدمت قضايا ومشاكل وانسحبت أخرى، والسبب أن المؤلف لم يقصد التاريخ الشامل بقدر ما كان يضع بحوثا دالة ومختارة لرسم صورة بانورامية من الطبيعي تماما ألا تكون تامة، ويكفي أن تكون دالة.

والدلالات تتمثل في مراجعة التجربة الفكرية العربية والإفصاح عن الأسس والأصول، والبحث في مساراتها، ثم الإجابة عن سؤال: ما العلاقة بالتراث، أو الماضي؟

ونقتطف من الكتاب في الفصل الثالث "هوميروس عند العرب" في تفسير مسائل تتصل بالشعر والمسرح اليونانيين وهو ما كان مجهولا عند العرب بسبب العناصر الميثولوجية والدينية، مع أنهم عرفوا مؤلفات هوميروس الشعرية في أصلها اليوناني معرفة حقيقية كافية. فيقول د. جدعان: "إننا لا نعرف، حتى اللحظة الراهنة، هل نقل الشعر اليوناني إلى اللغة العربية أم لم ينقل؟ والذي يبدو، حتى الآن، أن العرب لم يعرفوا "الإليا ذة" و"الأوديسة" كما أنهم لم يعرفوا الأعمال المسرحية اليونانية، وليس ثمة أي طائل ولا مسوغ وراء أي تقرير سالب تماما يضيع وقت الباحثين وجهودهم في البحث عن أسرار وأسباب هذا الجهل أو ذاك "الغياب" للأدب اليوناني من عالم العرب الكلاسيكي. ومع ذلك كله نقرر دون لبس أو غموض أن العرب قد عرفوا، على الحقيقة، شيئا من أشعار هوميروس. ويمضي في مناقشة المشكلة الأولى والجوهرية التي تدور حول نقل الشعر اليوناني ذاته إلى العربية وهو يعتمد في بحثه على الجانب العربي فقط فيستعرض كتاب "صوان الحكمة" لأبي سليمان المنطقي السجستاني، وهو كتاب مازال حتى الآن مفقودا، غير أن مؤلفا مجهولا معاصرا للسهروردي المقتول عام 586 هـ قد صنف منه منتجا متوافرا الآن في مخطوطات عدة.

الفلسفة من مصادرها

وهو يستعرض جوانب من المذاهب العلمية والفلسفية اليونانية التي استقاها من مصادرها الأصلية أو من الشذرات التي نقلت من أدب وشعر اليونان. ونص السجستاني هو أغنى النصوص العربية من حيث الدلالة على هوميروس. إذ كانت الإشارات الهوميرية في المؤلفات العربية القديمة نادرة جدا.

وفي مقال آخر بعنوان "داعي المشاكلة في نظرية الحب عند العرب" يستعرض المؤلف معنى وأنماط الحب وبيان أصولها. و"داعي المشاكلة" تفسيره- نظرية الاتصال التي تقوم على مستوى المبادلة أو المساواة في الحب.

ويعرض الدكتور جدعان لتفسيرات ابن القيم الجوزية وابن حزم الأندلسي ولسان الدين بن الخطيب والأصمعي وابن عرفة وغيرهم. كما أنه يقر بصعوبة ضبط المصطلحات وبيان تدرجها ومراتبها بشكل دقيق في موضوع الحب. ونصادف في كل مكان أقوال الحكماء: "الأضداد لا تتفق والأشكال لا تفترق" و"على قدر تشاكل الأجناس تتألف قلوب الناس، وأقربها مشاكلة أحسنها مواصلة وأكثرها تناولا أطولها تهاجرا" ويكرر الكثيرون بيت المتنبي:

وشبه الشيء منجذب إليه

وأشبهنا بدنيانا الطغام

 

توفيق أبوبكر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الكتاب