الأحلام.. منجم لم يُستثمَر بعد

الأحلام.. منجم لم يُستثمَر بعد

بالرغم من أن الأحلام تكون ركناً أساسياً من أركان وجودنا النفسي والجسدي، فإن الوعي بها، من منظور طبي علمي، يكاد يكون وقفاً على المختصين، مما يعيق استثمارها في خدمة الصحة البشرية، وهي منجم عظيم الفائدة لمن يجيد استثماره.

كانت للأحلام دائما أهمية كبرى منذ القدم، وكان هناك في كل العصور من يفسر الحلم، مارس الكهنة في اليونان القديمة ذلك في معبد أبوللو إسكولابيوس، فقد كان الناس يذهبون ليؤدوا طقوسهم ويتطهروا عن طريق التدليك ويستلقوا حالمين طالبين المشورة من الكهنة. واهتم المصريون القدماء بالأحلام، وهناك ورقة بردي مصرية قديمة تقول: «لو أن أمرأة قبلت زوجها في الحلم لواجهت المتاعب، ولو أنها ارتبطت بحمار فسوف تعاقب على خطأ عظيم، أما الارتباط بماعز فالموت السريع قادم، وولادة القطة معناه إنجاب أطفال كثيرين، أما ولادة الكلاب فهو انجاب للولد»! لكن السؤال العلمي الذي يخطر على البال: ماذا يحدث في المخ البشري أثناء الحلم؟ وماذا لو حرم الإنسان من الأحلام؟ وهل كل الناس يحلمون؟ وهل كلنا يمكن أن نتعلم كيف نتذكر أحلامنا؟ هذه محاولة لإجابة علمية عن هذه الأسئلة.

الطبيعي والخارق

العلوم الحديثة تصف الحلم بأنه نشاط عقلي أو خليط من المعتقدات والصور والعواطف يحدث خلال النوم، وأغلب الأحلام تحدث خلال مرحلة النوم السريع للعينين (REM sleep)، وهي الفترة التي تستغرق في العادة من 20 - 25 % من فترة النوم الكلية. ويقوم الباحثون بدراسة النوم بتسجيل نشاط المخ الكهربي عبر موصلات كهربية تثبت في فروة الرأس، ومراحل النوم تحدث في تتابع مستمر من المرحلة الأولى إلى مرحلة النوم السريع خلال تسعين دقيقة ثم تتوالي من جديد. وهذا التتابع يحدث عبر النوم كله، ومع كل موجة من موجات النوم تطول فترة النوم السريع للعينين وبالتالي فإننا نحظى بأربع أو خمس فترات من النوم السريع كل ليلة تتراوح زمنيا ما بين خمس الى خمس وأربعين دقيقة في كل منها ،وإن كانت هناك بعض الآراء تدعي انفصال نوم الحركات السريعه للعينين عن الأحلام. وقدحاول العالم ديمنت (Dement) بعد اكتشاف نوم الحركات السريعة وعلاقته بالأحلام أن يدرس الطول الحقيقي للأحلام بأن قام بايقاظ المفحوصين بعد بداية حركات العيون السريعة، أو بعد مدد أطول تتيح له المقارنة، وأظهرت نتائجه أن مدة الحركات السريعة للعينين تتناسب مع طول الحلم في الغالب. وإن كانت فترة الأحلام لا تقتصر على نوم الحركات السريعة فقط، فالقصص الشبيهة بالأحلام يمكنها أن تزورنا في أثناء دخولنا في النوم واستسلامنا للنعاس.

وفترة الحركات السريعة للعين هي نشاط عصبي وفسيولوجي، وعندما يكون النوم عميقا جدا تختفي الأحلام والموجات الكهربية، في هذه الحالة (موجات دلتا) تأتي في معدلات تبلغ ثلاث موجات في الثانية، وفي حالة نوم الحركات السريعة فإن الموجات تأتي بمعدلات 60 - 70 في الثانية ويقوم المخ بتوليد طاقة كهربية تبلغ خمسة أضعاف ما ينتجه في حالة اليقظة، وفي هذه المرحلة من النوم تتزايد المعدلات الفسيولوجية للتنفس وضغط الدم ومعدل النبض بشكل درامي. ولأنه لا يوجد خارجيا ما يفسر ذلك فإنه لا يوجد تفسير إلا أن يكون المخ نفسه هو الذي يفعل ذلك. أو ربما يكون هناك تفسير آخر هو أن يكون هناك عامل خارجي غير ملموس لنا حتى الآن أي غير عضوي أو غيبي. وهذا التفسير الأخير الذي يقول إن الأحلام ربما كانت البوابة الى عوالم أخرى غير مرئية أو مما وراء الطبيعة، لكن يبدو أن هذا الافتراض يبقى دون سند على الرغم من قدمه الشديد. لكن هناك الكثير من العوامل التي تدحض هذه الفرضية منها أنك تحلم بالموتى وبالأزمان القديمة والآتية،وهناك أحلام تبدو غير واقعية بالمرة وموغلة في الغرابة لدرجة تستعصي على التصديق بأنها وسيلة اتصال بالعالم الغيبي أو الآخر. وحقيقة أن الجزء المتحكم في نوم الحركات السريعة للعين هو الجزء البدائي الواقع في جذع المخ (القنطرة pons) وهو نفسه المتحكم في العمليات الفسيولوجية مثل التنفس، وهذا يجعل فرضية حدوث الأحلام نتيجة بواعث داخلية أقرب إلى التصديق. ولو جاز لنا أن نعتقد أن الأحلام ضرورية للبشر لهدف لم نتفق عليه بعد، فإن ماذهب إليه العالم روبرت (السابق على فرويد) يكون صحيًا تماما إذ قال: «من يُحرم من الأحلام فلابدّ أن ينتهي أمره في النهاية الى الخبل، فإن قدرا هائلا من الأفكار التي لم تكتمل والتي لم يتم التصرف بشأنها سوف تتجمع وتتراكم لتصاب هذه الأفكار بالاختناق».

وفي عصرنا الحالي قليل من العلماء من يعتقد أن الأحلام هي رسائل غيبية، لكن علماء مثل شارلز تارت (Charles Tart) يعتقدون أن الأحلام تقدم بوابة لعالم آخر وإلى عوالم النفس المتألقة (النرفانا)، ربما كانت أدلته على ذلك خبرات شخصية اومعتقدات خاصة، وقد ادعي أنه شخصيا سجل لحالات عدة في معامل علمية للنوم ما يثبت أن الحالات كانت تتمشى بشكل خارق أثناء النوم، بل يمكن وصفها بالطيران! ويقول نيتشه (أنت تود أن تكون مسئولا عن كل شيء فيما عدا أحلامك، يا له من افتقار للشجاعة، إنك لا تجد شيئا من صنعك وحدك قدر أحلامك)! أما فرويد فيقول: «إن تفكيرنا العلمي في الأحلام يبدأ من افتراض أنها نتاج لنشاطنا العقلي. ومع ذلك يبدو الحلم في النهاية غريبا عنا لدرجة أننا نقول: رأيت حلما أو مناما أو أتاني حلم أو منام لكي نبتعد بأنفسنا عن المسئولية».

في بحار الأحاسيس والعواطف

خلال أحلامنا يقوم جذع المخ بشل أطرافنا عن الحركة أثناء النوم، والناس الذين يعانون خللا في تلك المنطقة من المخ يعانون من المشي أثناء النوم ويصبحون خطرا على أنفسهم وعلى الآخرين، هؤلاء البشر لا يتركون أجسامهم أثناء النوم، بل يتركون فراشهم أثناء نومهم.والصفة الأخرى الغريبة من نشاطات المخ أثناء الأحلام هي أن أغلب الأحلام يتم نسيانها. وهذا لا يتم تبعا لأي ظاهرة غريبة ولكن لضعف التسجيل weak encoding وهو الأمر المهم لحفظ الذاكرة عبر حفظ المعلومات الحياتية، وهي معلومات يتم خزنها عبر مناطق معينة من المخ، وتتم بدورها عبر اتصالات خبراتية. بمعنى أن الحدث الذي له علاقة مثلا بتأثير عاطفي جياش يتم تذكره بسهولة، أما الحدث الذي لا يحمل أية تأثيرات عاطفية يتم نسيانه بسهولة. تخزين الذكريات العاطفية يتم في مكان ما من المخ ليس هو نفسه الذي يتم فيه تخزين الذكريات البصرية. ويتم الاتصال بينهما عبر اتصالات عصبية. وهناك بعض الناس يقومون بتقوية ذاكرتهم بأن يستيقظوا ليدونوا أحلامهم. ويقوم آخرون بالبقاء في فراشهم وخلق بعض التركيبات مع الحلم تساعد على التذكر، أو وضع عناوين لأحلامهم وغرض للحلم. ويقول الشاعر السويسري كارل شبتلر (Carl spittler) «إن الأحلام لا يمكن أن تحكى، ذلك أنها تتحلل عندما يحاول الذهن العقلاني أن يمسك بها في كلمات».

وأغرب صفات الأحلام هي أننا لا نعي وقتها أننا نحلم، حيث يهبط نشاط القشرة المخية الأمامية، الموكول إليها إدراكنا بأنفسنا وحين يغيب دور هذه المنطقة من المخ لا يدرك الشخص أن ما يحلم به غير حقيقي. ويعتقد البعض أن توقف نشاط تلك المنطقة من القشرة المخية يعطي الراحة المطلوبة للعقل أثناء النوم، وحين ننام تقوم منطقة المهاد (thalamus) بمنع النيورونات من توصيل الأحاسيس لقشرة المخ العليا أي تمنع المراكز العليا للمخ من التحكم، لتعطيها فرصة للراحة، مما يفسر لماذا لا يستطيع المحرومون من النوم أن يفكروا بشكل حيوي وخلاق.

وخلال نوم الحركات السريعة للعينين تقوم المناطق الموكول إليها عملية تركيب وتثبيت الذاكرة للخبرات العاطفية، بنشاط بالغ. ويقول العالم بيكر(Baker) إن «الأحلام هي لجان الرقابة على الروح watchdogs of the psyche» أي أنها عبارة عن مجرد وسائل تقودنا في بحار الأحاسيس والعواطف. أي أنها تعبير عن رغباتنا ومخاوفنا التي لأسباب عدة ربما يتم كبتها في اليقظة، وطبقا لهذه النظرية فإن شخصا حميمًا فقط وله علاقه بصاحب الحلم يمكنه أن يفسر الحلم.

على قنطرة المخ

هناك رؤيتان علميتان مختلفتان للأحلام، الأولى لهوبسون Hobson، والثانية لسولمز Solms وإن كانا يتفقان في أن التوصيلات العصبية والكيميائية للدماغ المتوسط midbrain هي المسئولة عن الأحلام، وإن كانا يختلفان في أصل التوصيل الفسيولوجي العصبي فيعتقد هوبسون أن الأحلام تنبع من قنطرة المخ (pons) التي تقوم بإطلاق النوم ذي الحركات السريعة للعين. حيث تنطلق الإشارات الفوضوية من القنطرة إلى الدماغ الأوسط، ولهذا تبدو الأحلام غير مترابطة وعشوائية. ويعتقد الآن أن الدماغ الأوسط يقوم بانتقاء لهذه الإشارات الفوضوية أثناء نوم الحركات السريعة للعين. ويعتقد هوبسون أنه في غياب السلطة العليا لمراكز المخ الأعلي prefrontal cortex فإن الناتج لابد أن يكون بدائيا، لأنه قادم من المنطقة المسماة (المخ العاطفي) ويعتقد هوبسون أن كل النوم تقريبا هو نوم الحركات السريعة للعين! وقد أعاد هوبسون التذكير في عام 2000 بأن هناك نوعا من التدخل للدماغ الأمامي على حركة العين السريعة (REM - sleep) خاصة من خلال تحت المهاد hypothalamus لكن سولمز Solms (1997) يعترض على هذه النقطة بأن أبحاثه على المرضى المصابين بإصابات المخ أثبتت أن الأحلام ممكنة حتى من دون نوم الحركات السريعة للعينين. كما يرفض سولمز الربط الكامل بين نوم الحركات السريعة والأحلام فهناك 10 % من تقارير نوم انعدام الحركات السريعة تثبت أنه لا يختلف عن نوع النوم الحالم الخاص بالحركات السريعة للعينين، من حيث التكوين. لكنه من المتفق عليه أن نوم الحركات السريعة هو المحرك الأول للأحلام. أيًا كان الخلاف بين العلماء، فإن المخ ينشط بشكل بالغ أثناء الأحلام ويصدر طاقة كهربية أكثر من طاقات اليقظة.

هل تريد أن تتذكر أحلامك؟

عُرف أن العالم الكيميائي فردريش أوجست كاكولي، حاول لفترة طويلة أن يتوصل إلى التركيب الكيميائي للبنزين دون جدوى، ولكنه كان ينام على الفكرة نفسها، فقد استيقظ من نومه ذات ليلة وقد رأى في منامه ستة ثعابين كل منها يعض ذيل الآخر، لتتكون منها في النهاية حلقة كبيرة دوارة، استوحى منها تركيب البنزين الذي يشبه في تكوينه الثعابين الستة أو ذرات الكربون الستة! لكي تستفيد من أحلامك يجب أن تتعود أولاً كيف تتذكرها. ولكي ندرك متى نحلم يجب أن نعلم أن أحلامنا تحدث في العادة كل 90 دقيقة تقريبا من بداية النوم، أي في توقيت نوم الحركات السريعة للعينين، أي أنك إذا استيقظت بعد 90 دقيقة يمكنك أن تساعد نفسك على تذكر تلك الأفكار الطائرة، ويمكنك أن تكرر ذلك كل تسعين دقيقة، بل يمكنك أن تحترف الإمساك بأفكارك إذا قمت بتدوينها تحت عناوين معينة وتربطها بأحداث مميزة لك، ثم تعاود قراءتها كلما ذهبت الى فراشك. إن هذه الرياضة الروحية، جعلت البعض يحاول أن يتحكم حتى في أحلامه بأن يحتفظ بجزء من الشعور والوعي أثناء الحلم لكي يستمتع بحرية في (سينما الأحلام). ويمكنك أن تنجح في رؤية أربعة أحلام أو أكثر كل ليلة!!بل إنك يمكن أن تتجول في أحلامك بجزء من وعيك لعله يمكنك من تذكر ما رأيت من أحلام!!.

تلفَّتَ القلبُ مطعوناً لوحدته وأين وحدته؟ باتتْ كما باتا!
حتى إذا لم يجدْ ريّاً ولا شبعاً أفضى إلى الأمل المعطوب فاقتاتا


إبراهيم ناجي

 

محمد يوسف علوان

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات