اللغة حياة

اللغة حياة

اللغة والقانون

لمستعملي اللغة العربيّة بعض العذر حين يكتبون في العلوم الحديثة فتخذلهم العبارات والمصطلحات، ويقاربون العُجمة، ويبتعدون من الصيغ العربيّة الفصيحة؛ وذلك لتخلّف العرب الواضح في ذلك الميدان، حتّى إنّ ما ينقلونه إلى لغتهم قد يأتي متأخّراً عشر سنوات أو أكثر عن تاريخ ظهوره في الدول المتقدّمة، وربّما بدا خارج التاريخ العلميّ. لكن أن تُعييهم اللغة القانونيّة، مثلاً، فلا عذر لهم في ذلك؛ لأنّ للعرب تاريخاً عريقاً في هذا المجال، منذ أن بدأ علم الفقه الإسلاميّ وما يتّصل به، حتّى اليوم، وبدا بعض الفقهاء العرب، كأبي حنيفة، مصادر لشروح اللغويين أحيانًا.

فلا غرو أن تصيبنا الدهشة ونحن نقرأ نصوصاً قانونيّة عربيّة تغلب العُجمة عليها، وأن نردّ الأمر إلى الأخذ من مصادر أجنبيّة، مع الافتقار إلى الزاد اللغويّ العربيّ الذي ييسّر نقل العلم في صيغ عربيّة سليمة، وعلى شيء من الفصاحة؛ أو مع الافتقار إلى الوقت الذي يسمح بتنقيح المنقول أو المقتبس. وهنا يحضرنا المبدأ القانوني المشهور: لا يُفترض في أحد أن يجهل القانون؛ وقد استدرك عليه مجلس الدولة الفرنسيّ فاشترط لصحّة تطبيقه أن يكون النصّ القانونيّ سهل الفهم على غير المتخصّصين، وأن يكون الحصول عليه ميسورًا. فكيف إذا كان النصّ مبهماً يسوده الضعف والعُجمة؟

ويسمح كاتب هذه المقالة لنفسه، بوصفه لبنانيّا، أن يضرب المثل في ذلك بدستور بلده. إنّه دستور يفتقر إلى الفصاحة، ويشوبه اللبس أحيانًا، واللبس في القوانين العاديّة يفضي إلى مشاكل جمّة، فكيف إذا كان في الدساتير؟ صحيح أنّ بعض الشوائب لايؤثر في المعنى، لكنّ بعضها الآخر يفسده.

فمن القبيح الذي لا يفسد المعنى قول الفقرة (ح) من مقدمّة الدستور: «إلغاء الطائفيّة السياسيّة هدف وطنيّ أساسيّ يقتضي العمل على تحقيقه». وليس التعبير صحيحًا، لأنّ: اقتضى الإنسانُ الشيءَ، يعني طلب قضاءه والوفاء به؛ فهل الهدف يطلب قضاء العمل على تحقيق ذاته، أم أنّ مصلحة الأمّة تتطلّب العمل على تحقيق الهدف؟ لهذا يجب أن يكون لفعل «اقتضى» فاعلٌ ظاهر هو المصلحة العامّة أو ما أشبهها، أو أن يُبنى للمجهول «يُقتضى»، وخير من ذلك أن نقول: ينبغي العمل على تحقيقه.

ويتحدّث الدستور في مادته الأولى عن حدود لبنان فيقول: «شمالاً من مصبّ النهر الكبير على خطّ يرافق مجرى النهر إلى نقطة اجتماعه بوادي خالد الصابّ فيه»، وتلك مما يسمّيه القدماء معاظلة، أي تراكب يصعب حلّه، وفيه من المجاز ما لا يحمد في النصوص القانونيّة. فكيف تمتدّ الحدود من مصبّ النهر إلى مصبه؟ وما معنى «خطّ يرافق مجرى النهر»؟ هل للنهر مصبّان، وهل المرافقة تعني أنّ ضفاف النهر هي الحدّ الشمالي للبنان؟ وأي الضفاف تلك: الشماليّة أم الجنوبيّة؟ وما معنى نقطة اجتماعه؟ هل هي مجتمع روافده؟ وهل تصبّ تلك الروافد في وادي خالد؟ إنّني لا أستطيع اقتراح نصّ بديل، لجهلي صورة النهر، وإن كنت أعلم أنّه اختير كحدّ طبيعيّ؛ فهو يدخل من سورية إلى لبنان في موضع لا أعرف اسمه، ويظلّ يجري على حدود البلدين حتّى يصبّ في البحر في منطقة تدعى العريضة.

ومما يشكو العُجمة قول المادة الرابعة من الدستور: «لبنان الكبير جمهوريةٌ عاصمته بيروت»، وغني عن البيان أنّ الصواب: عاصمتها بيروت. والطريف أنّ تسمية «لبنان الكبير» قد ألغتها المادة (101) من الدستور نفسه، وما كان أغنى صُيّاغه عن إيرادها.

ولا يفرق صُيّاغ الدستور بين «مُساو» و «مُواز» فيجعلونهما مترادفين؛ إذ يقرّرون أنّ حجم الأرزة في العلم اللبنانيّ موازٍ لثلث حجم القسم الأبيض منه؛ والصحيح أنّ مساحة الأرزة تساوي ثلث مساحة القسم الأبيض، لأنّ الموازي هو المقابل وليس المعادل؛ ولو جُعلت الأرزة موازية للقسم الأبيض لجاءت مقلوبة داخل قسم من القسمين الأحمرين.

ويستعمل صُيّاغ الدستور كلمة «الناخِب» بمعنى المنتخِب (بكسر الخاء) ، وليس في العربيّة «نَخَبَ» بمعنى اختار.

وتجيز المادة (28) من الدستور انتقاء وزراء «من أشخاص خارجين عن» المجلس النيابيّ، وهي عبارة تؤدّي خلاف المراد، لأنّ «خرج عن» يعني فارَقَ، شذَّ، عصى، إلخ. والحقيقة أن المقصود: أشخاص من خارج المجلس.

وتقول المادة (30) :«لا يجوز إبطال انتخاب نائب ما إلا بغالبيّة الثلثين» وصوابها: «إبطال نيابة المطعون في صحّة انتخابه» لأنّ إبطال الانتخاب يعني إلغاءه، ولا يمكن إلغاء ما حدث فعلاً، بل يمكن إبطال نتيجته.

وتقول المادة (32) :«وتُخصّص جلساته بالبحث في الموازنة» ولا أعرف للقدماء استعمالاً لخصّص، لكنّ النحاة يستعملون التخصيص بمعنى التعيين والإفراد والتفريق، وذلك ضد التعميم؛ وبعض المتأخّرين يستعملونه بمعنى الإيثار؛ ولا شيء من ذلك في عبارة الدستور! وصواب الجملة هو: وتُقصر جلساته على البحث في الموازنة، إلخ. ويجوز الاستعمال المحدث: وتُخصّص جلساته للبحث...

وتجعل المادة (33) لرئيس الجمهوريّة الحقّ في «أن يدعو مجلس النواب إلى عقود استثنائيّة بمرسوم يحدّد افتتاحها واختتامها وبرنامجها». والحقيقة أنّ لكلمة عقود معاني كثيرة، منها: العشرات، والقلائد، والعهود، إلخ. وليس بينها معنى الجلسات أو أدوار انعقادها، وليس من شأن المرسوم أن يحدّد (أي يضع تعريفًا أو يعيّن) الافتتاح بل هو يعيّن موعده؛ وصواب النصّ : «أن يدعو مجلسَ النواب إلى جلسات استثنائيّة بمرسوم يشار فيه إلى موعد بدئها وانتهائها وبرنامجها». وتجيز المادة (35) أن يعقد المجلس جلسات سريّة «بناء على طلب الحكومة أو خمسة من أعضائه»، وهذه العبارة لا تستقيم لأنّ حذف الاسم «طَلَب» المضاف إلى «خمسة» يوقع في اللبس والإبهام، لاختلاف طبيعة المضاف إليهما «الحكومة» و«خمسة»؛ كما أنّ هاء الضمير في «أعضائه» ملتبسة لأنّ مرجعها بعيد، ولذلك يحسن القول: «بناء على طلب الحكومة أو طلب خمسة من أعضاء المجلس نفسه». وتُكدّس المادة (37) الإضافات، وذلك أمر مستقبح في العربيّة، فتقول: «حقُّ طلب عدم الثقة مطلق لكلّ نائب». علمًا أنّ العدم هو انتفاء الوجود وليس نفيه؛ ولذلك ينبغي أن تُجعل العبارة على هذه الصورة: للنائب حقّ مطلق في أن يطلب إلى المجلس نفي ثقته بالحكومة؛ وبعضهم يستعمل عبارتي «حَجْب الثقة» و«نزعها» وهما مقبولتان، وإن كانتا مشوبتين بالمجاز.

هذا بعض من كلّ، وقد كنّا نسمع أنّ النصوص القانونيّة تعرض على علماء اللغة أو الاختصاصيّين فيها، على الأقلّ، فيقوّمون اعوجاجها؛ فهل أصبح ذلك عادة قديمة، أم أنّ صدور الدستور اللبنانيّ بُعيد الحرب عوّق هذه المهمة؟.

 

مصطفى الجوزو