إلى أن نلتقي

إلى أن نلتقي

قات و .. خمسة نجوم

كان الأقدمون يقولون إن الحكمة يمانية . ولكن يبدو أن الحفاوة يمانية أيضا ، وأن كرم الضيافة الذى تتحدث عنه كتب التراث العربى قد تسللت تقاليده الأولى من فوق جبال اليمن وعبر صحراء تهامة . ففى زيارتى الأخيرة لذلك البلد العربى الشقيق اكتشفت أن الخلافات السياسية يجب أن تكون دائما شيئا عابرا ، وأن الجوهر العربى هو ما ينبغى علينا جميعا أن نلتقى تحت ظله . ويبدو أن الحفاوة اليمانية تطال كل شئ حتى المجنى عليهم كما يقولون . فقد سمعت أن بعض السياح الأجانب- ومعظمهم من النساء- اللواتى تم اختطافهن و احتجازهن فى اليمن على يد بعض رجال القبائل ثم أفرج عنهن بعد ذلك قد عدن مرة أخرى لزيارة اليمن وللتجول بحرية فى كل الأماكن .

وليس لهذا إلا تفسيرا واحد هو أن " الحفاوة " بالمختطفات كانت من فئة خمسة نجوم لدرجة أنهن يسعين إلى خطف جديد أكثر رومانسية و .. نجوما .

ولا بد أن تأخذك الحفاوة اليمانية أيضا- بعد لقاء الأدب والفكر والشعر- إلى مجالس القات . والحقيقة أن كل هذه الأشياء لا تزدهر إلا فى ظل هذا المجلس الذى تمتد جلساته كل يوم من الساعة الرابعة حتى الساعة التاسعة مساء وهى فترة طويلة جداً من النادر أن يتخلف عنها أحد . وبرغم ذلك فلا تقابل أحد إلا ويشكو لك من سطوة القات . وهم يسمونها الشجرة الشيطانية . وهو وصف دقيق إلى حد كبير . فقد استطاعت الانتصار على شجرة البن التنى كانت مصدر شهرة اليمن وعزها . وهى الآن فى سبيلها للانتصار على أشجار العنب اليمنى أيضا . وهكذا يحق علينا المثل " لاطلنا بلح الشام ولا عنب اليمن " فشجرة القات لا تعترف بالفصول لأنها دائمة الخضرة ، ولا تريد درجة خصوبة معينة لأنها قادرة على النمو فى كل مكان . ولا تتأثر بالآفات ، ولا التغيرات الجوية . فكيف كان لشجرة رهيفة كشجرة البن أن تقاومها ، أو كيف يمكن لعناقيد العنب الغضبة أن تقف فى سليلها . خاصة أنها كالدجاجة اتى تبيض ذهباً؟

لقد بلورت هذه الشجرة الشيطانية شكل المجتمع اليمنى رغما عنه . وفى كل أرجاء العالم فإن المدينة دائما أغنى من الريف إلا فى اليمن . فالفلاح يستولى على راتب الموظف يوميا ويعطيه هذه الأوراق الخضراء . ومن المناظر المألوفة فى ساعة انصراف الموطفين أن يتأبط كل واحد منهم حزمة من أغصان القات ولا يستطيع صبرا حتى يصل إلى المنزل أو المجلس ، يل يأخذ بتسلية نفسه ومضغ أوراقها طوال الطريق لفتح الشهية .

اليمن هى مهد الشعر والشعراء . ولكن شجرة القات تزيح ايضا أشجار الشعر من أمامك فلا تسمع أنغامها .ويزيد من العجب أن تجد صورتين من كل أناس اليمن : إنساانا واعيا مثقفا يفهم هموم مجتمعه وهموم العالم ، ويعرف كيف ينقد نفسه وكيف يفكر فى طرق الخلاص للمستقبل ، وإنسانا آخر مستسلما لهذه العادة الغريبة ، التى تعطيه الكثير من النشاط والحيوية ولكنها تلسبه كل ماله وجهده ، وأحيانا قوت أطفاله .

مع ذلك تبقى مساوئ القات أخف من ويلات المخدرات ، وهو ما يعيدنا إلى بطل نجيب محفوظ الذى سألوه يا أنيس ، أنت دائما مسطولا ، ألا تصحوا أبدا ؟ فأجاب : بلى ، فى الصباح فقط . بينما القات يحدد الصحو إلى .. ما بعد الظهر .

 

أنور الياسين

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات