الوادي المقدس من هداية النفس إلى هداية الأمم

الوادي المقدس من هداية النفس إلى هداية الأمم

الدكتور محمد كامل حسين علم كبير في الثقافة المصرية والعربية، قرّاؤه كثيرون، لكن في صمت، ونقّاده قليلون على غير عادة النقاد دائمًا.

ولد عام 1901وتوفي عام 1977، وأمضى حياته مشتغلاً بتدريس الطب، وكان أول طبيب مصري ينال ماجستير جراحة العظام من جامعة ليفربول، وأنشأ في مصر قسم جراحة العظام الذي يعد رائده الكبير. أنشأ مستشفى الهلال الأحمر في مصر وعيّنه طه حسين أول مدير لجامعة إبراهيم باشا -عيّن شمس الآن - وكانت ميوله الفكرية والفلسفية والأدبية وراء دخوله مجمع اللغة العربية، وألّف كتابًا جميلاً هو «اللغة العربية المعاصرة»، كما كتب «الشعر العربي والذوق المعاصر»، في محاولة أن يسهل مهمة تذوّق الشعر عند المثقفين. وكان مع التجديد في الشعر، وأقرب إلى المدرسة النفسية أو العاطفية التي ترى أن الشعر مرآة لشخصية الشاعر، أي قريبًا من مدرسة «الديوان». وللعقاد محاولة تطبيقية شهيرة لآراء هذه المدرسة تمثلت في كتاب «ابن الرومي حياته من شعره»، وأيا كان الرأي في هذه المدرسة، فلقد كانت يومًا فرس الرهان في تجديد الشعر. ولمحمد كامل حسين كتب أخرى مهمة في العلوم والفلسفة، أخص منها «وحدة المعرفة» الذي لا يبتعد فيه كثيرًا عن تقسيم أفلاطون للمعارف، ففي القاعدة العلوم الطبيعية، وفي القمة العلوم الإنسانية، التي تصل في النهاية إلى المعرفة بالله. هو كتاب أحبه، قرأته في سن مبكرة، كما قرأت له في سن مبكرة أيضًا روايته الفذة «قرية ظالمة»، وهي روايته الوحيدة، التي تدور كلها في يوم واحد، هو يوم الجمعة، اليوم الذي تقرر فيه صلب المسيح في أورشليم، وما جرى عند اليهود، وعند الحواريين وعند الرومان، وهو أكثر الأيام ظلمًا في تاريخ البشرية. لم أقرأ لمحمد كامل حسين أكثر مما أوردت مع أن له مؤلفات أخرى، فله مجموعة قصص قصيرة بعنوان «قوم لا يتطهرون» قرأت بعضها ورأيت أنها قصص أخلاقية لا تهتم كثيرًا ببنية القصة أكثر مما تهتم بالغاية الأخلاقية، وظللت لسنوات أرى بين حين وآخر كتابه «الوادي المقدس» في بعض المكتبات، تهفو نفسي إلى قراءته، ثم تشغلني عنه كتب أخرى، حتى وجدت أنني في هذه الأيام بحاجة إلى أن أقرأ شيئًا لهذا المفكر والأديب الكبير محاولاً استعادة شيء من حلاوة لغته، التي فتنتني كثيرًا أيام الشباب، وكنت أعرف أن الكتاب رؤية فلسفية للدين والعلم والفن، لكن المعارك الفكرية القائمة منذ سنوات بلا معنى - اللهم إلا أهداف سياسية - جعلتني دائمًا أجفل من القراءة في هذه الموضوعات، لأني - ببساطة - أرى أن المعارك الدائرة بين المحافظين والمجددين في الفكر الديني بالذات، تبدو قد زادت على الحد، فالمحافظون يستعينون على أي محاولة لإعمال العقل، بالنقل، ولا يتصورون أبدًا أنه حتى في القرآن الكريم يمكن تعدد التفسيرات باستثناء الأركان الخمسة للإسلام، ويستعينون إلى جانب النقل بشروح الفقهاء في التراث، ويعطون هذه الشروح صفة القداسة، التي لا تليق إلا بالله عز وجل. لقد وصلت منذ زمن إلى فكرة أن كل هذه المعارك حول الفكر الديني، والتراث والتجديد، والهوية، والآخر، والنهضة، وغيرها معارك معادة، ولقد تم حسمها منذ أزمان في بلد مثل مصر، وإعادتها الآن على هذا النحو العجيب هو خراب للناس والأوطان، لأن أحدًا مهما أوتي من سلطة وسلطان، لن يوقف عجلة التغيير، وكل ما صنعه الأسلاف من البشر ونراه مقدسًا هو يخص هؤلاء الأسلاف وبيئاتهم، كما أن ما نصنعه نحن من أفكار الآن لن يخص أحدًا في ما بعد!

اقتنيت كتاب «الوادي المقدس»، وبدأت أقرأ فيه، فلم أستطع أن أتركه. كان السؤال الذي شغلني دائمًا أثناء القراءة: لماذا حقًا تجاهل الجميع هذا الكتاب، والجميع هنا هم مَن يقدّسون التراث ومن يسعون إلى التغيير، ممن يرفعون راية السلف في الفهم الديني، ومَن يحاولون التجديد في الفكر الديني. هل لأن الرجل مات، أم لأنه مات قبل أن تمتلئ الأرض العربية وسماؤها بهذه المعارك التي بددت كثيرا من الوقت والمال والأرواح؟ أغلب الظن لأن الرجل مات قبل أن تشتجر هذه المعارك، فليس مقصودًا أبدًا هذا الإهمال، وأغلب الظن أن قراءة هذا المفكر الكبير تغري بالاقتناع ولا أحد يريد أن يقتنع.

الوادي المقدس

ليس هناك واد بعينه يقصده الناس، إنما هناك واد مقدس لكل شخص، يعرّفه محمد كامل حسين قائلاً: «هو البقعة من الأرض، وهو القطعة من الزمن، وهو الحالة النفسية التي تسمو فيها فوق طبيعتك وطبيعة الأشياء، فوق ضرورات الحياة، بل فوق حدود العقل»، هو إذن مرتبة من مراتب الصوفية كما قد يبدو من ظاهر الكلام، لكن صاحب التفسير النفسي للدين، يجعل من الوادي المقدس حالة إنسانية يمكن أن يشترك فيها الناس جميعًا، فهو الوادي المقدس، حيث آمالك كلها خير، وأحلامك كلها جميلة، لا يقع الشر منك ولا يقع عليك، حيث تكون الطبيعة وجسمك وعقلك ونفسك متوافقة توافقًا موسيقيًا تكتمل به السعادة الإنسانية.

ثم يستمر في شرح فكرته، الوادي المقدس مملكة السماء، الجنة، أمور ثابتة في النفس الإنسانية أصولها الإيمان والخير والحكمة، وميادينها الدين والحب والعلم.

ولكن هل بلوغ هذه الغاية سهل، سهل إذا أراد الإنسان، أما إذا ضعف وترك نفسه لما حوله فسيفقد الراحة النفسية والبدنية «ففي النظام القائم بين الناس مرتفعات وسهول ووديان، وفوق المرتفعات أقزام هم دونك قدرًا، وأقل منك علمًا وحكمة وخلقًا، لكنهم يتحكمون في أمور حياتك بقوة ارتفاعهم عنك، فهم أعلى منك، وإن لم يكونوا أطول قامة ولا أعظم نفسًا، وفي الوديان قوم يرونك، فهم بمنزلة أهل المرتفعات منك».

أما في الوادي المقدس، فلا يتفاضل الناس إلا بقدر ما فيهم من خير، فيسمو المظلوم فوق الظالم، والظالم لا يستطيع أن يستمتع بأمن الوادي المقدس مادام ظالمًا.

الوادي المقدس إذن حالة يمكن أن يبلغها الإنسان فيستريح بها على شقاء الحياة، لكن حتى يبلغها عليه أن يتطهر، بالرياضة النفسية على اجتناب الخطأ والخطايا. والتطهر ليس حالة ثانوية في الإنسان، بل هو الأصل، وهو طبيعة في الإنسان وعنوان إنسانيته، على أن هذا لا يعني أن يشعر الإنسان باليأس إذا لم يستطع أن يتغلب على كل ما فيه من ضعف أمام نفسه أو الحياة من حوله، فالخير يقاس بما تبذله من جهد في هذا السبيل، وإن لم تبلغ الغاية التي تطمح إليها.

نحن هنا إزاء اعتراف بتفاوت القدرة البشرية، وأفق أوسع لفهم الإنسان، وليس اختزاله في شيء واحد، ويستمر محمد كامل حسين محللا الطبيعة البشرية، فيحدد الشر باعتباره فسادًا في العلاقات بين الناس، فالشر ليس من طبع الإنسان. ما رأيك في  الذين يعتبرون الإنسان شرًا كله، جُبل على الشر، معبأ بالغرائز الجنسية، فملأوا حياتنا بالتحريم كأنه ليس لنا من عمل إلا ارتكاب الخطايا. انظر إليه وهو يتكلم عن التطهر، فيقول إن الطهر لا يفسده بعض الشر حين تعمله عرضًا أو مرغًما، فكما يكون من الحجارة ما هو ضعيف أو معوج ويكون البناء قويا كذلك قد ترتكب في حال الغضب أو الشدة ما لا ترضى عنه نفسك ثم تكون حياتك في آخر الأمر جميلة طيبة إذا كان قوامها التطهر.

ثم يصل الغاية في معنى الحياة الطيبة الصادقة بأنها هي التي تقوم على السلم. السلم بينك وبين نفسك ويحققه الإيمان، وبينك وبين الأقربين ويحققه الحب، وبينك وبين العالمين ويحققه الخير. ويستفيض في شرح كل حالة على حدة، لتجد أن التسامح يرفرف عليها جميعًا، ويقول بشجاعة إنه كان جديرًا بالأديان الكبرى ألا تختلف اختلافًا كبيرًا، فكلها تصدر عن أصل واحد هو الإيمان بالغيب وتؤدي إلى غاية واحدة هي بلوغ الوادي المقدس، لكنها اختلفت وظن أهل كل دين أنهم وحدهم على حق،  والواقع أن أمور العقيدة ليس فيها حق وباطل، فكل ما تؤمن به إيمانًا قويًا فعالاً مطهرًا يبلغ بك الوادي المقدس هو الحق بالنسبة إليك. إذن فيم الاختلاف بين أهل الأديان. هو اختلاف في التركيب السيكولوجي للناس. فإذا كنت ممن يدفعهم إلى الخير خوفهم من الله وخشيتهم من عدله حين يبطش بالظالمين والخاطئين فأنت موسوي العقيدة مهما يكن الدين الذي تدين به، وإن كنت تشعر في نفسك أن الذي يدعوك إلى الخير حبك لله والناس الذين يحبهم الله فأنت عيسوي مهما يكن الدين الذي تدين به، وإذا كان الذي يدفعك إلى الخير أملك في الله والرغبة في الجزاء الأوفى والنعيم المقيم، فأنت إسلامي مهما يكن الدين الذي تدين به.

ما رأي السادة الذين يملأون الدنيا بالمؤتمرات عن التقريب بين المذاهب والأديان؟ هل رأيت تبسيطًا للأديان الثلاثة الكبرى أكثر من هذا. ثم يوضح المسألة أكثر فيقول: إن من المسيحيين من هم موسويون يؤكدون الخوف من الله وأن عليهم أن يطهروا الناس بالقوة ولو بالقتل والتعذيب، ومن المسلمين من هم موسويون بطبعهم كالخوارج الذين كانوا يؤمنون بالعدل مهما يكن في تحقيقه من قسوة، يطيعون أوامر الله كما يفهمونها ولو خالفت روح الدين مخالفة واضحة. ما رأيك في ما يفعله المتطرفون في بلادنا هذه الأيام؟

الدين والعلم والجمال

وفي فصل ممتع وكبير يتحدث عن الهوى والضلال حتى يصل إلى الدين والعلم والجمال، فيؤكد أن الخلاف ليس أبدًا بين الدين وحب الجمال والعلم ولكنه بين المتدينين وعشاق الجمال والذين يعملون. وأصل الخلاف ما يظنه أكثر الناس من أن الإخلاص لأمر منها يحول دون الإخلاص للأمر الآخر، والواقع أنها أمور متكاملة، لكل منها موضع في النفس الكاملة، وهي النفس المتطهرة الراضية فلا يضير الدين شيئًا أن يترك للجمال أن يعمل في النفس عمله الطبيعي وهو السرور الذي لا تستقيم النفوس حقًا إذا حرمته، - وما رأي الذين يريدون تحريم كل الفنون ؟ - ثم إنه لا يضير الدين شيئًا أن يترك للعقل تحقيق المعرفة وهي ميدانه الطبيعي - ما رأي الذين يدعون للانصراف عن الدنيا والعلوم العصرية ولا يريدون علومًا إلا علوم الدين ولا يرون في الدنيا إلا الآخرة؟ - والمعرفة عنده لا تغني عن الجمال في تحقيق السرور، ولا تغني عن الدين في  تحقيق الهداية، وحب الجمال لا يغني بدوره عن الدين في هدايته للناس.

والجمال الحسي في جوهره تنظيم لما هو كائن في الطبيعة على غير نظام، فالرقص تنظيم للحركة، والموسيقي تنظيم للزمن، والتصوير تنظيم للألوان، وهكذا.

والجمال المعنوي تنظيم لأمور معنوية، من ذلك الإيمان فهو تنظيم للأمور الغيبية، ولن تجد شيئًا جميلاً تطرب له النفس إلا أن يكون منظمًا على نحو ما. وعلى ذلك، فالتشابه كبير بين الجمال الحسي والجمال المعنوي، لكن الجمال الحسي أقرب إلى الطبيعة والسرور به أيسر على الناس، والذين يحرمونه ولا يستعيضون عنه بقدر من الجمال المعنوي يشقون كثيرًا. ثم يستمر في تفسير الخطأ في اعتبار حب الجمال أصل الضلال عند المتشددين، فعشاق الجمال بهم من الحس المرهف ما يجنبهم كثيرًا من السوء والقسوة وإيذاء الناس. والمتشددون يسرفون في سوء ظنهم بالعلم، والواقع أنه أحرى بالمتشددين استعارة مذاهب أهل العلم في البحث حتى عن الأمور الغيبية. فالدراسة للنفس الإنسانية تؤدي بنا إلى إقامة الحقائق الدينية والخلقية، فمن المهام التي يجب أن يضطلع بها العصر الحديث أن يثبت الأصل السيكولوجي للدين. فهذه أيسر السبل للفهم والإقناع وأقواها أيضًا في الثبات.

الكتاب يستمر ليؤكد الأصل الفسيولوجي للأخلاق وأثر الحرمان في كثير من المشكلات الاجتماعية والنفسية، وفي النهاية، بعد رحلة من التأمل بالغ الصدق والتأثير يقول إن غياب حرية الفكر هي أكبر عوامل الحرمان، فالقليل منه يكفي لصحة الجماعات، وحرية الفكر من الأمور التي لا تستطيع أي أمة أن تستعيض عنها بغيرها من الأمور، فالقوة والغنى والفتوحات لا تمنع الدولة من الانحطاط إذا لم يكن فيها القدر الكافي من حرية الفكر. فكثير من الدول القديمة زالت بعد أن حققت فتوحات كبيرة، ثم ركنت إلى الاستبداد فاضمحلت وبادت.

«الوادي المقدس» ليس كتابًا للنفس المطمئنة فقط، لكنه كتاب للأمم والشعوب، قراءته دينية خالصة يمكن أن تغير من تفكير الكثيرين، من المتزمتين ومن المجددين أيضًا. إنه كتاب صدر منذ ثلاثين سنة، كأنما كان يستكشف ما سيحدث فيها من معارك يتجنى فيها كثير من المتشددين على العلم والفنون، وعلى أهل الديانات الأخرى. إنه كتاب هداية لكل الناس والأمم والشعوب على اختلاف الملل، بقدر ما سرني أيقظني على السؤال: لماذا حقًا لم يصل كثيرون من الذين يملأون حياتنا بالغضب إلى ما وصل إليه محمد كامل حسين؟ ليست لهم نفس نفسه وواديها المقدس؟ ربما.

جَدِّدي ريحَ الصبَا عهد الصِبا وأعيدي فالأحاديثُ شُجونُ
إن أباحتْ لكِ أربابُ الهَوى سِرَّه فالحكمُ عندي أن يصونوا
جدِّدي عهدَ أمانيه التي قُرِنَ العيشُ بِها نِعمَ القرينُ
يومَ كنّا والهوى غضٌّ وما فُتِحَتْ إلاّ على الطُهْر العُيونُ
ما عَلِمنا كيفَ كُنّا، وكذا دينُ أهلِ الحبِّ والحبُّ جُنونُ


محمد مهدي الجواهري

 

إبراهيم عبدالمجيد