من شهر إلى شهر

واحة العربي

الرسم . . التصوير
عالم المتعة الراقية المتناغم مع دفء وارتياح العيون

كان من المفروض أن أصبح خطاطا، أسجل بالفرشاة على واجهة البيوت القروية خبر زيارة صاحب المكان لمكة المكرمة والمدينة المنورة، مع إشارة للتكريم الذي حباه به الله، ثم- بعد أن تنتهي الكتابة- أرسم جملاً، أو باخرة، أو طائرة، حسبما يكون قد استخدمه صاحب الحج المبرور، غير أن الركود الذي واجهني بعد موسم الحج جعلني أحاول تنشيط رسومات أبي زيد الهلالي وهو يشج رأس دياب بن غانم، كان القرويون مغرمين بهـا، لكن انتشار كل أنشطة أبي زيد الهلالي وعنترة بن شداد في لوحات ورقية مطبوعة وواسعة وبقروش زهيدة حال دون استمراري، فقضيت أول خمس قرن في حياتي متسكعا معطل الطاقة الفنية، ولما داهمتني كارثة الحب الاول عدت إلى نشاطي الفني: أكتب الخطاب بخط جميل تتخلله رسومات لبعض أجزاء الجسم- القلب أكثرها وضوحًا- وقد اخترقتها السهام، وكنت- في الأسلوب- مغرما بمصطفى لطفي المنفلوطي الذي كان ينوح طالبا من الناس الاتسام بالشفقة والتراحم، وانتظرت طويلا أن يصلني خطاب واحد من محبوبتي كي استمتع بقدراتهـا الفنية وعندما التقيت بها ليلة اندلاع حريق في القرية: لم تعترف بأنها لم تفتح خطاباتي لأنها لا تعرف القراءة والكتابة، الخادمة التي كانت تسعى بيننا هي التي أخبرتني، لكن الرحلة المرهقة إلى العاصمة فتحت باب فنون الرسم والتصوير عن آخره.

ما كدت أدخل متحف الآثار المصرية بالقاهرة حتى داهمني إحساس آخر كاد يفقدني وعيي، كانت التماثيل الضخمة تعبّر عن جبروت الفراعنة، ثم إن الرسومات الدقيقة- حفرًا أو بروزًا- أسفل هذه التماثيل- تمثل إحكاما تعبيريا متقنا يسهل وصوله لذوي الثقافة المحدودة، كما أن التشكيل الفني الدقيق لمشغولات توت عنخ آمون الذهبية تثير أسئلة مدهشة عما وصل إليه هذا الفن، وكانت اللغة الهيروغليفية قد انتظمت صفوفا علوية ورأسية وأفقية وتحت الأقدام من بط وأوز وثعابين وصقور وتماسيح وتكوينات أخرى عديدة ومتباينة تخبرنا عن أحداث وتواريخ لا أعرف عنها شيئا، بعدها بأيام اخترقت منطقة سقارة، وزرت منف- أولى عواصم العالم، بعدها ولجت إلى سرداب العجول المقدسة في ظلال الهـرم المدرج، وكانت جدران السرداب قد احتفظت ببقايا رسومات هذه اللغة الغامضة "بالنسبة لي"، كان وضحا أن الفنان الكاتب على هذه الجدران قد استخدم أنواعا من الطلاء المصنع الذي يحتفظ بلونه إزاء كل تقلبات العصور، ثم إن الرسوم التي تناثرت على أطلال المعبد القريب من الهرم تشير إلي قدرات فذة لتقدم فنون الرسم والتصوير حينذاك، وهو الذي أحسست به ضاغطا ودافقًا. حين اخترقت- بعد سنوات- سراديب وممرات مقبرة رمسيس السادس في وادي الملوك بالأقصر، إذ إن الغة وما يجاورها من رسوع ملأت الحوائط والسقوف في نظام وانتظام يصنعان للمقبرة إيقاعا ساحرًا، إنها بقايا عصور الوثنية، لكنها أيضا بقايا تاريخ إنجاز الفن التشكيلي عند الإنسان، تكشف أيضا عن قدراته العقلية، وعن تطور الأداء لديه إزاء استيعاب حركة الكون. من استغراقي وسط الآثار المصرية القديمة لم يدم طويلا، فقد توققت عن رسوماتي "المعبرة" والتي كانت تتضمن نخيلاً وأشجارًا ومراكب وبنات وبعض الحمير والماشية، ذلك أنني بدأت أتردد على مقتنيات السفارات وقاعات العرض والمتاحف لأسعد بمشاهدة فن التصوير على اللوحات، ورأيت- مشدوها- لوحات محمد حسن، ويوسف كامل، وراغب عياد، وعلي حسن، وأحمد صبري، وفوجئت بأن الريف والجدران والزروع والحيوانات تنفث جمالاً آخر مع أنها لا تنطبق على ما أعرفه عنها تمام الانطباق، كما أن الظلال تتمدد وتتفاعل مع اللون لتصبح تعبيرا يحول بينها وبين أن تظل ظلالا. إن العيال في ريف يوسف كامل يفحّون ب الجمال- أقصد بالموسيقى. ثم كانت رسومات حمسن فؤاد وجمال كامل وجمال قطب في الصحف والمجلات تعطى للعين ارتياحا يصل إلى تشابك العين مع المشهد، كانت مصر كلها قد تحولت تحت نظري وفي مجال حركتي إلى حالة فنية قصوى، مفعمة بأنواع الفنون التشكيلية المثيرة للخيال، حتى تصميمات أبو العينين في الأزياء التي تستخدمها الفرق المسرحية الشعبية، كانت ساحرة، وكان محمود مختار قد تحول إلى عدد جميل من المنحوتات التي تشمل غرامه بالقرويات يملأن الجرار أو يواجهن الزوابع أو يوقظن أبا الهول رمزا لمصر الحديثة.

لكن أمري بدأ ينداح خارج مصر، ذلك أن الفنون التشكيلية خطوطا ورسومات وتصويرات تكاد تكون وشمًا على كل جسد العالم، وقد تزدحم بها بلد - مثل مصر في الآثار القديمة، لكن بلادًا أخرى تحظى بنصيب وافر من أنواع فنون الرسم والتصوير: إيطاليا وألمانيا وفرنسا، ومن السهل أن تجد الصور المناسبة للوحات في كتب تاريخ الفن، أو التي تبحث في فلسفة الفن، لكن كثيرًا من السفارات الأجنبية تحتفظ بمستنسخات تكاد تقارب الشبه بأصول لوحات فنانيها القوميين، ولا سيما ما يتعلق بإنجازات عصر النهضة الأوربية، وقد ظللت سنوات أسعى بينها مستمتعا بالمنسوخ من لوحات: الأخوين الشقيقين هوبرت وجان فان إيك، وليوناردو دافنشي "العظيم"، وميكل أنجلو "أعظم فناني العالم نحتًا وتصويرًا" ورفائيل، وكوريجيو، وجوفاني، ولورنزو، هذا في إيطاليا- المفعمة بعدد مهول من كبار الفنانين- أما- في هولندا فهناك روبنز وفان ديك ورمبرانت، وفي أسبانيا: فيلا سكويز، وموريلو، ثم جويا الشهير الذي عشق المونتيسا وظهرت عنه أفلام سينمائية عديدة، وفي فرنسا: كلود، وبوشيه، وشاردان، ثم هناك عدد واسع التوزيع والانتشار في أوربا، تلك التي سحبت جماليات الفن التشكيلي الرومانسي الكلاسيكي إلى المدارس الحديثة من الى المدأرسلى الحديمه من تأثيرية وسريالية وتجريدية وتكعيبية: جوجان وفان جوخ، ثم ماتيس وبراك، وسلفادور دالي، وبيكاسو، وهي المدارس التي أدت إلى إمعان النظر، والتدقيق بالعقل، وتحريك الرأس بالإيماءات لكي تبرز إعجابك الشديد بها وإعجاب الآخرين بثقافتك، لكنك حين تتاح لك الفرصة أن تقتني لوحة تساعدك على النظر إلى الأفق الجميل، فإنك سوف تبحث عن رفائيل، أو دافنشي، أو يوسف كامل، أو أي فنان آخر يبدع لك مشهدًا مريحًا، حتى تستطيع- إذا جاءتك الفرصة أن تكتب خطابك الغرامي وقد اكتنفته بعض الرسوم المعبرة.

 

محمد مستجاب

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات