الكواكبي في زمانه

الكواكبي في زمانه

في زمن مخاض الشعوب العربية، آملةً بربيع لا محال آت، نستعرض مسارًا حافلاً لعالم اجتماعي متنوّر، وداعية من دعاة الإصلاح في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين. ليس المبتغى العودة إلى مقولات تخطاها الزمن كقيام الجامعة الإسلامية، بل لنأخذ العبر من نضال روّاد النهضة العربية الذين كافحوا بالرأي الحر، وشحذوا أقلامهم الحرة ونادوا بأقطار نهضوية نهلت من منظومة القيم التي بعدت عن التعصب الديني والتحجّر الفكري، وعملت جاهدة لإرساء مبادئ الإصلاح والتقدم.

***

«الاستبداد أشد وطأة من الوباء، أعظم تخريبًا من السيل، أذل للنفوس من السؤال، إذا نزل بالنفوس سمعت أرواحهم هاتف السماء ينادي القضاء القضاء، والأرض تناجي ربها بكشف البلاء..»، و«مستبد في لحظة جلوسه على عرشه ووضع تاجه الموروث على رأسه يرى نفسه كان إنسانًا فصار إلهًا..».

كلمات من ذهب كتبها المفكر عبدالرحمن الكواكبي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، فأين نحن منه اليوم في خضم الربيع العربي في مشرق البلاد العربية ومغربها؟ ومن هو هذا المفكر الفذّ؟

هو علم من أعلام الشرق، عربي سوري، رائد من روّاد التعليم ومن روّاد الحركة الإصلاحية العربية، وكاتب ومؤلف ومحام وفقيه شهير.

وُلد في عام 1271هـ الموافق 1849م في مدينة حلب لعائلة لها شأن كبير. والده هو أحمد بهائي بن محمد بن مسعود الكواكبي، والدته السيدة عفيفة بنت مسعود آل نقيب وهي ابنة مفتي أنطاكية.

أمضى الكواكبي حياته مصلحًا وداعيًا إلى النهوض والتقدم بالأمة العربية. ولهذه الغاية شكّل النوادي الإصلاحية والجمعيات الخيرية التي تقوم بتوعية الناس، كما دعا المسلمين لتحرير عقولهم من الخرافات. قسّم الأخلاق إلى فرعين: فرع أخلاقي يخدم الحاكم المطلق، وفرع يخدم الرعيّ أو المحكومين. ودعا الحكام إلى التحلي بمكارم الأخلاق لأنهم الموجّهون للبشر. ونادى بإقامة خلافة عربية على أنقاض الخلافة العثمانية. كما طالب العرب بالثورة على الأتراك، ولم يفته أن يحمّل الحكومة العثمانية المستبدّة مسئولية الرعيّة.

ألف العديد من الكتب، ومن أشهرها كتاب «أم القرى». نشر باسم مستعار هو «الرحالة ك»، في جريدة المؤيد القاهرية، مقالات عن الاستبداد ما لبث أن نقّحها وزاد عليها ونشرها لاحقًا في كتاب حمل عنوان «طبائع الجهل على العلم واستبداد النفس على العقل». وكتب قائلاً: «الاستبداد لو كان رجلا يحتسب وينتسب لقال: أنا الشر، وأبي الظلم، وأمي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسكنة، وعمي الضرّ، وخالي الذل، وابني الفقر، وابنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة، ووطني الخراب، أما ديني وشرفي وحياتي فالمال المال المال..».

ترك تراثًا أدبيًا كبيرًا. ومازالت سيرته وكتبه ومؤلفاته تشكّل مرجعًا مهمًا وموثوقًا لكل باحث ومهتم بالفكر العربي في عصر النهضة.

توفي في القاهرة عام 1902 ودُفن فيها. ورثاه كبار رجال الفكر والشعر والأدب في سورية ومصر ونقش على قبره بيتان للشاعر حافظ إبراهيم:

هنا رجل الدنيا هنا مهبط التقى
هنا خير مظلوم هنا خير كاتب
قفوا واقرأوا (أم الكتاب) وسلّموا
عليه فهذا القبر قبر الكواكبي

وتخليدًا لذكراه، أقيم مسجد كبير حمل اسمه في حي العجوزة بمحافظة الجيزة. كما أقيم له تمثال في مدينة حلب في حديقة السبيل، شيّده الفنان وحيد استانبولي.

كرّمته الطوابع السورية بإصدار طابع بريدي عام 1960، وآخر عام 2009 حملا رسماً لصورته.
--------------------------------
* كاتبة من لبنان.

 

هدى طالب سراج*