النحات سعيد مخلوف مُروّض الخامات العنيدة

النحات سعيد مخلوف مُروّض الخامات العنيدة

بهذا الفنان تابعت حركة النحت السوري الحديثة صعودها، فهو واحد من أبرز ممثلي هذه الحركة وأهمهم وهو الذي استطاع خلق مدرسة نحتيّة خاصة به، تميزت بالتلقائيّة والعفويّة، والحضور الفاعل والمؤثر في التشكيل السوري الحديث.

كان سعيد مخلوف أول نحات اعتمد الخشب، وجذوع الشجر خامة لتنفيذ أعماله النحتيّة منها، خاصة جذوع وجذور شجر الزيتون المتوافرة في مسقط رأسه (بستان الباشا)، كما استطاع أن يحوّل محترفه في مدينة معرض دمشق الدولي خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، إلى مركز استقطاب لعدد كبير من المواهب الفنيّة الشابة، بينها عدد من طلبة قسم النحت في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، حيث عمّقوا لديه خبراتهم العمليّة، وأخذوا عنه حب التعامل مع خامة جذوع الشجر، ومن بينها أسماء أصبحت معروفة وحاضرة بتمايز في النحت السوري المعاصر: مثل أكثم عبد الحميد، ومحمد بعجانو، ومظهر برشين.

البدايات

كانت البدايات الأولى لسعيد مخلوف في بلدته «بستان الباشا» الساكنة زند البحر الأبيض المتوسط، والمتمرئية بسهوله الخصيبة (ولد فيها عام 1925 وتوفي في دمشق عام 2000).

بدأ سعيد مخلوف رحلة الفن الطويلة الشاقة والسعيدة عام 1932 بمحاولات واعدة فوق هوامش دفاتر المدرسة. في العام 1946 اختلف الأمر، إذ سرعان ما خرج من هوامش دفاتره الحبيبة إلى اللوحة الكاملة المقومات والخصائص، ثم إلى النحت وملحقاته من الفنون التي يندرج بعضها تحت اصطلاح «الفنون التطبيقيّة» وبعضها الآخر أقرب إلى الحرف والصناعات اليدويّة. وبالتدريج أصبح كل شيء حوله يُثيره ويُحرضه ويُغريه للمضي بعيدًا في الكشف والبحث والتجريب.

هكذا ابتدأت رحلة الفن الصعبة - الجميلة، في عالمه المثير الطافح بالإنتاج والمغامرة والتجريب الذي لم يعرف حدًا ولا وقف عند حد. في البداية قام سعيد مخلوف بإنجاز مجموعة أعمال فنيّة بطريقة النحت النافر على الحجر أخذت طريقها إلى معرض جماعي، وحصلت على الجائزة الأولى، ما دفعه لمتابعة التعامل مع هذه الخامة. وفي الوقت نفسه، استهواه المسرح، فلعب بعض الأدوار الدرامية، ثم انقطع عن ممارسة الفن لمدة خمس سنوات.

مع بداية العام 1962 أنجز أول منحوتة من الخشب. كانت هذه الفترة بالنسبة لسعيد مخلوف ضائعة بين الرغبة بالتسلية والرغبة بالتعبير عن بعض هواجسه الخاصة. إذ كان يشعر وهو يمارس فن النحت أنه في معركة مع أقوياء، معركة لا يملك فيها سوى اجتراح فعل الإبداع سلاحاً يحاربهم فيه. أواخر خمسينيات القرن الماضي ومطلع ستينياته، انتقل سعيد للإقامة في بيروت، عمل خلالها بالتمثيل، واشتغل (بالماكياج) والتصوير. في العام 1962 عاد من لبنان إلى بلدته «بستان الباشا»، حيث ابتدأت انطلاقته الكبرى مع النحت.

الانطلاقة والشهرة

خلال هذه الفترة، عكف سعيد مخلوف على تنفيذ العديد من الأعمال النحتيّة الحجريّة والرخاميّة والخشبيّة. عقب إنجازها، حملها جميعها إلى دمشق، وشارك بها في معرض الدولة الرئيسي الذي كان يحمل آنذاك اسم «معرض الخريف».

قبلها كان يخشى العرض، بالرغم من تشجيع من حوله على تقديم أعماله للناس. عام 1964 أقام أول معرض فردي له في بيت السيدة «مورلي». وفي العام نفسه، أقام معرضه الفردي الثاني في صالة المركز الثقافي العربي بدمشق، ومنذ العام 1966 انقطع عن العرض كليًا في المعارض الرسمية. أما انطلاقته الكبرى فكانت من خلال معرضه بصالة «إسباس» بدمشق، الذي عرّف الناس عليه عن قرب، وبشكل جيد وصحيح، غير أن تجربة سعيد مخلوف الأبرز والأهم، كانت في المرحلة التي بدأ فيها يعالج جذوع الشجر (خاصة جذوع شجر الزيتون الوسيمة المباركة)، وهذه التجربة تحولت فيما بعد، إلى مدرسة نحتيّة قائمة بذاتها في الحياة التشكيليّة السوريّة المعاصرة، مدرسة تربى فيها العديد من النحاتين السوريين الشباب، وهم يملأون اليوم شرايين هذه الحياة، بصخبهم المحبب، وجميعهم تحدروا من مدرسته التي جمعت بين الحس البدائي العفوي والخبرة المكتسبة بالممارسة الدءوب.

عمر طويل أمضاه سعيد مخلوف في ممارسة النحت الذي تعلمه بنفسه، عالج جذوع الشجر الصلبة، بتلقائية ووعي في آنٍ معاً، ما جعل هذه الجذوع تستكين إلى يديه، وتتلوى تحت ضربات مطرقته وإزميله، كما تتلوى الفرس الحرون أمام سائسها القوي الماهر المُدَرب المتمكن من أسرارها.

عبر جذوع شجر الزيتون المبارك، جاء صوت هذا النحات قوياً، واضحاً، فاعلاً، جميلاً، كاتباً بذلك السطور الأوضح في سفر النحت السوري الحديث.

العالم الثالث

لقد استنهض سعيد مخلوف من هذه الجذوع أشكالاً فراغيّة كثيفة العناصر والرموز، مليئة بالفراغات، حاشدة بالمعاني والدلالات الحكائية الأدبية المأخوذة بشكل مباشر وعفوي وصادق من الحياة الاجتماعية حوله، ولأنه أقام حوارًا صادقًا ومتكافئًا مع وسيلة تعبيره الطبيعية، وقام بتأمل جذوعه طويلاً قبل أن يبادر إلى تضاريسها بمطرقته وإزميله، تمكن من أن يستل منها ما اكتنزت عليه من تكوينات وأشكال، شديدة الغنى تشكيليًا ودلاليًا قادته الطبيعة نفسها إليها !! ولكي يؤكد فكرة العمل ومضمونه، كان يقوم بشخصنة تلافيف الجذع، مانحًا إياها هيئات رجل، أو امرأة، أو طفل، أو حيوان، بصيغة محوّرة، بسيطة، مختزلة، تفرضها عليه الخامة أحيانًا، ويفرضها هو عليها أحيانًا أخرى، موازنًا فيها بين الكتلة والفراغ، وبشكل متناوب، ثم يطلق على مجمل ما شخصنه في المنحوتة من هيئات ورموز، عنواناًَ عريضًا للدلالة على الموضوع أو الفكرة التي أرادها، وفي أحايين كثيرة، كان يعمم عنواناً رئيسًا، على نتاج مرحلة كاملة في تجربته، مثال ذلك مرحلة «العالم الثالث»، التي استخدم في إنجاز أعمالها جذوع شجرة الزيتون المليئة بالعقد، تمامًا كما هو الحال في هذا العالم. فقد كان سعيد مخلوف يكرر دائماً أن شجرة الزيتون هي مثل هذا العالم، تكتنز على مخلوقات تتألم وتستغيث وترفض، ومهمته كنحات كانت الكشف عنها وتأكيدها.

تطور ونضج

بالتدريج، بدأ النحات مخلوف يُكثّف ويختزل وينوّع في أعماله الخشبيّة، مستنهضًا تكوينات جديدة، أكثر نضجًا فنيًا وتقانيًا من سابقاتها، فقد أخذت كتلة المنحوتة لديه تتخلص من الحشد الكبير للعناصر الصاعدة والنازلة، ومن الفراغات الكثيرة والمعقدة التي تتجمع داخلها، بأكثر من شكل وإيقاع، لتقتصر على كتلة رئيسية شاقولية أو أفقية، مدروسة حجمًا وفراغًا. كما أن التمثيل الهيئاتي المباشر، تقلص في المنحوتة الجديدة لمصلحة نزعة تجريديّة حديثة متوازنة كتلةً وفراغًا ودلالة، لكنها بالرغم من تجريديتها، ظلت تشير إلى الهيكليّة الإنسانيّة، إنما بإيجاز شديد معبّر وبليغ ومقروء. رافق ذلك تطور مواكب طاول ملمس المنحوتة وتكنيكها وإخراجها وتوازنها وحركتها وحضورها المعبّر في الفراغ. فقد اكتست سطوحه الجديدة ملمسًا مصقولاً حاور ملمسًا آخر، ترك فوقه آثاراً باهتة لحركة الإزميل، تختلف كثيرًا عما فعله في المنحوتات السابقة التي بالغ في خشونة سطوحها إلى حد أوقعها في الرتابة والميكانيكيّة الباردة.

ومن الإضافات المهمة والبارزة التي حملتها منحوتة سعيد مخلوف الأخيرة، إشاحته عن النزعة التشخيصيّة الحكائية لمصلحة الموضوع البسيط (علاقة المرأة بالرجل)، والمعالجة النحتية القائمة على حركة الكتلة المتوازنة حجمًا وفراغًا، وبساطة السطوح واستمرارها، وقوة ارتباط الكتل المُشكّلة للمنحوتة، وتاليًا الحضور المعبّر والجميل لكتلة المنحوتة ككل في الفراغ.

خلال هذه المرحلة، قدم سعيد مخلوف أفضل أعماله الخشبيّة، كما قام بإنجاز مجموعة منحوتات حجريّة لافتة، توزعت في أكثر من مكان في سورية، إضافة إلى مجموعة أعمال نصبيّة في لبنان وسورية، منها العمل المشترك مع الفنان محمود دعدوش الموجود في مدخل مطار دمشق الدولي.

بعد ذلك، عكف الفنان مخلوف على إنجاز مجموعة من التجارب المتفرقة، بخامات ومواد مختلفة، داخل محترفه في مدينة معرض دمشق الدولي، منها مجموعة أقنعة (ماسكات) مستوحاة من التاريخ السوري القديم، وبعض أعمال الخزف، وتشكيلات طريفة من عظام الحيوانات، صغيرة الحجم، خياليّة السمة، قام رائد المصورين الضوئيين السوريين «مروان مسلماني» بنقلها إلى صور ضوئيّة معبرة، انضوت في معرض لافت.

هذه التجارب المتفرقة كلها، مارسها سعيد إلى جانب المنحوتة الخشبية التي ظلت الحاضر الأكبر والأهم والأبرز، في مشغله وحياته وتجربته الفنيّة المتفردة. واختياره لجذع الشجرة، مادة أساسية لأعماله، كان مقصودًا لأن هذا الجذع كائن حي مات، وهو بالفن حاول خلقه من جديد، وإعادة الدفء والحياة إليه.

شكلّت المنحوتة الخشبيّة لسعيد مخلوف انعطافة كبيرة في حركة النحت السوري الحديث، فهو أول من أدخلها إليه، وبالتدريج شدت إليها مجموعة من المواهب النحتيّة الشابة، وجلها جاء من الريف السوري الذي جاء هو منه. لقد أخذت هذه المواهب من سعيد وسيلة التعبير، وطريقة التفكير، وحبها لأرضها وتراثها، ثم انطلقت لتشكل حضورها الخاص والمتميز في التشكيل السوري الحديث، الذي ظل يُشير بهذا الشكل أو ذاك، للمعلم الأول الذي فتح لها قلبه ومشغله.

يرى مخلوف أن الشكل هو الأول في العمل النحتي، لذلك عليه حين يحمل فكرة معينة اختيار المادة الملائمة لتجسيد ترابط الشكل والمضمون، ويعتقد أن الفن يبدأ بالعادة وينتهي بالمعرفة مرورًا بالبحث والتساؤل، وهو لم يأخذ التراث كشكل، ولكنه كان يعي مغزاه، ويستل منه روحه ليسكبها في أعماله، لكن بصيغة جديدة، بعد تمثله بشكل سليم.

سعيد مخلوف، نحات صنع نفسه بنفسه. بدأ عفويًا تلقائيًا بسيطًا، ثم طوّر فنه بالتدريج شكلاً ومضموناً، عبر انكبابه المجتهد على الإنتاج والعرض والاطلاع والبحث والتجريب، حتى تمكن من خلق شخصية نحتيّة متفردة ورائدة، جمعت ببراعة بين الأصول التي انطلقت منها، وتكوّنت فيها، وبين ثقافة نحتيّة عالمية حديثة، اختزلتها بوضوح، منحوتاته الأخيرة، التي سبقت الحادث المؤسف الذي أقعده عن متابعة رحلة الإبداع، وهو في قمة قوته ونضجه وتفتح موهبته.

 

محمود شاهين

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




سعيد مخلوف





من أعماله النصبية / حجر





من التجارب الأخيرة - خشب





نضج التكوين والمعالجة - خشب





استقرار وحركة - حجر صناعي





من مرحلة العالم الثالث - خشب زيتون





استقرار الكتلة - خشب زيتون