بن رشد وأصالة الدليل العقلي

ابن رشد وأصالة الدليل العقلي

بمزيد من الاهتمام، طالعنا العدد (575) أكتوبر 2006، الذي يحتوي على دراسة بعنوان «ابن رشد فيلسوف العقل والاستنارة» للدكتور عاطف العراقي. والحق أن الباحث قد نافح عن هذا العالم المسلم العربي، وأجاد وهو جهد منه فضيل والشكر له في ذلك جزيل. ووجدتني وأنا أتصفّح هذا البحث، أقف على بعض الملاحظات أحببت أن أبيّنها لقرّاء «العربي» على سبيل الإيضاح وإتمام الفائدة.

من بديهيات البحث العلمي - التي يراد لها أن تكون موضوعية - تسمية الباحث فيها الأشياء بمسمياتها، وتوجيه النقد إلى ما يراه مخالفًا لرأيه العلمي بعد البحث والتحقيق. أما إطلاق المعنى ليبدو مجملاً من دون الإشارة إلى موضوع البحث الخاص، فإن ذلك سوف يؤدي إلى تسطيح المعنى المراد بيانه، الأمر الذي ينتج عنه ضياع جزئيات الحقيقة، بل يبدو الأمر هلاميًا وغير واضح الحدود والقسمات.

إن القارئ العربي الذي يقرأ مقالة الباحث في من ظلموا فيلسوفنا - ابن رشد - الذين نعتهم بـ«جيوش الظلام والجهل والتقليد وأشباه المثقفين من متخلفي العقل»، وحصرهم في موضع آخر بـ «العرب» أقول يتبادر إلى ذهن القارئ أن هناك تنافرًا وتضادًا بين الفكر الذي يدعو إليه «ابن رشد» والفكر العربي والإسلامي بكل مذاهبه وتوجهاته. ومن هنا أدعو إلى التخصيص دون الإجمال وذكر الأشياء بمسمياتها.

لقد أنعم الله تعالى على البشرية برسالة الخاتم - صلى الله عليه وسلم - وأنهى به وحي السماء لمن في الأرض، ومنذ ذلك الحين ومراحل تطور الفكر الإنساني تندرج في مسالك ورؤى الفكر الإسلامي، بل أضحى هذا الفكر دليلاً ومنهجًا للقسم الأعظم من الفلسفات الحية، بل حتى تلك التي سبقت فترة التنوير التي يشير إليها الباحث في دراسته. وما ابن مصارة وابن حزم وابن باجة والميموني وابن رشد وابن الطفيل إلا ثمرة من ثمرات هذا الفكر الخلاق.

إن حَمَلة الفكر الإسلامي إلى العالم - وأعني العرب - لم يقفوا يومًا موقف الضد من الرؤى والأفكار الإنسانية الأخرى، بل انفتحوا على العالم انفتاح مَن استبصر بأمر نفسه، وعرف الغاية من وجوده، ولو كان لدى العرب أدنى تعصب لما عاش بحماهم وبين ظهرانيهم اليهود والنصارى والصابئة وغيرهم، والكل يعلم المواقف المتباينة لهذه الثقافات بالنسبة إلى نظريات المعرفة وغيرها.

إن الذين ظلموا فكر - ابن رشد - هم مَن ينالهم القسم الأكبر من الإطراء والذين يصفهم الباحث بـ «مفكري أوربا»، وإليك يا سيدي الدليل:

كلنا يعرف دانتي، ذلك المفكر الذي وضع فيلسوفنا «في مكان محترم من الجحيم مع أفلاطون وأرسطو وإقليدس وابن سينا» دانتي- الكوميديا الإلهية- الجحيم- النشيد الخامس- ص144.

ولعل ما جاء في كتاب «موجز السياسة الإسلامية» المنشور في باريس عام 1925م، الذي يعبّر عن نفي أي ثقافة للعرب والمسلمين، ونفي أي تأثير لهم في الفكر الإنساني خير دليل على تهميش دور فلاسفة العرب والمسلمين من قبل أولئك المفكرين - ومنهم ابن رشد - بالتأكيد إذ يقول: «العلم العربي الميت، والمنسوخ نهائيًا، مكون من تقميشات - منتخبات - لكتّاب إغريق حررها يهود في القرون الوسطى» - نشر بوسار ص54. وهو يعني شروحات ابن رشد لأرسطو.

وفي مقدمة رينان لأطروحته حول - ابن رشد - عام 1825م، يقول: «لم تكن الفلسفة عند الساميين سوى استعارة خارجية وبلا أي خصب، ولم تكن سوى تقليد للفلسفة الإغريقية»، نشر كالمان ليفي باريس 1952- ص8. وهو يعني الشروحات السابقة نفسها.

فلم تكن أوربا - وإلى عهد قريب - تعرف عن ابن رشد إلا كونه شارحًا لأرسطو. هؤلاء هم مَن هاجموا ابن رشد ونكلوا بنتاجه العلمي وليس غيرهم.

أما ما ذكره الباحث في كونه ظلمًا لحق بفيلسوفنا، فلا يعدو أن يكون خلافًا فقهيًا بين مدرستين فكريتين وهو أمر وارد في عرف الفقهاء حتى قال قائلهم: «الاختلاف مدار الاجتهاد» ومن المعلوم عند كل متتبع أن فيلسوفنا فقيه وقاضٍ وطبيبٍ كذلك. إلا أنه كان أكثر انفتاحًا ولديه اجتهاده وطريقته الخاصة في التعامل مع النصوص ومصادر التشريع. والمعروف عنه أنه كان يرجع إلى غير المذهب الفقهي السائد في بلاد الأندلس «وأنه لا يبدي تعلقًا خاصًا بتقليد المدينة المنورة»، برونشفيج - دراسات في ذكرى ليفي بروفانسال- نشر ميزنيف ولاروس- باريس 1962م. ويعني المذهب الفقهي الذي نشأ في المدينة المنورة. يقول روجيه جارودي: «فمن المؤكد - إذن - ألا تكون هناك اختلافات طفيفة، بل بعدًا عميقًا إزاء الفقهاء المالكيين الآخرين وحصريتهم الدينية». الإسلام والغرب- ص121.

فمحور الخلاف بين «ابن رشد» والآخرين هو تزمتهم الشديد في التمسك بأحكام السلف، وانفتاحه هو على العقل في حركته من خلال الاجتهاد والقراءة المستنيرة للنصوص.

وهكذا، فإن ابن رشد لم يكن كافرًا كما أرادت القرون الوسطى المسيحية أن تصوّره ولا منكرًا لتنزيه الله كما يتهمه - رينان - بل كان مسلمًا يجد ويجتهد بعيدًا عن حرفية الفقهاء وطقسيتهم المتعصبة، وهذا يعني أنه كان عالمًا مجتهدًا وفق المقاييس المعروفة حاليًا للاجتهاد الفقهي، والذي كان بحد ذاته أمرًا محظورًا في ذلك الوقت، بل هو بذلك ألب عليه الفقهاء والمقربين من الملك.

إذن القصور ليس في جوهر الفكر الإسلامي أو - العربي - بل في تطبيقاته الواقعية، التي تخضع لآراء المتصدين لحركة ذلك الفكر في واقعه. على أن الفكر الإسلامي لم يكن يومًا في الضد من الانفتاح الفكري والتفكّر العقلي، بل على العكس، فقد شجع الإسلام على إجالة الفكر والنظر بمختلف المواضيع شرط عدم الغلو والسفسطة في تأويل الأشياء مما يخرج الموضوع من مدار فائدته ومقتضيات العقل.

والآيات القرآنية تزخر بهذا المعنى، حيث يتردد قوله تعالى وفي آيات عدة إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون، إن في ذلك لآيات لقومٍ يتفكرون ، وفي نداءات الكتاب نسمع يا أولي الألباب بكثرة. وهذه دعوات صريحة لتفعيل العقل في حركة الحياة، حتى عد بعض حكماء الأدلة العقلية نوعين من أساليب إشغال العقل في الكتاب أسموا أحدهما بـ«الدليل الأنفسي»، والآخر بـ«الدليل الآفاقي» لقوله تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ، وكذلك فإن ما روي عن السلف الصالح من الأحاديث بخصوص إعمال العقل في مختلف الأحكام والمواضيع، مما لا يمكن إحصاؤه.. ورد عن علي - رضي الله عنه - قوله: «لا تسترشد إلى الحزم بغير دليل العقل فتخطئ منهاج الرأي . فإن أفضل العقل معرفة الحق بنفسه وأفضل العلم وقوف الرجل عند علمه».

وأما مايخص اجتهاد ابن رشد في التأويل وفقًا لمقتضيات الأدلة العقلية فلم يكن من مبتكراته - رحمه الله - بل إن تلك النزعة لتأويل النص الديني أصيلة في فلسفة الأحكام الشرعية عندنا ولم يكن له دور في زمانه إلا إثارة هذا الاتجاه في فهم النصوص لما وجده من تزمّت وتعصب في فهم الفقهاء للنص فهمًا ظاهريًا حرفيًا يكاد يوقعهم في نحو من الجمود، وعدم التعمق في صيرورتها المقالية والحالية والموضوعية. ولذا نراه يشير إلى شيء من ذلك في كتابه «فصل المقال»، فيقول «إذا كان المعنى الظاهر للكتاب - كتاب الله - يتعارض مع النتائج المستخلصة من البرهان أو الاستنباط وجب علينا تفسيره تفسيرًا مجازيًا أي أن نحل رموزه»، فصل المقال- الفصل الثاني- الفقرة 9. اللجنة الدولية لترجمة الكتب الجليلة- بيروت 1961م.

لقد أعطى الفكر الإسلامي الحق للإنسان في إشغال عقله في الاستنتاج والاستنباط والتأويل من دون إفراط وسفسطة «إذ يستحيل أن يكون الدافع إلى وجوب المعرفة هو النقل دون العقل وأن النقل قبل المعرفة لا حجية فيه أصلا، فكيف يكون دافعًا موجبًا للمعرفة؟»، بداية المعرفة - حسن مكي العاملي - ص 95.

ولا أريد الإسهاب في إثبات حجية العقل وأهليته في استنباط الأدلة الحكمية والموضوعية وفق شروط الاستنباط المعمول بها في الفكر الإسلامي حتى أتفادى الإطالة وأكتفي بمجرد الإشارة إلى هذا المعنى. ولكم جزيل الشكر والتقدير.

حسين عبدالجواد موسى
الجيزة - مصر