مرفأ الذاكرة: سرد الحياة

مرفأ الذاكرة: سرد الحياة

في شبابي المبكر قرأت كتابا بقلم مؤلف أمريكي عنوانه (كيف تكسب الأصدقاء) كان من بين نصائحه أن الحديث عن النفس حديث غير جذاب, وأن الآخرين يفضلون أن نستمع إليهم بدلا من أن يستمعوا إلينا. من يومها تجنبت بقدر المستطاع أن استخدم ضمير المتكلم إلا إذا كان ضمير إحدى شخصياتي القصصية. هنا اكتشفت أن ضمير المتكلم ليس منفراً إلى هذا الحد وأنه أحيانا يكون ضميراً جاذبا لأن الآخرين يستمتعون أيضاً بالاطلاع على سير غيرهم وخصوصياتهم كلما أمكن ذلك. من هنا كان باب الاعترافات في الصحافة من أكثر الأبواب جذبا للقراء. وقد استخدمت هذا الضمير من قبل عندما تحدثت مرة عن (تجربتي) مع القصة القصيرة, ومع النقد الأدبي مرة أخرى, كما استخدمته في كثير من حواراتي التي كانت ذاكرتي وأنا أهم بكتابة هذه السيرة الذاتية الأدبية الموجزة.

طفولتي كانت موزعة بين المدينة والريف حتى نهاية الدراسة الثانوية, الأشهر الدراسية التسعة في القاهرة, وشهور الإجازة الصيفية الثلاث في قريتنا (جزيرة شارونة) بمحافظة المنيا بصعيد مصر حيث كان يعيش جدي وجدتي لأمي. ولم يكن ارتياد شاطئ البحر المتوسط قد أصبح عرفا بعد في مصر في الثلاثينيات والأربعينيات من هذا القرن. وقد وصفت هذه الجزيرة الريفية في قصتي (الثأر), حيث كانت شبه جزيرة ـ قبل بناء السد العالي ـ طوال فصول الخريف والشتاء والربيع, تحيطها مياه النيل من ثلاث جهات, أما الجهة الرابعة فيكون المجرى فيها خلال هذه الفصول مليئا بالرمال الناعمة, يتيح لأطفال القرية اللهو فيه بأمان لاسيما في الليالي القمرية, ثم يأتي فيضان النيل كل صيف فيركب الجزيرة على حد تعبير أهلها, ويمتلئ الخور بالماء لتصبح شبه الجزيرة جزيرة مهددة بالغرق, وإن لم تعد مهددة بلصوص الجبل الذين يغيرون عليها خلال الخور الجاف أثناء الفصول الثلاثة الأخرى. وكان هذا الخور الرملي الناعم ملعب طفولتنا في أمسيات الصيف القمرية. ومازلت أذكر كيف كان شباب القرية ـ بل وصبيانها ـ يقومون على حراسة ما أقاموه من جسور حول قريتهم من غدر ماء الفيضان وتسلله إلى بيوتهم. فإذا انحسر الماء كان طمي النيل قد غطى الأرض مما يوفر على الأهالي ريها وتسميدها, ويجعلها من أخصب الأراضي الزراعية. وفي هذه الزيارات الصيفية استمعت واستمتعت بأساطير القرية ومواويلها, ومخاوفي ومخاوف أهلها من وحوشها ولصوصها, وقلقهم وكفاحهم وطموحاتهم, وعايشت أعراسهم وأفراح ختان ذكورهم, وأحزان فراق أحبابهم, وبهذا اكتملت في وجداني معايشة مصر في طفولتي حيث تختزن الذكريات فيما تحت الوعي: ريفها مثل حضرها.

شغف مبكر بالأدب

وأذكر أنني بدأت أتعامل مع الكتب في وقت مبكر, ربما كان سن الثالثة عشرة, في إجازة الصيف, بين الأولى والثانية الثانوية (فلم تكن هناك وقتئذ مرحلة إعدادية).

وجدتني شغوفا في هذه السن بالأدب العربي. وكانت في بيتنا مكتبة تجمع بين الناحيتين الدينية والأدبية. ومن الكتب التي استوقفتني كتاب (كلية ودمنة), وكتاب (مجاني الأدب في حدائق العرب) للأب لويس شيخو اليسوعي, وهو كتاب يضم مختارات من النوادر العربية الطريفة ومقطوعات من الشعر العربي في مختلف الأغراض كنت أحاول حفظها. وقد انعكست هذه القراءة في محاولات فيما بعد لصياغة النادرة العربية بأسلوب معاصر فيما أطلقت عليه (قصص في دقائق) أو (قصص قصيرة جدا, إذ كانت هذه محاولة لربط القصة العربية الحديثة بجذورها القديمة عن طريق استلهام النادرة العربية. كما كان من بين الكتب في مكتبة والدي كتاب (سياحة الحاج) المترجم عن الانجليزية لجون بانيان الذي كتبه في السجن في القرن السابع عشر الميلادي, وفيه يروي قصة سياحة المؤمن في عالم الظلام من أجل الوصول إلى المدينة السماوية, وبعد تغلبه على مجموعة من المغريات والعقبات يعبر نهر النسيان (أي الموت), ثم تلحق به زوجته وأولاده في الجزء الثاني من الكتاب. وقد ألحت علي فكرة السياحة وما يبذل فيها من مجهود للوصول إلى الهدف في عديد من قصصي ودراساتي, وهو هدف تواضع في العصر الحديث حتى أصبح يتصل بمطالب الحياة الضرورية كالحب والعمل والسكن.

وفي السنوات التالية بدأت أقرأ ما كان يصدر في سلسلة (روايات الجيب), وهي تتراوح بين روايات بوليسية وأخرى بأقلام كبار الكتاب العالميين مثل تولستوي, ودستويوفسكي, وهول كين, ورايدرهاجرد, وموريس لابلان, وآرثر كونان دويل.وكنت أدون في مفكرة صغيرة كل كتاب أقرؤه وعدد صفحاته, حتى أعرف حصيلة ما قرأت في نهاية الإجازة الصيفية, وأذكر أنها وصلت في إحدى هذه الإجازات إلى ثمانين كتابا, وهو رقم يعبر عن مدى شهوة القراءة في هذه السن.

وقبل دخولي الجامعة كنت قد بدأت أقرأ عن طريق الاستعارة من المكتبات العامة, ومكتبة الجامعة الأمريكية بالقاهرة ـ التي كنت بالقسم العربي بها والذي ألغي فيما بعد وحصلت منه على التوجيهية (الثانوية العامة الآن) لكتابنا العرب المعاصرين مثل طه حسين, العقاد, ميخائيل نعيمة, سلامة موسى, محمد حسين هيكل, توفيق الحكيم, إبراهيم المازني, جبران خليل جبران, حسين عفيفي المحامي, وترجمات في المقتطف من شعر طاغور, ومما لاشك فيه أنني استوحيت قالب ما أطلقت عليه (النثر الغنائي) في (المساء الأخير) من هؤلاء الكتاب الثلاثة الأخيرين. كما كنت أقرأ في مجلة المقتطف أيضا المقالات العلمية التي كان يكتبها في المقدمة فؤاد صروف عن التركيب الذري ونظرية الكوانتم والنظرية النسبية وغيرها.

وفي المرحلة الجامعية اتسعت اهتماماتي الفنية, بحيث شملت الفنون التشكيلية والموسيقى, فتعرفت على الموسيقى الغربية عن طريق جماعة الجرامافون التي كان يشرف عليها أستاذ شاب للغة الإنجليزية في كلية الآداب هو الدكتور لويس عوض, وكان وقتها قد عاد لتوه من بعثته في انجلترا قبل أن يحصل على الدكتوراه بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية. وأعتقد أن هذا الشغف بالموسيقى ترك أثره في اهتمامي بالشكل في العمل الفني, لأن السيمفونية تتألف من نغمة أساسية ثم تنويعات لهذه النغمة, أي أنها تصنع تاريخها الداخلي أو ذاكرتها الخاصة بها. من هنا تعلمت أن العمل الفني يمكن أن يخلق تاريخه الخاص به, وبأنه يمكن لفكرة فيه أو جملة أن تتردد في أوله ثم تعود في آخره لتعطي إيحاء آخر.

أما بالنسبة للفن التشكيلي فقد أثارني بوجه خاص جويا في لوحاته التي يقدم فيها الفزع الإنساني, إلى جانب اتصالي بالحركة السيريالية أو الفوقعية التي ظهرت في مصر أثناء الحرب العالمية الثانية, والتي أشرت إليها في كتابي (اللا معقول في الأدب المعاصر).

وقد ترك هذا الفن التشكيلي أثره على قصصي المبكرة, فيما أسميته (تحطيم قواعد المنظور) في الأدب, أي التمرد على الأساليب التقليدية التي كانت تكتب بها القصة إذ ذاك, ثم على الأسلوب الواقعي الذي كان له الرواج في القصة منذ بداية الخمسينيات. من هنا كان اتجاهي في كتابة القصة مختلفا عن الاتجاهين التقليدي والواقعي.

بين الحلم والتجربة

وفي فترة الدراسة الجامعية بدأت أجرب إمكاناتي التعبيرية, حاولت كتابة الشعر الموزون المقفى, والقصة القصيرة, والدراسة الأدبية التي خصصت لها كراسة كتبت عليها (مطالعات أدبية), وربما كنت متأثرا في هذا العنوان بعنوان مشابه للعقاد, كما كتبت الرواية التي نقلت بعض فصولها من روايات أخرى حيث لم تكن لي خبرة كافية بالحياة, كما كتبت يومياتي التي اعتبرتها مدرستي التعبيرية الحقيقية حيث كنت أكتب في حرية معبراً عن أي خاطر يطوف بي, أو مشاعر عانيتها أثناء تعاملي مع الآخرين, أو انفعال, أو صدى قراءاتي.. إلخ, وقد اخترت بعض ما يصلح من هذه اليوميات للنشر فيما بعد في الجزء الأخير من (المساء الأخير) الذي كان عنوانه (بين الحلم والتجربة).

ولقد كانت فترة دراستي الجامعية هي نفس فترة الحرب العالمية الثانية ما بين عامي 1941 ـ 1945 (الحرب العالمية الثانية كانت بين عامي 1939 ـ 1945), معنى هذا أن سنة تخرجي من الجامعة كانت هي نفس السنة التي انتهت فيها الحرب, وهي نفس السنة التي بدأت أتأهب فيها للكتابة والنشر. وجدت نفسي أواجه عالما يتنفس الصعداء بانتهاء الحرب, لكنه ينوء بعبء مشاكل ما بعد الحرب. وكانت مشكلة العالم العربي في مختلف أقطاره هي أحلام الاستقلال بعد هذه الحرب وبعد تغير ظروف الدول التي كانت تدخل في نطاق نفوذها, لهذا كانت فترة غليان سياسي واجتماعي معا.

كما أنه في أثناء الحرب العالمية الثانية حجبت الثقافة الأوربية عن مصر لعدم تيسر وصولها, فما أن انتهت هذه الحرب حتى تدفقت على مصر الثقافات والاتجاهات الفنية التي تخمرت في أوربا أثناء الحرب, وذلك عن أكثر من طريق: كالكتب والبعثات والأساتذة الأجانب الموفدين. وكانت مجلة (الكاتب المصري) التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية ورأس تحريرها الدكتور طه حسين أحد المنابر البارزة لتقديم هذه الألوان الجديدة. فقرأنا مقالات طه حسين عن سارتر, وكامي, وكافكا, وريتشارد رايت. كما قرأنا مقالات لويس عوض عن إليوت, وجيمس جويس ود. هـ. لورنس, وألدوس هكسلي وغيرهم من الكتاب المعاصرين في ذلك الوقت مما دفعنا إلى أن نقرأهم في كتبهم الأصلية.

لقد أحسست بمدى تشابك العالم واضطرابه, وسهولة وسائل الاتصال الحديثة بين أجزائه وما يضطرم فيه من قلاقل وتمرد وثورات, وأن اللحظة الزمانية الواحدة يمكن أن تضم بالنسبة للفرد أكثر من تناقض بسبب سرعة وسائل الاتصال, وأن على كفنان أن أقدم ذلك كله من خلال العمل الفني بحيث أنقله إلى وجدان القارئ كما هو في وجداني.من هنا جاء إدراكي أن الشكل التقليدي يضيق عن استيعاب هذا المضمون المتفجر.وقد حاولت النشر في بداية حياتي الأدبية في أشهر مجلة في ذلك الوقت هي مجلة (الرسالة) التي كان يصدرها أحمد حسن الزيات, لكنها أوصدت صفحاتها أمام هذا الناشىء المجهول, وكان لي زميل مغربي بقسم الفلسفة الذي تخرجت منه اسمه أبومدين الشافعي يعد للحصول على درجة الماجستير أو الدكتوراه كان ينشر في مجلة (الأديب) البيروتيه لصاحبها ألبير أديب, فتطوع مشكوراً بارسال أول قصة نشرتها الأديب لي, وتتالى بعدها نشر ما كان مخزونا من قصص ونثر غنائي, حتى أن إحدى المجلات المصرية نقلت مقطوعة مما كنت أنشره على صفحات (الأديب) وذكرت أنها للأديب اللبناني يوسف الشاروني. وعن طريق مجلة (الأديب) استطاع اسمي أن يقتحم مجلة (الرسالة), لكن عن طريق الهجوم على ما أكتب. فقد كتب الأستاذ أنور المعداوي ـ وكان من أبرز نقاد عصره ـ بتاريخ 28مارس 1949 مقالا بعنوان (اقرأ معي هذه الكلمات) يعلق فيه على إحدى مقطوعات (المساء الأخير) المنشورة في (الأديب) قائلا إنها لأديب مصري اسمه يوسف الشاروني لم يجد مكانا في القاهرة المعزية لنشر هذا (التهجيص).

وقد تزاملنا ـ أنور المعداوي رحمه الله وأنا ـ في مجلس إدارة تحرير مجلة (المجلة) في الستينيات بعد ذلك حين رأس تحريرها يحيى حقي, وضحكنا عندما ذكرته بما كتب.

وبمناسبة يحيى حقي فقد طلب مني أن أتعاون معه في تحرير مجلة المجلة في الستينيات, كان هو رئيس التحرير, ومجلس التحرير يتكون من أنور المعداوي وفؤاد دوارة وأنا.

وكان يحيى حقي قد سبق أن ناقشني في مجموعة قصصي (رسالة إلى إمرأة) في برنامج (مع النقاد) بالبرنامج الثاني أو البرنامج الثقافي الآن بإذاعة القاهرة. وكنا حديثي التعرف, فجلسنا بعد المناقشة في أحد مقاهي القاهرة, وإذا به يسألني: (هل أنت متزوج؟, (قلت له: (نعم) قال :(وكم عندك من الأبناء؟ قلت: (اثنان) ثم سكت. فسألته: (لماذا تسأل) قال (قرأت قصة الرجل والمزرعة (وهي قصة زوجين عقيمين يكافحان من أجل إنجاب طفل لهما ومحاولة الرجل إخصاب زوجته كما يخصب مزرعته, وتدور القصة حول تتويج هذا الكفاح بوصول هذا الوليد في إحدى الليالي بعد سبع سنوات من العقم) فظننتك عقيما. فلما قرأت قصة (آخر العنقود) (وتدور حول أسرة كثيرة النسل تحاول وقف هذا السيل) ظننتك كثير العيال). وبعد هذه المناقشة كتب يحيى حقي مقالا عن المجموعة نشره في كتابه (خطوات في النقد) أعلن فيه أنني أستاذ في فن القصة ولكنني جزار التشبيه, لأنه لم يعثر في المجموعة كلها إلا على تشبيهين: بيضاء كاللبن, وسمينة كالبطة, في قصة (الرجل والمزرعة) بالذات, فكان ردي أن عنوان القصة نفسه قائم على تشبيه المرأة بالمزرعة, وأن التشبيهات موجودة لكنها لا تبرز لأنها موظفة فنيا ونابعة من داخل العمل, وليست مفروضة عليه من الخارج.

أسير الحرية

لقد قررت في بدء حياتي أن أمارس الأدب كمجرد هواية أركبها ولا تركبني, بمعنى أن أترك نفسي على سجيتها.. أقرأ حين أجد كتابا ممتعاً يشدني إلى قراءته, أقدمه لغيري إذا وجدت فيه ما يشجعني على ذلك دون أي اعتبارات أخرى, فإذا ألحت علي قصة أن أكتبها أذعنت لإلحاحها.. إلا أنني ما لبثت أن وجدتني أسير ما ظننته حريتي, إذ أصبحت أمام الآخرين أمثل نمطا معينا في الحياة يرون من حقهم أن يعاملوني على أساسه, ومن هنا جاء جانب كبير من إنتاجي نتيجة لما يعهد به الآخرون إلي ـ وهذه الكلمات مثال على ذلك ـ فالأديب في عصر الإعلام ووسائل الاتصال الجماهيرية من إذاعة وتلفزيون وصحافة أحيانا لا يختار لنفسه بمقدار ما يختار له الآخرون.وفي حياة كل إنسان ألغاز كثيرة من المتعذر تفسيرها, فمثلا لماذا يصبح شخص تاجرا وآخر أديبا بل ولماذا يصبح شخص شاعراً وآخر قصاصا وهم إخوة في بيئة واحدة. وقد حدث مثل هذا في أسرتنا, فلي شقيق رجل أعمال, وآخران هما كاتب الأطفال يعقوب الشاروني والناقد التشكيلي الدكتور صبحي الشاروني. ومن الألغاز التي لا أستطيع أن أفسرها أنني اعتبر النقد (غرما) لا غُنم فيه, وأن نقد الناقد عمر مضاف إلى عمر المبدع مخصوم من عمره هو, ومع ذلك قد كتبت من النقد أضعاف ما كتبت من إبداع قصصي.

ومن خلال تجربتي اكتشفت ان الإبداع والنقد عمليتان متجاورتان, وأن المبدع هو الناقد الأول لعمله الفني. في أثناء الإبداع تتداخل العمليتان, عندما أنتهى من كتابة قصة أعيد قراءتها لأقدم كلمة أو أؤخر أخرى, وربما أحذف أو أضيف جملة, وقد أغير مكان الفقرات, تماما كما يحدث في عملية المونتاج السينمائي. ويجب أن تكون خلطة الإبداع ونقد الإبداع بنسبة دقيقة معينة حتى تستاغ, فغياب الوعي النقدي كثيرا ما يؤدي إلى بدائية العمل الإبداعي وسذاجته, وكثرته تؤدي إلى تغلب جرعة الفكر عليه بحيث يبتعد عن تلقائية العمل الإبداعي, كالطفل الذي يبكي ثم يرى نفسه في المرآة فيتوقف. لهذا أستطيع أن أقول إنني كمبدع ربما أفدت مني كناقد في جانب الكيف, وخسرت في الوقت نفسه في جانب الكم, وربما كسبت في العمق ما قد أكون خسرته في التلقائية.

ولقد حاولت طوال مسيرتي الأدبية أن أقترب بالنقد من العملية الإبداعية, فكثير من دراساتي النقدية عبارة عن إعادة صياغة للعمل الأدبي الذي أتعرض له تتخلله رؤيتي, لأنني أراعي في كتاباتي النقدية أن من لم يقرأ العمل الأدبي المتناول يستطيع أن يتتبع ما كتبت, والذي قرأه يجد شيئا جديداً فيما أكتبه. وأعتقد أن ذروة التقاء الإبداع بالنقد كانت في قصتي (زيطة صانع العاهات) و (مصرع عباس الحلو) المستلهمتين من رواية (زقاق المدق) لنجيب محفوظ, حيث أوضحت القصتان كيف يكون تناول هاتين الشخصيتين في قصة قصيرة بعد أن تم إبداعهما في رواية طويلة, وكيف اختلفت الرؤية نتيجة اختلاف كل من الكاتب والقالب الأدبي معا.

ولا تختلف العملية النقدية عندي كثيرا عن العملية الإبداعية, فأنا أبدأ أولا بمجهود إرادي أثناء قراءة العمل الأدبي, وإذا كان البعض يلجأ إلى وسائل مزاحية للاندماج فيما يقرأ ـ ابتداء من احتساء القهوة وتدخين السجائر على سبيل المثال إلى ما هو أكثر تغيبيا للوعي ـ فإني ألجأ إلى وسائل أدبية وذلك بمعاودة قراءة العمل وقراءة الأعمال السابقة للمؤلف نفسه إن وجدت, وما كتب مثله في أدبنا العربي وربما في الأدب الأجنبي.. كل هذا لا يلبث أن ينقلني من حالة المجهود الإرادي إلى حالة الاندماج الوجداني, تماما كالإنسان الذي تقابله لأول مرة في حياتك فلا تعرف عنه إلا شكله الخارجي بحيث لا تستطيع معرفته إذا استدعيت إلى شهادة ما. فإذا داومت على الاتصال به وتوثقت علاقتكما فإنه الا يلبث أن يكشف لك عن أسرار لا يبوح بها إلا لمستحقها. وهكذا تخلق صداقتي للعمل الأدبي ـ ولشخصياتي القصصية أيضا ـ ما يمكن تسميته بالرؤية الإبداعية, وهي رؤية لا يمكن أن تتحقق إلا عن طريق هذا الإندماج الوجداني ـ تدعمه دربة سابقة ـ والذي يكشف عما لا يمكن كشفه بأية وسيلة أخرى.

ولقد كان مدخلي إلى التراث ـ بعد قراءاتي السابقة فيه هو القيام بسياحة بين الكتب التي درست ظاهرة الحب مثل: طوق الحمامة لابن حزم, وذم الهوى لابن الجوزي, وروضة المحبين ونزهة المشتاقين لابن قيم الجوزية, وذلك حتى أكشف لنفسي ولغيري أن لغتنا العربية تستطيع أن تعبر عن أدق العواطف بأرق الألفاظ. فقدمت للقارئ العربي المعاصر مثل هذه المؤلفات بحيث يستطيع أن يتعرف بسهولة على كنوز تراثه. كما درسوا الصداقة واعتبروها أفضل من الحب.

مزاعم المستشرقين

وعندما دُعيت إلى هولندا عام 1981/1982 من إحدى المؤسسات العلمية قمت بإلقاء محاضرات على طلبة قسم اللغة العربية بجامعة لايدن حول موضوع (الحكاية في التراث العربي), وذلك تبديداً لما يقوله بعض المستشرقين ـ وسايرهم في ذلك بعض أدبائنا العرب ـ ان العقلية العربية لم تعرف القصة لأن صحراءهم منبسطة. وكان أساس دراستي تنظيراً نقدياً يقوم على تقسيم الأدب إلى مراحل طبقا لطريقة توصيله: مرحلة الأدب الشفاهي, فمرحلة المطبعة, فمرحلة وسائل الإتصال الجماهيري كالإذاعة والتلفزيون, فمرحلة الشريط السمعي والبصري, فمرحلة الإنترنت, ولكل مرحلة من هذه المراحل سماتها التي تنعكس على الشكل الأدبي بسبب طريقة التوصيل المستخدمة, مما شرحته بتفصيل في كتابي (مع الدراما). وعلى هذا الأساس فإن العرب ـ شأنهم شأن الغرب ـ قد عرفوا القصة الشفاهية في نفس الوقت تقريبا, أما القصة بمعناها الحديث فلم يعرفها الغرب إلا بعد اكتشاف المطبعة, وعرفناها نحن في شرقنا العربي بعد انتقال المطبعة إلينا ـ فالقصة الحديثة ابنة المطبعة وليست ابنة الغرب.

ومما أفدته من مكتبة جامعة لايدن حصولي على بعض كتب التراث غير المنتشرة لدينا مثل كتابي (عجائب الهند) و(أخبار الصين والهند), وهما كتابان تراثيان يتناولان رحلات العرب ملاحين وتجاراً ومهاجرين في المحيط الهندي. وإذا كان كتاب (أخبار الصين والهند) قد كتب في القرن الثالث الهجري, فإن كتاب (عجائب الهند) قد نُشر في القرن الرابع الهجري وهو نفس القرن الذي وردت فيه أول إشارة إلى ألف ليلة وليلة في كتاب (مروج الذهب) للمسعودي, مما يرجح أنهما من مصدر واحد. وقد اهتم الهولنديون والفرنسيون بالتعاون بترجمة هذين الكتابين إلى اللغة الفرنسية وعمل حواش لهما وتعليقات وكشافات. وقد استفدت من هذه الجهود وأضفت ما استطعت الحصول عليه من معلومات جديدة, وقمت بكتابة مقدمة للكتابين, وإعداد مجموعة من الكشافات, بحيث أصبح الفصلان في متناول القارئ العربي بطريقة علمية سهلة الاستيعاب. وقد نشرت (عجائب الهند) عام 1990, بينما لايزال (أخبار الصين والهند تحت الطبع).

وفي بداية الثمانينيات وصلت إلى سلطنة عمان لأول مرة, ولم أكن أعرف عنها إلا القليل. لكنني ما لبثت أن وجدتني أمام منجم بكر ملىء بالكنوز أغترف منه على المستويين: مستوى الرواية الشفاهية, ومستوى المطبعة, ويتمثل ذلك في الكتاب بصفة رئيسية, بحيث أحسست بأنني قد استرجعت شبابي, فقد كنت وصلت إلى مرحلة تشبع بالقراءة جعلتني لا أجد إلا القليل من الجديد فيها, لكنني ما أن استمعت إلى بعض القصص الشعبي العماني أثناء جولاتي المحدودة في الريف العماني, وما أن بدأت بالاطلاع على المكتبة العمانية التي كونتها في سنوات النهضة ـ ومعظمها كتب تراثية فقهية وشعرية وتاريخية ـ وزارتا الإعلام, والتراث القومي والثقافة, حتى عادت إلي فرحة الاكتشاف والحصول على الجديد, وهي فرحة لا يعرفها إلا الشباب, وتقل تدريجيا كلما تقدم العمر بالإنسان عندما تزداد خبرته فتقل دهشته.وهكذا أخصبت ذهني تجربتي في عمان فأوحت إليَّ بفكرة أكثر من كتاب يتضمن ما اكتشتفه لنفسي وأحرص أن يعرفه الآخرون. وحين غادرت سلطنة عمان في نهاية عام 1992ـ بعد تسع سنوات من الإقامة شبه الدائمة ـ كانت حصيلة ما نشرته عنها ستة كتب, غير البرامج الإذاعية والتليفزيونية التي تدور حول التراث العماني.

من قيم الثورة الى قيم الثروة

لقد ولد جيلنا في العشرينيات من هذا القرن وبرز أدبيا في الخمسينيات, واستمر بقوة الدفع الذاتي سنوات المحنة العربية يسبح ضد التيار, تنوشه سلطات من فوق وسلطات من تحت وتنافسه وسائل لا قبل له بمقاومتها, كالإذاعة والتليفزيون, إما أن يلبي إغراءاتها أو تزيحه جانبا ليصبح صوتا صارخا في البرية.كنا نكتب بحماس معتقدين أننا بأقلامنا سنغير العالم, سنطوره إلى الأفضل, سنضع أطراف أقلامنا على نقاط الضعف في مجتمعنا, سيجد المطحونون أنفسهم في سطورنا, وأن القصة وسيلة جماهيرية, والابنة الشرعية لعصر المطبعة. لهذا كنا حريصين على أن نكتب فناً وليس خطباً ولا وعظا. بعضنا كان فنه تلقائيا, وبعضنا كان فنه محسوبا, لكن معظمنا اتفق ـ ودون اتفاق ـ على ألا يتصارع فنه ورسالته, بل يتلاحمان بحيث يختفي كل منهما في الآخر.

وهكذا بدأنا نكتب لكي نغير العالم, فانتهينا لأن نجد العالم هو الذي يغيرنا. لهذا أعلنت أكثر من مرة أن جيلنا فشل في التغيير وإن نجح بعضنا في التعبير.

في بدايتنا الأدبية كنا كأبطال السير الشعبية لنا هدف واضح محدد نحلم بتحقيقه, وانتهينا كأبطال المآسي الإغريقية, كل منا نفسه منقسمة على نفسه, وقد اختلط الخير بالشر والليل بالنهار. هجرنا قيم الثورة إلى قيم الثروة.

من مدن طرقها هدوء وطمأنينة إلى غابات اسمنتية أكلت ما حولها من لون أخضر, وازدحمت طرقها بالقلق والخطر: الأمانة غباوة, والفهلوة شطارة, ونحن نتساءل: هل كل ما كتبناه باطل وقبض الريح؟ ونحن نلقي اللغز الذي يؤرقنا على كل من نلتمس عنده جواباً: من الذي أزاح دور الأدب جانبا حتى أصبح هامشيا إلى هذا الحد, وحتى لكأنما نحن في مجتمع انفصل فيه الرأس عن الجد. لا عجب أن كتبت منذ شهور قصتي قبل الأخيرة (الوقائع الغريبة لانفصال رأس ميم).

الغربة الأخرى التي عاناها جيلنا غربة وسيلة اتصالنا. المطبعة كانت لاتزال ملكة وسائل الاتصال في الأربعينيات وبداية الخمسينيات, وإن كانت الإذاعة قد بدأت تزحزحها عن عرشها, وشيئا فشيئا ما لبثت الكلمة المسموعة فالكلمة المرئية أن أرغمت الكلمة المطبوعة على القيام بدور ثانوي متواضع لاسيما الأدبية منها. تضاءلت دائرتها حتى كادت أن تنتهي إلى أن يقرأ الأدباء بعضهم البعض, ولا تصل كلمتنا إلى الأجيال التالية إلا لمن كان منهم يريد أن يتعلم الكتابة ليقفز إلى وسائل الإعلام الجماهيرية حيث الأضواء أشد إبهارا والعائد الأدبي والمادي أكثر إغراء. فلم يعد سبيل الأديب إلى الجمهور العريض إلا عبر هذا الوسيط.

كلمة أخيرة أقولها, ذلك أنني عندما تركت دنيا الوظائف كنت أظن منطقيا أنني سأجد وقتا أكثر من الفراغ للقراءة والكتابة, لكن واقعيا كان الأمر عكس ذلك تماما. كانت الوظيفة تنظم لي وقتي, وربما يرجع ذلك إلى أنها أصبحت عادة لي على مدى سبعة وأربعين عاما, لم أكن خلالها موظفا فقط بل ورب أسرة تشغلني شئون تعليم أولادي وعلاجهم وتربيتهم.

وقد أحالوني هم الآن أيضا بزواجهم أيضا إلى التقاعد, وإن كانت السعادة بالأحفاد ربما تفوق السعادة بالأبناء, ولعل ذلك راجع إلى أن نصيب الأجداد من الأحفاد هو الاستمتاع بلحظات مرحهم ومتابعة نموهم العقلي, بينما الآباء ـ بالاضافة إلى تلك المتع ـ يتحملون هموم تربيتهم. ولست أبالغ إذا قلت إن وقتي بعد ترك الوظيفة أصبح أضيق مما كان قبلها. ولقد عاونتني شريكة حياتي وناقدتي الأولى على مدى خمسة وأربعين عاما ـ هي عمر زواجنا ـ على كتابة كل كلمة نشرتها وقد بلغت أكثر من أربعين كتابا وكان آخرها هذه السيرة الذاتية/ الأدبية الموجزة.

 

يوسف الشاروني

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




يوسف الشاروني





من مؤلفات يوسف الشاروني





من مؤلفات يوسف الشاروني





من مؤلفات يوسف الشاروني





من مؤلفات يوسف الشاروني





من مؤلفات يوسف الشاروني





من مؤلفات يوسف الشاروني





من مؤلفات يوسف الشاروني





من مؤلفات يوسف الشاروني





من مؤلفات يوسف الشاروني