هو .... هي

كنت أريده مهندساً

أعرف تماما أن لكل إنسان ميوله الطبيعية ، لكني لست مقتنعة بهذا الاتجاه الذي ينوي أحمد ابني الإقدام عليه.

حاولت مرات عديدة أن أثنيه عن دراسة الفلسفة، كما حاولت أن أقنعه بأن يتجه إلى دراسة علم آخر يساعده على أن شق طريقه العملي بيسر وسهولة، لكنه رفض ومازال يرفض ويتمسك باختياره الأول والوحيد، يريد كما يؤكد ويقول دائما أن يتبحر في علم الفكر والمعرفة الأول.

المقارنة التي أراها تستحق إعادة النظر هي أن ابنتي ليلى تتفوق دائما في العلوم الطبيعية، الأحياء والطبيعة والكيمياء، لا تجد ليلى أية صعوبة في فهم واستيعاب هذه العلوم، تحصل دائما على الدرجات النهائية فيها.

أما أحمد أبني الوحيد ، فإنه يتفوق في العلوم الإجتماعية، يعشق دراسة التاريخ والجغرافيا والمنطق والفلسفة وعلم الاجتماع، يحصل دائما على أعلى الدرجات فيها.

أتعجب لاختلاف ميولهما بالرغم من أنهما أشقاء من أم واحدة واب واحد، كما أتعجب لماذا لم يكونا العكس، لماذا لم يمتلك أحمد تلك الميول إلى العلوم الطبيعية ولم تمتلك ليلى تلك الميول إلى العلوم الاجتماعية؟ ، ألم يكن ذلك من الأفضل؟

ألم يكن من الملائم أن يدرس أحمد الطب وتدرس ليلى الفلسفة، أليست العلوم الاجتماعية أقرب إلى طبيعة الإناث؟

وفي حالة قبولي لميول هذه الابنة، ألم يكن من الأفضل أن يدرس أحمد الهندسة لتقل هذه الفروق وتتلاشى هذه المفارقة، ربما كانت الأمور أكثر طبيعية أن تكون ليلى طبيبة وأن يكون أحمد مهندساً.

قال زوجي في أثناء مناقشاتنا إنه لا يمانع في دراسة أحمد للفلسفة ، شرح لي أنها تنضج عقل الإنسان وتتقدم بوعيه نحو الإنسانية والحياة كلها.

في البداية أقتنع بمنطق زوجي، لكني أعود مرة أخرى وأتساءل عن صلاحية هذه الدراسة للذكور، وهل ستساعد أحمد على شق حياته العملية، أم أنها ستقوده إلى أن يكون مدرس فلسفة فقط. كررت الأسئلة عشرات المرات على زوجي وعلى ابني وعلى ابنتي حتى أجتهدت وأجهدتهم معي.

أكد لي أحمد أن تدريس الفلسفة مهنة عظيمة لأنها تنقل العلم والمعرفة الإنسانية من الكتب إلى عقول التلاميذ، لكني أتصور دائما هذه المهنة كشيء مرتبط بالإناث وليس بالذكور.

يستعد أحمد الآن للتخصص ، سينضم إلى القسم الأدبي الثانوي، بذلك سيضع اختياره في التطبيق، أعرف أنه سينجح كما أعرف أنه سيتفوق، لكني مازلت غير مقتنعة ، حاولت إعادة الموضوع إلى المناقشة، طلب مني زوجي السكوت وقبول الأمر الواقع، أمس سمعت زوجي ينادي على ليلى وأحمد، قال " يا دكتورة ليلى.. يا حضرة الفيلسوف.. تعاليا، أريد التحدث معكما"

... هي

لا مانع .. أن يكون فيلسوفاً

استحوز هذا الموضوع على مساحة واسعة من مناقشتنا في المنزل.

جلسنا نحن الأربعة لساعات في كل يوم ولأيام في كل أسبوع نقلبه يميناً ويسارا حتى باتت إثارته مملة ومكررة.

لا أكاد ألحظ زوجتي تحاول إعادته مرة أخرى حتى أطلب منها السكوت والامتثال للأمر الواقع.

الموضوع بسيط للغاية. رزقت بثلاثة أبناء ، ابنة كبرى ثم ابن والثالثة ابنة، ليلى وأحمد ومنى، أكتفينا، زوجتي وأنا بهم ولم نفكر في أنجاب الطفل الرابع.

عندما أنهت ليلى المرحلة الإعدادية وتقدمت إلى المرحلة الثانوية، أبلغتنا أنها قررت الاتجاه إلى القسم العلمي الثانوي، تعشق ليلى علوم الأحياء والطبيعة والكيمياء.

تقول ليلى دائما إنها ستلتحق بكلية الطب بعد أن تنهي المرحلة الثانوية، وعادة ما نناديها في المنزل بالدكتورة ليلى. عندما نستيقظ في الصباح نتوجه إليها قائلين" صباح الخير يا دكتورة" وقبل ذهابها إلى النوم نتوجه إليها قائلين" تصبحين على خير يا دكتورة".

اشتهرت ليلى وسط الأصدقاء والأقارب بأنها الدكتورة ليلى، حتى زميلاتها في المدرسة ينادونها بالدكتورة، فمنذ الصغر وقبل أن يبرز تفوقها في المواد العلمية كانت تقول دائما إنها ستكون دكتورة تعالج المرضى وتشفيهم، حصلت ليلى على كل التشجيع منا ولم نبخل عليها بأي جهد، فهي على كل حال تستحق جهدنا وتقديرنا لأنها مجتهدة للغاية.

تستعد ليلى الآن لإتمام المرحة الثانوية، ولا نشك لحظة في أنها ستحقق طموحها وتلتحق بكلية الطب.

إلى هذا الحد والموضوع عادي.

لكن الذي جعله يتحول إلى موضوع غير عادي ويدفع به إلى أن يتحول إلى محور للمناقشات العائلية، هو ما أقدم عليه ابننا أحمد، فعندما أنهى المرحلة الإعدادية وبدأ الاستعداد للمرحلة الثانوية، أخبرنا أنه ينوي الالتحاق بالقسم الأدبي. قال بالنص " سوف أتخصص في القسم الأدبي لأني أنوي دراسة الفلسفة" .

منذ هذه اللحظة والموضوع لا يتوقف عن أن يكون صلب نقاش.

لا تستطيع زوجتي الاقتناع بأن لكل إنسان ميوله العلمية ، وأن كون ليلى فتاة فلا يمنعها ذلك من التفوق في الناحية العلمية ، ثم كون أحمد فتى فهذا في حد ذاته ليس عائقا من أن يميل بحكم الطبيعة إلى الدراسة الأدبية.

تقول زوجتي بكل بساطة إنها لا تتصور ليلى طبيبة في الوقت الذي يصبح فيه أحمد مدرس فلسفة، وتضيف أنها تتصور دائما العكس، ترى أن يكون أحمد الطبيب ، وأن تكون ليلى مدرسة الفلسفة. حاولت إقناعها بأهمية ن تترك لكل منهما حرية الاختيار والقرار إلا أنها ترفض ذلك بكل إصرار، قلت لها " ألا يمكن أن يكون ابننا أحمد فيلسوفا كسقراط وهيجل وكانط " سألت بدهشة " ماذا تقول"؟