قراءة نقدية في .. ديوان " حصاد الريح "

للشاعر خليفة الوقيان

خليفة الوقيان من أبرز الأصوات الشعرية في الكويت وهو واحدٌ من الأصوات التي ساهمت في تمجيد المقاومة الوطنية في حرب تحرير الكويت، وشعره يميل إلى الغنائية دون أن ينأى كثيرًا عن تثمير لغة الواقع الحي. وتصوير المحنة التي مرت بها بلاده باستخدام الأسلوب الواقعي المباشر.

ليس من اليسير على الناقد التوحيد بين خصائص الشعر في الكويت بعد حرب الخليج، فلكل شاعر من هؤلاء الشعراء الذين هزت أعماقهم مأساة الحرب أسلوبه المتميز، فقد كان الحدث مذهلًا وجسيمًا إلى أن حفر أخاديد في وجدان الشاعر الكويتي يفوق ما خلفته الحرب العالمية الثانية في آثار شعراء المقاومة، فقد تفاوت الشعراء الكويتيون في التعبير عن تلك المحنة، فمنهم من ظل غنائيا اتسم بوحه بلغة خاصة، فكانت أصواتهم إما تعبيرًا عن طبقة اجتماعية، وإما إعلانًا عن صوت أمة آلمها قتال الأقارب، وإما مزيجًا بين خيبة الأمل القومية واستنكار العدوان من وجهة نظر إنسانية، ومنهم من استخدم الرمز أو وظف الأسطورة، مفضلًا نقل الخبر على التخيل متجاوزًا الغنائية إلى الواقعية، والذاتية إلى الموضوعية.. ومهما اختلفت الأساليب فإن قيمة هذا الشعر تقاس بمدى نفاذ الشاعر إلى العمق دون أن يجور على خصائص شعر المقاومة الذي يلتزم في جوهره الوضوح والبساطة لأنه موجه إلى الجماهير، فهو رسالة من ال (أنا) الشاعر إلى ال (نحن) أي إلى الجماعة، وتظل الواقعية الشعرية سمة بارزة من سمات شعر المقاومة الحديث، مع أنها في الواقع تهدم الشعر وتتنكر له حين تهجر اللغة الشعرية إلى لغة الحياة اليومية.

وفي شعر خليفة الوقيان تتضافر عناصر الغنائية والواقعية في صورة متوازنة ترضي المتطلبات الفنية للشعر، كما تقيم جسورًا بين الفن والحياة، كما في قصيدة بعنوان "إشارات" يقول فيها:

ها هم القادة الفاتحون
يطلون
تلمع أنجم أكتافهم
تسابقهم حشرجات الرصاص
يسدون كل المنافذ
والطرقات الحزينة
تجتاح نعالهم كل شبر ببيتي
ونبض بقلبي
تبعثر أوراقي الصامتة
تمزق ألعاب أطفالي الخائفين

نلاحظ أن القصيدة مجموعة صور سردية متلاحقة، تصور مشاهد من العدوان تصويرًا واقعيا ينفي لغة الشعر في محاولة لتفكيك الواقع وجعله روحيا، فالمهم في الإبداع هنا ما وراء الكلمات من عاطفة قوية تدين العدوان بشواهد محسوسة منه، منقولة ببساطة، وكأن الأشياء تخضع للروح بضغطها المؤلم.

يبدو أن الشاعر لا يريد أن يرتدي صورة العالم أو يرسم معادلًا له. وإنما ينقله بما هو عليه، لأن الصورة المرئية تكفي وحدها لدينونته. على أن الشاعر "خليفة الوقيان" ينتقل من هذه الواقعية السينمائية إلى التماهي، فيعتمد على مخيلته في رسم صورة مقابلة لتاريخ الكويت، فيستعرض مأساة الإنسان الكويتي التي تتمثل بصراع الأجداد مع الطبيعة القاسية في رحلات الصيد فوق بحر الخليج، وسقوط ضحاياهم طعمة للأسماك ليثبتوا بقاءهم فوق أرضهم، ويوفروا فرص العيش الكريم لأطفالهم.

إنه مشهدٌ غنائي مؤثرٌ يدفع القارئ ضمنا إلى المقارنة بين صورة المعتدي والشعب الآمن الذي ضحى طويلًا في سبيل وطنه وأطفاله، هؤلاء الأطفال الذين جهد الإنسان الكويتي آلاف السنين ليسعدهم يتعرضون اليوم لقنابل المعتدي:

دوي يهز المكان
فترتج كل الشبابيك
تعوي الرصاصات
يعلو ضجيج الأوشاوس
يعدون خلف صبي صغير

وتسأل الشاعر طفلته عما يجري، فيعدو بها فوق الزجاج المحطم إلى القبو دون أن يجيب، فقد سدت عليه الصدمة كل منافذ القول، فيستعير الأساطير التاريخية، يرمز بها إلى العدوان، فما يشهده الآن ليس إلا صورة متكررة لقتل هابيل أخاه قابيل، وتصفية النعمان لسنمار فوق ضفاف الفرات الذي بنى له الخورنق والسدير، فأعدمه خشية أن يبني مثلهما لسواه.

ففي المقطع الأخير ترقى القصيدة من الوضوح إلى الغموض، ومن بساطة السرد إلى تكثيف الرؤية وتعميقها لتبلغ ذروة تأثيرها في ربط الماضي التاريخي بالحاضر لتدين ممارسات العدوان المتكررة منذ أن خلق الإنسان.

وفي قصيدة بعنوان : (برقيات كويتية) يسعى الشاعر خليفة الوقيان إلى خلق شعري لحياة حقيقية بالكلمة المكتوبة بالدم المتقطر من جرح صامتٌ ليست المقاومة صخبًا وضجةً، إنها تأنيب يحس أعماق الإنسان، إنها تعرية المعتدي مثلما عرى الكويت من كل مستلزمات الحياة الإنسانية، مثل حليب الرضيع ودواء المريض وسبورة الفصل وكراسة المدرسة ولعب الأطفال وأحلامهم، وقطع أوصال الرحم والقربى ووشائج العروبة التي اشتجرت ففاض الدمع مع الدم "وظلم ذوي القربى أشد مضاضة من وقع الحسام المهند" لكن الشاعر "خليفة" لا يخاطبهم بلغة المقنع الكندي، أو الشنفري، ولا يميل إلى قوم سواهم، ولا يغفر لهم زلتهم بالمقابل.. يقول:

قل للرفاق
الغارسين رماحهم بظهورنا
الناذرين سيوفهم لنحورنا
الدرب نحو القدس سالكة
فكيف عبرتم نحو الجنوب
هل أنتم أحفاد معتصم
إذا انتخت الأساري..؟
أو نسل هولاكو الذي حرق الديارا

لقد أخطأ التحرير هدفه، وفاته المرمي، و"معتصم" القرن العشرين لا يستجيب لنداء المرأة العمورية، بل يدفعها إلى أن تستغيث منه بالروم، وبهذا يصبح الموروث التاريخي وسيلة لدى الشاعر لتعرية العدوان الخارج على منطق المسيرة العربية التاريخية آلاف السنين، ليعيد مسيرة غزو القبائل بعضها بعضًا أيام عبس وذبيان، إنه العودة إلى الظلام وإطفاء نور اليقين والهداية، الزمان الحاضر هنا، تفصح عنه الجمل القصيرة التي تحاكي لغة البرقيات، تتقطع وتتواصل لإعادة عالم محطم يتنافر فيه الحاضر مع الماضي في غنائية ناجحة تشرع أجنحتها في الخيال انطلاقًا من الواقع لتنقلنا إلى رحاب ماض بعيد مشرق هو أشبه بالحلم الذي تبدد تحت غطرسة الاجتياح، وشهوة الانتقام.

العروس والقرصان

وفي قصيدة "العروس والقرصان" يطلق الشاعر لغنائيته العنان، فيرسم صورةً وطنه قبل العدوان معتمدًا على مشاعره وذكريات حياته:

للفجر في الكويت نكهة
تعرفها زغب العصافير
وللندى على براعم الزهور نفحة
شذى يعطر المدى
تلثمه خضر المناقير

القصيدة صورة غنائية رومانسية تمتزج فيها روعة التخيل بصدق الواقع، ويمدها صدق الشعور وبساطة الكلمات بنبض الحياة، وتمتزج فيها صور الطبيعة لتشكل عناصرها عناصر الوطن الآمن المسالم الذي تعيش أمواهه وترابه وأطفاله وأزهاره في وحدة عضوية لا تنفصم، تولف بينها عاطفة فطرية مباشرة. فالذكريات ليست رمادًا وإنما هي حياة ناطقة لا تنفصل فيها الكلمة عما تحدده، وبهذه الصورة يخرج الشاعر من المناسبة التي أملت عليه ما كتبه إلى عالم أرحب.. إلى آفاق الإلهام الإنساني الذي فجرته شرارة العدوان باحثًا عن صورة الوطن الضائع التي طوتها أقدام الغزاة فلم يعد لها وجودٌ إلا في أعماق ذاته الداخلية، في أشيائها المتألقة وأجنحة طيورها وبحارها وقوس قزحها المحسوس، وحنينها المتعطش إلى الحب والسلام وبهجة الحياة، إنها تعبير عن ارتباط الإنسان بأرضه ونزوعه إلى المودة والأمن، وارتباط بموقفه الأبدي في حق الحياة والبقاء، فمن مياه الخليج الساكنة التي تتكسر على الشواطئ، لترتد في وحدة وانسجام واستقرار وطمأنينة، يدعو الشاعر إلى طرد الغزاة لينعم شعب الكويت بهدوء مع كل ما حوله من مرابع الوطن.

وحينما تمس صفحة النقاء والطهارة
أصابع القرصان
مخالب تغتال في الظلام خيط الفجر
دفء الشمس
بهجة الربيع
رونق النضارة
يستيقظ الموج
الذي لم يألف الضغينة
لم يعرف الهوان
تزمجر الشطآن

فالشاعر "خليفة الوقيان" لا يدعو إلى مقاومة السلاح بالسلاح، وإنما يبرهن على أن الطبيعة نفسها ستلفظ المعتدي. وسلاحها في ذلك هو نزوعها الطبيعي إلى حياة وادعة لا تعرف الحقد والبغضاء.

محور المقاومة

ويظل محور المقاومة وجوهرها هو الطفل الكويتي، فينشد له الشاعر أغاني يؤكد فيها نزعته إلى السلام، فسيبقى وطنه دوحة الحب الكبير، وبحره مصدر رزق الناس لا مسرحًا للعدوان، وأرض وطنه ينبوعًا للحضارة والخير، ومآذن تدعو الله أن يصونها من كل باغ.

ولا يتجاوز الشاعر غنائيته ونزعته الواقعية إلا في قصيدة واحدة من قصائد الديوان ينحو فيها منحًى رمزيا.. ففي قصيدة "عصفورتان" يرمز فيها إلى وطنه بعصفورتين آمنتين:

فوق عذق من نخلة تغردان
ترفرفان في أريكة يزينها الندى
تهزها نسائم شفيفة الصدى
الماء من حولهما
جداول مزخرفة
تحوك ثوب الشمس
معطفًا مفضفض الأردان
مر عليهما فتى
في كفه نمت عناكب الحجر
فهبتا مذعورتين
فشك شوك النخلة الرحيمة
ويسيل دمهما فوق كفيه

وقصيدة "في الليل" رمز ليقظة الوطن بعد المأساة، فما كان محتاجًا قبل الاجتياح إلى عسعس يطوفون في هدأة الليل ليطردوا الضغينة، وفي قصيدة "عوسجة" يرمز إلى الكويت بسوسنة تعيش في روضة تحفها الصحاري، أيقظها هزج الفراش وهمهمات النحل، فأرسلت رحيقها لكل عابر، تكرع منه الرمال والهضاب والجنادل والعنادل، إلا عوسجة القفار الحاسدة التي التفت بشوكها على السوسنة الجذلى فخنقتها جزاء أنها قدمت للناس عطرها. لكنها رموز قريبة من الغموض، فالشاعر يرى في وطنه ينبوع الجمال ومنهل العطاء ومثار حسد القريب والبعيد، وقد دفع ثمن نهضته غاليًا من دماء أبنائه دون ذنب اقترفه، وعلى الرغم من الرمزية التي تلفع القصائد تظل في جوهرها شعرًا غنائيا ينأى عن المباشرة، ويظهر جمال اللغة، وصفاء الروح. واللغة لا تقرع أبوابًا ولا تهيج مشاعر حبيسة، وإنما تقدم صورًا من الجمال الهامس الذي يثير المشاعر الحزينة.. ويدافع عن نفسه بالوردة الآمنة التي تذبح وريقاتها، والعطر الفاغم الذي يخنق كل من لا يحب العطر.

ولا يستسلم الشاعر لليأس فهو يرى في المحنة تجديدًا للروح الوطنية، واستشارةً للعزائم لمزيد من البناء، وتطلعًا إلى مستقبل مشرق يمسح آثار الجراح :

اليوم جئت
وفي فمي ماء
وجرحي نازف
والروح ثكلى
أهلًا برقص سنابل القمح المذهب
تحضن الجوري
ترسم في الدجى
قمرًا مطلا
أهلًا بطيف
أخضر الخطوات
وردي الملامح
ألف أهلًا

لقد ألفت النكبة بين قلوب أبناء الوطن، وكأن الشاعر "خليفة الوقيان" يردد مع الشاعر بول إيلوار في قصيدته "منع التجوال" يقول إيلوار:

ماذا تريد؟ كان الباب مخفورًا
ماذا تريد؟ كنا محصورين
ماذا تريد؟ كانت الطريق مسدودة
ماذا تريد؟ كانت جائعة
ماذا تريد؟ كنا عزلًا
ماذا تريد؟ كان الليل قد أرخى سدوله
ماذا تريد؟ لقد تحاببنا

وبهذا الحب الذي يؤلف بين المواطنين في المحن، نهضت "الكويت" من رمادها كالعنقاء متجاوزة آثار النكبة، وأصداء أصوات شعرائها تملأ الآذان لتصحيح مسار التاريخ.

 

عبداللطيف الأرناؤوط

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




حصاد الريح





الدكتور خليفة الوقيان