ضياء العزاوي ويحيى سويلم

ضياء العزاوي ويحيى سويلم

الفن التشكيلي في العراق واجه تحديات لم تكن في صالحه

ضياء العزاوي صاحب الحضور الفني القوي على مدى أربعة عقود، تعتبر تجربته الفنية من أهم التجارب التشكيلية العربية وأنضجها، أسهم في الدفع بالحركة التشكيلية العربية، ويحسب له ربط منجزه الفني بفكر وقضايا مجتمعه.

ولد في بغداد عام 1939 ودرس الآثار في جامعة بغداد، وفن الرسم في معهد الفنون الجميلة عام 1962. تاريخه الفني يضم عددًا لا يُحصى من المعارض الفردية والجماعية عالميًا وعربيًا، وراءه تاريخ طويل من الريادة والإبداع، وأوجد فنًا جديدًا وخالط الشعر بالرسم. برع في لوحات مكتوبة بالأحرف العربية، لوحات تفيض حيوية، وتدهشنا تجلياته وخبراته الحسّاسة بمعالجة لونية جعلت له بصمة تميز، يتعرف عليها القاصي والداني، وتفتخر المتاحف العربية والأجنبية والمجموعات الخاصة لدى المؤسسات والأفراد باقتنائها.

اعتمد في بداياته، كغيره من المفكرين والمتنوّرين الحالمين، على المؤسسات الحكومية ووسائلها، وعمل لمدة 7 سنوات في المتحف العراقي. وأقام أول معرض خاص له في بغداد عام 1965، ومن ثم توالت معارضه لتشمل العديد من البلاد العربية والأوربية. إلا أنه سرعان ما تبين عدم جدوى الاعتماد على هذه المؤسسات الحكومية ووسائلها الواهية، التي لم يكن لديها القدرة والاستمرار في تأمين هذا الطموح، فما كان منه إلا أن اعتمد على نفسه مناضلاً، وبتشجيع من الأصدقاء المخلصين في العالم العربي لتصبح تجربة العزاوي الحداثية ذاتية وفردية. ومنذ أكثر من ثلاثين عامًا، وهو يعيش في مهجره الاختياري، مستقرًا في ضاحية قريبة من لندن حيث أقام هناك محترفه الذي يعمل فيه. يلتقيه وجهًا لوجه الفنان والناقد التشكيلي يحيى سويلم الذي عمل مستشارًا بالمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، وعضوا بالهيئة الاستشارية لجريدة الفنون بالكويت.

  • عادة يكون للمكان حضور قوي، كيف كانت إنجلترا بالنسبة إليك؟ صداقاتك وعلاقاتك الفنية والمشاركة في معارضهم الجماعية؟ وهل تدخل تنظيماتهم؟

- في هذا البلد، يمكن الاطلاع على أحدث التجارب الفنية الموجودة في العالم وبشكل خاص التعرف على التجارب الأمريكية، التي تجد لها صدى كبيرا في صالات العرض، إضافة إلى التجارب الأوربية الأخرى.

أما المناخ الجغرافي للمدينة، وما يعكسه على المقيمين فيها (لندن) من ألوان باردة (اللون الرصاصي السائد)، فإن ما بداخلي من مخزون ثري للفن الشعبي وتجاربي السابقة يحميني من هذا البرود. وكانت هذه إجابتي لأحد نقاد الفن المترددين على مرسمي، يومًا كان طقسه أكثر قتامة، حينما سألني من أين تأتي بهذه الألوان؟ وعلق بابتسامة ضاحكة، وقال هذا صحيح أيضًا، وأنا بذهابي بهذا الشكل من الألوان، أوجد حالة من التضاد لدى المتذوقين، لأنهم في أوربا يجدون في هذا النوع من الألوان (الأحمر والأصفر الصارخ)، ألوانا غير مهذبة إن صحت المقولة، هي ألوان أقرب لألوان التراث الشعبي غير المتحضر، بعيدة عن الحاجيات اليومية التي تتحكم فيها عوامل البيئة بالنسبة لهم، هذا مفهوم شخصي لديهم، لكن أيضًا بالنسبة لي أنا أجد في هذا النوع من التأكيد على إيجاد لغة قابلة للحوار، ورفض هذا النوع من أشكالها وأسبابها، تمامًا عندما نستخدم الحرف العربي، فإنه لا يخلق رد الفعل نفسه في المنطقة العربية، لأن المشاهد الأوربي لا علاقة له باللغة أو بشكل الحرف العربي، وبالتالي يجد فيه إشارات لاغير. نحن نعطي الحرف أهمية في تشكيل الهوية، ولا يشكّل هذا القيمة الحقيقية في أوربا كما ننظر نحن إليها.

الجزء الثاني من سؤالك، بالتأكيد تعرفت على العديد من الأسماء المعروفة من الإنجليز أوالأوربيين بسبب وجودي في إنجلترا، كان لي علاقات مع فنانين معروفين منهم الفنان التشيلي ماتا المقيم في فرنسا، وهو من جيل بيكاسو، وعضو لجنة جرافيك العالم الثالث، وله ثقله السياسي والفني، وكان يود زيارة العراق. والنحات الإنجليزي المشهور كنت آرميتاج، الذي حضر لمعرض في العراق، وأصيب بدهشة كبيرة لمشاهدة نصب الفنان إسماعيل فتاح، وقال: لما اقتربت منه، دمعت عيني، وإن هذا العمل إن كان في مكان آخر وليس العالم العربي لورد في كل كتب ومجلات الفن في العالم.

أما على صعيد مشاركتي في الحركة الفنية، فلدي مشاركات جماعية، وغالبًا ما أعرض في فرنسا بشكل أساسي عبر صالة عرض باريسية تمثلني، فلدي اتفاق معها، ترتب معرضًا شخصيا كل سنتين، بالإضافة إلى أنها تسهل لي المشاركة مع فنانين فرنسيين، وآخرين من بلدان أمريكا الجنوبية.

تحديات متنوعة

  • تعرف الحركة التشكيلية العراقية بأنها من أنضج التجارب الفنية العربية، ومحل فخر على المستويين العربي والعالمي، أنجبت كثيرًا من الأجيال المتميزة، كان لبعضهم هجرة لبعض الوقت لدول أوربية منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي بهدف الاستزادة الفنية من معين التجارب الإبداعية المتطورة لهذه الدول بخلاف الهجرة الإجبارية، التي أقدم عليها الكثير من الفنانين منذ سنوات وطال غيابهم.
  • الحركة التشكيلية العراقية الآن، إلى أين؟ وإلى أي حد وصلت؟ وهل وجد فنانو المنفى ضالتهم، فيما يسمى بظاهرة الفن العراقي المهاجر؟

- واجهت حركة الحداثة الفنية في العراق تحديات متنوعة، منها ما هو سياسي، ومنها ما انعكس عن ذلك من ظروف لم تكن في صالح هذه التجربة. نعود إلى الماضي قليلاً، شكلت فترة الستينيات أهميتها الخاصة بها، وذلك لعوامل توافرت في حينها، منها عودة العديد من المبعوثين من الفنانين من دراستهم في خارج العراق منهم: كاظم حيدر، سعد شاكر، نهى الراضي ورحيم الوكيل من بريطانيا، رافع الناصري من الصين، محمد مهر الدين من بولندا، إسماعيل فتاح، محمد غني، غازي السعودي، ميران السعدي، سعد الطائي وراكان دبدوب من إيطاليا، طارق إبراهيم من كوبا، ماهود أحمد، شمسي الدين فارس من روسيا. وفي الفترة نفسها، تشكلت أكاديمية الفنون الجميلة، وأبرز مؤثراتها قدوم الفنان البولندي «أرتيموفسكي» وعقيلته للإشراف على قسم الجرافيك، والذي تمكن من دعم وإشاعة الفكر الحداثوي، وخاصة في جانبه التقني، حيث برز من طلابه هاشم سمرجي، مهدي مطشر، ويحيى الشيخ. كل هذه التجارب على اختلافاتها وتضاداتها أوجدت مناخًا إبداعيًا لم يكن من السهل إخماده، تلقف هذا المناخ الفنانون الشباب، فأقاموا معارضهم الخاصة أو الجماعية، كان بعضهم مازال في صف الدراسة، ولم يكن ذلك بالأمر العادي، ولم يقتصر الأمر على ذلك، حيث شكل البعض منهم جماعات فنية خاصة بهم، مثل جماعة المجددين، وجماعة الرؤيا الجديدة، وقد أصدرت هذه الجماعات بياناتها الفنية الخاصة، فيها الكثير من التحدي للتاريخ الفني حينذاك. بعدها عاد شاكر حسن وخالد الجادر من السعودية، وخالد الرحال من إيطاليا. كل ذلك أوجد ظروفًا لتطوير التجربة الفنية وانعتاقها من مؤثراتها المحلية. كانت السبعينيات رحمًا إبداعيًا هائلاً لم يأخذ مداه الكامل، حيث دخل العراق دوامة حروبه المتنوعة، ومع الحرب أصبحت البلاد خاضعة لظروف جديدة. قبلها ببضع سنوات صدر مرسوم داخلي بعدم السماح لمن هو ليس من حزب الدولة، أو صديقًا لها من الدخول إلى أكاديمية الفنون أو المعهد، وما شكله فيما بعد من اهتمام بالكمية وليس النوعية في الملتحقين لدراسة الفن، هذه الكمية هي التي ستكون خلال الأعوام القادمة الهيكل الأساسي للفن التجاري الهابط. ثم ظهرت فكرة معرض الحزب ودعمه على كل الأصعدة، ليشكل الواجهة الأساسية للحركة الفنية على حساب معرض جمعية الفنانين العراقيين السنوي، ثم فرضت على الأساتذة من المدرسين في الأكاديمية أو المعهد للالتحاق بصيغة تنظيمية غير مباشرة، ومن رفض ذلك أبعد عن وظيفته إلى مكان آخر، وقد كان معرض الحزب الحاضنة الأساسية لهذه الأعمال، ولعل مسابقة مجموعة نصب القادة، والتي نصبت على ضفاف شط العرب، وهي تشير بأصابعها نحو إيران أبرز مثال على مدى استهتار المؤسسة السياسية، إذ وزعت النصب على الفنانين، رسامين أو نحاتين، وبعضهم كان لايزال في صفوف الدراسة، مما نتج عن ذلك أعمال مشوهة، غالبًا ما رفضت من قبل أقارب القائد المعني، مما اضطر القيادة إلى تشكيل لجنة لتصليح الأعمال. ولم تتوقف هذه الحرب إلا ودخل العراق حربه الثانية عند احتلاله للكويت، وما تبعها فيما بعد من دمار على أكثر من صعيد، منها خروج العديد من الفنانين الأساسيين إلى خارج العراق، وفي الوقت نفسه ظهور مجموعة من الفنانين الشباب، بما لديهم من تجارب شخصية مدمّرة، إلى واجهة التحدي الفعلي، غادر الكثير منهم إلى الخارج وبشكل خاص إلى أوربا، وبقي البعض القليل منهم في العراق، وبالتأكيد هم مَن حافظ على سطوة التجربة الفنية وعنادها في تطوير الجانب الحديث، معتمدين على إمكانات محلية محدودة. الذين جاءوا إلى أوربا كانوا مختلفين في الأعمار والتجربة، بعضهم أخذه أو استهواه الرسم في الشارع بما فيه من مردود مالي سريع. آخرون أكملوا دراستهم في البلد الذي يقيمون فيه، أما الأكثرية فقد رهنت حياتها بالدعم الأسبوعي، الذي تقدمه تلك الدول، وفي الوقت نفسه يستغلون ما استطاعوا المشاركات الفنية، التي هي في الغالب محلية. لا يمكن معرفة القيمة الفعلية للفنانين في الخارج، وذلك لعدم وجود معارض جماعية تعرض أعمالهم، وبالتالي يمكننا معرفة هذه التجارب عن قرب. شخصيًا لدي متابعة لبضعة أسماء، ليس منهم من أخذته عقود الصالات التجارية، أو مهندسو التصميم الداخلي، أو من ذهب مع الحداثة الأوربية كقطيعة مع التجربة العراقية أو العربية، متابعتي هذه لا تقدم لي الكثير من الأهمية في خبراتهم أو تجاربهم.

الفن وقضية فلسطين

  • لم يكن العزاوي منعزلاً عن قضايا أمته، ويقدّر له حماسه للقضية الفلسطينية ونصرتها، وتواصله معها، وفي جرأة فنية من خلال مجموعاته الفنية لرسوم مطبوعة ومحفورات وملصقات وإصدار كتب، والمنجزة منذ انطلاقته، شاهد من هذا العصر: يوميات فدائي في عمان 1970، أرض البرتقال، رسوم لقصص غسان كنفاني 1973، سنوات الذبح الفلسطيني 1974، النشيد الجسدي، قصائد مرسومة عن تل الزعتر (ستة عشرة عملا مطبوعا بالسلك سكرين 1980) نحن لا نرى إلا جثثًا، عن مذبحة صبرا وشاتيلا (ثمانية أعمال مطبوعة بالحفر على النحاس 1983)، ثم مجموعة بلاد السواد (93 - 2000)، والتي عكست قوة تعبيرية هائلة.
  • عملت دائمًا على ربط الفن التشكيلي بالقضايا الحيوية فكريًا وسياسيًا واجتماعيًا، وكانت لك مواقف ثقافية وفنية وقومية أيضًا، ويحسب لك أنك لم تكن تنتمي إلى أي إيديولوجية.

- انحيازي الفني لما تسميه بالقضايا الحيوية يعود لموقف أخلاقي لا غير، ولست ممن يتقبل الأمور على عواهنها كما يقولون، وقد خلقت لي بعض هذه المواقف إشكاليات متنوعة مع الفنانين المؤدلجين، وفي حالات أخرى مع المؤسسة العربية لأكثر من دولة. شخصيًا لا يمكن أن أعمل في مناخ (نفذ ثم ناقش)، ولست من يتقبل الاستماع إلى شخص قيمته في ولائه لمؤسسته السياسية، سواء كانت الحزبية أو الرسمية، وليس لمعرفته ومهنيته العالية. الفنان الصادق مع نفسه هو من يعمل على مواجهة التحديات، التي تأتي نتيجة للبحث عمّا هو إبداعي بحق دون أن يتنازل عن موقفه الأخلاقي على نغمة السياسة فن الممكن، هذه النغمة بضاعة المؤدلجين، وممن لا يريدون «حمل السلم بالعرض»، كما يقول المثل العربي. في مجتمع يحتاج إلى الكثير من الأنشطة غير الحيادية.

فن التخطيط

  • كشفت أعمال العزاوي الستينية بعض آثار مدرسة بغداد التي أسس لها رائد الفن الحديث بالعراق جواد سليم، التي احتفت بالرسومات التخطيطية ومنحتها أهمية وجمالية.
  • من خلال أعمالك التشخيصية المعبرة عن الأشخاص ذوي العيون الواسعة، ونزعتك الروحية والتحليلية للإرث الحضاري المتنوع، لاحظنا ولعك الشديد بتقنية التخطيط فجاءت رقيقة ودقيقة وقوية في الوقت ذاته، عكست قوة تعبيرية هائلة (يوميات فدائي في عمان، رسومات وجدارية صبرا وشاتيلا، المعلقات السبع، النشيد الجسدي عن تل الزعتر... إلخ)، وربما كان هذا سببًا لما أطلقه البعض بأنك (بيكاسو العرب).

- لا أدري لماذا استهواني فن التخطيط منذ البدايات الذي أجده من أكثر التقنيات أهمية، صعوبته في طاقة الاختزال وقوة مسار الخط وحساسيته، أنت محق بإشارتك لجواد سليم، هناك أيضًا خالد الرحال خلال الأربعينيات وبداية الخمسينيات وشاكر حسن في الخمسينيات، وبشكل خاص مجموعته عن ألف ليلة وليلة، وفيما بعد إسماعيل فتاح وعلي طالب، لكن المؤسف ظلت هذه التقنية ضمن تجارب فردية ومتباعدة زمنيًا ولم تشكل مسارا فنيا له حضوره الخاص، لربما بمقدار ما قادني التخطيط إلى تقنيات الطباعة، كذلك طورت هذه التقنية مفهومي لفن التخطيط وجعلتني أعتبره رافدًا حيويًا غالبًا ما أعود إليه عبر موضوعات جديدة، آخر هذه الأعمال ثلاثية جنين التي نفذتها بأحجام كبيرة.

جماليات الخط العربي

  • استلهام الحرف العربي شاهدناه في لوحاتك دون افتعال أو مغالاة، مما أغرى الكثيرين من بعدك من الفنانين بالسير في هذا الطريق.. وكان ذلك إبداعا لا يضاهى في العلاقة مع نصوص رموز الحداثة الشعرية مثل يوسف الخال، أدونيس، الحيدري،البياتي، درويش، القباني ومظفر النواب. ما تقييمك لهذه التجربة؟

- هناك شقان مختلفان في سؤالك، الأول هو استخدام الحرف العربي في اللوحة، وهو أمر حاولته منذ بداية السبعينيات، وأخذ مداه الفعال عند الثمانينيات. منذ البدايات لم يكن الحرف العربي إلا عنصرًا من عناصر اللوحة، بمعنى إزالة الحرف من اللوحة لا يلغيها كما هي حال لوحات المهداوي أو القريشي، أنحاز لتقنية الرسم خلال تنفيذ اللوحة وليس تقنية الخطاط، وبالتالي لن يحدد تعاملي أي ضوابط من خارج الرسم، هناك علاقة متبادلة بين الحرف وسطح اللوحة، الذي غالبًا ما يكون الحاضن الفعال، من هنا اختلافي، أو شاكر حسن مثلا مع العديد من فناني ما يسمى باللوحة الحروفية، والذين جاء أكثرهم من حرفة الخطاط. اختلافي أن اللوحة بتاريخها وتكويناتها لها ضوابط مغايرة كليًا عن اللوحة الخطية، سطح العمل مثلاً يشكل أساس بناء اللوحة لا يمكن أن يكون إلا جزءا مرتبطا بالتكوينات الأخرى. لوحة الخطاط تعطي الأهمية لفعل الشكل الخطي دون عناية بالسطح الذي غالبًا ما يزوق بأشكال نباتية لا غير. من هنا نجد أن تجربة الحروفيين العرب عندما عرضت في لندن تناولها النقد على أساس خطاطين جدد وليس رسامين. أما الشق الثاني وهو الاهتمام بالنص الشعري فهو يعود إلى نهاية الستينيات ولعل دراستي لعلم الآثار واطلاعي على الأدب العراقي القديم تحديدًا مثل ملحمة جلجامش بالإضافة إلى الموروث الإسلامي كشعر الصوفيين وحكايات ألف ليلة وليلة قد زودني بمخزون هائل، مما جعلني أنفذ العشرات من الأعمال الأصلية لمختارات من هذا المخزون، ولعل البداية الأكثر بروزًا هي إصداري بتقنية الطباعة بالشبكة الحريرية لمجموعة المعلقات السبع التي شكلت البداية للعديد من المجموعات الأخرى. ثم أخذت التجربة منحى آخر عند نهاية الثمانينيات، حيث نفذت وعبر السنوات التالية مجموعة كبيرة من الدفاتر الشعرية ذات النسخة الواحدة تم عرض بعض منها في المعرض الاستعادي، الذي أقامه معهد العالم العربي لأعمالي. وخلال العامين الأخيرين بدأت بإصدار كتب شعرية ذات مواصفات موحدة وبنسخ محدودة لشعراء عرب عديدين.

تحولات فنية

  • في نهاية السبعينيات يتخلى عزاوي عن جذوته للتشخيصية إلا أننا نجده يعود إليها عند تقديم أعمال أدبية أو تاريخية، وفي نهاية سنوات الثمانينيات يصبح المربع خياره المفضل فارضًا وجوده على الشكل البيضاوي والدائرة والمثلث والمنحنيات التي ندرت، وشاهدنا تحولاته الدائمة خلال مسيرة الفنان النشطة فمن اللوحة الزيتية المسطحة إلى لوحة يمكن أن نطلق عليها «نحت بارز مرسوم» حينما أبرز الأبعاد الثلاثة لبعض الحروف التي تبعد عن سطح اللوحة، وكانت جداريته الضخمة والمفرحة خير نموذج.
  • الفنان ضياء العزاوي صاحب الطاقة الخلاقة والتجارب الإبداعية واستخدام المواد المتنوعة والتقنيات المختلفة، حققت تحولات مدهشة خلال مسيرتك الطويلة، هل مازلت تبحث عن جديد آخر؟

- إنني محظوظ حقًا فيما يتوافر حولي من ظروف تجعل من المستحيل الوقوف أمام شيء ما، هناك هاجس التغيير ليس على أساس المودة الشائعة، بل على أساس طبيعي بأن على المرء أن يتبدل إذا ما أراد أن يبقى متوقد المعرفة، التي هي خاصية لا حدود لها، من هنا بدأت منذ ثلاث سنوات الاطلاع العميق على برامج الكمبيوتر ذات العلاقة بالرسم والتصميم وبالتالي بالطباعة بعدما أصبحت تقنية الطباعة الرقمية (الديجيتال) غاية في الدقة. وقد أقمت معرضًا لبعض من هذه الأعمال في حلب وعمان، فيه حاولت الاستفادة القصوى من المواد المحيطة بي، وخاصة القماش الشائع استخدامه عند البدو في مناطق عربية مختلفة.

  • مدارس وتيارات ما بعد الحداثة، «من فنون الميديا والتجميع (العمل المركب) والفن المفهومي والتكنولوجي وفنون الأداء والتجهيز في الفراغ، وفنون الفيديو وفنون الضوء، وفنون البيئة وفن الأرض» تسربت بالفعل إلى بلادنا ويشهد بذلك المعارض الفردية والجماعية وكُرس لها اهتمام واضح في دورات بينالي القاهرة الدولي، وبالمطلق خصص بينالي الشارقة الدولي لتيارات ما بعد الحداثة.
  • ويصاب الكثير بالحيرة على أنها نموذج لمدى التأثير الغربي في الفن العربي، وأخرون يعتبرونها نموذجًا فرديًا لهوية عالمية قائمة على اختلاط الثقافات وتعددها وليس ببعيد عن الأصالة الكامنة في حضارتنا، كما يعتبرها كثيرون ثورة على تقاليد فنية متوارثة، وآخرون يجدون في جمعها بين فنون السينما والمسرح والعمارة والتصوير وإلغاء الحواجز بينها شمولية وإيجابية، وكثيرون آخرون يحذرون من الغموض وصعوبة الإدراك لتصوراتها النهائية، وربما هيأت فرصة للمدعين المستسهلين في خوض مجالاتها، ما رأيك؟

- كل جديد تجد له جيشا من المعجبين وهم في الغالب ممن يتعاملون مع الفن كصيغة من صيغ المودة، معرفتي بأن ما نجده في المنطقة العربية هو تكرار لجانب شائع بشكل محدود في التجربة العالمية، فنجد أن رجلاً مثل ساعاتي المعروف بساجي الأب الروحي والأكثر ترويجًا لهذه التجارب يصرح بـ «أن ما سيبقى من التجارب الحديثة هو ما له علاقة بفن الرسم».

اتجاهات ما بعد الحداثة هي إحدى التجارب في مجال الفن في العالم وليست هي النهاية، وأن ما نشاهده في بلداننا هو عملية تكرار لما هو حادث في أوربا وهي تجارب ليست لها علاقة بالمجتمع، أما التجارب الموجودة في أوربا فهي جزء من المجتمع، عملية تطور حاصل في هذا المجتمع ومحاولات للانفلات من قيم معينة مثلا تفرض على الفنان أن يعمل أشياء مضادة، نحن نأخذها جاهزة كأننا نشتري هامبرجر.

المجتمع الأوربي يعلم الأطفال منذ صغرهم مجموعة تجارب، فعندما يصبح جاهزًا لدخول الجامعة يكون لديه قاعدة معلومات ومعرفة لا بأس بها بالفن الحديث، في إحدى زياراتي للمتحف البريطاني تصادفت مع زيارة مجموعة من الأطفال، ورأيت كيف يختار الطفل البروشور الذي يفضله من المعروض ويختار حيوانا، على سبيل المثال، ويروح الطفل يفتش عن اللوحات التي فيها الحيوان الذي اختاره مسبقًا، فيعرف بذلك اسم الفنان، بمعنى أن هناك جهدا جبارا لإيصال المعلومة والمعرفة للأطفال دون فرضها عليهم.

«هنري مور» قام بتجربة جميلة جدا عندما أقام معرضًا للعميان تجربة أخلاقية وفنية مهمة يتصدى لها عادة كبار الفنانين والمثقفين لفتح نوافذ للمجتمع أن يرى شيئا. مور فكّر في النحت، شيء أساسي، فأول ما يدخل الصالة ليتحسس ويتعرف على الخامات (طين - حجر - خشب) كمادة للنحت، ثم ينتقل إلى تمثال لامرأة منفذة بأسلوب أكاديمي، وله حق لمسها ليحس بالعمل ثم يتحول من عمل واقعي أكاديمي إلى عمل تجريدي ثم إلى أكثر تجريدية.

تجربة فنية في قطر

  • ساهمت في الدفع بإنشاء أول متحف عربي يضم التشكيل العربي في دولة قطر، إلى أي مرحلة وصل الآن؟ وهل مثلت الأعمال المقتناة كل المدارس الفنية في الوطن العربي؟ وهل وجود مثل هذا المتحف في قطر يسهل الاطلاع عليه؟ ويمكن للدارسين والمتذوقين الوصول إليه؟

- أنا واحد من مجموعة أشخاص عملوا على تحقيق هذا المتحف، الذي بدأ كمبادرة شخصية من الشيخ حسن آل ثاني، ثم تطورت التزاماته إزاء هذه المجموعة لكي تصبح شاملة للمدارس التي عرفتها الحركة العربية، بالإضافة إلى العمق التاريخي أيضًا، لقد تمكنّا من الحصول على أعمال من المستحيل على أي جهة جديدة أن تحصل عليها. لقد تم الآن ضمه إلى مؤسسة قطر التعليمية، وهناك دراسة لإنشاء بناية حديثة لكي تنظم هذه المجموعة النادرة، أما وجوده في قطر من الناحية العملية، فيه ما أتفق معك عليه، أتمنى أن تحذو مؤسسة قطر حذو ما فعله متحف «جو جنهايم» في نيويورك، عندما أرسل جزءًا من مجموعته إلى شمال إسبانيا ليكون متحف بلباو مكانًا سهل السفر إليه من الأقطار الأوربية لعلنا سنجد في يوم ما فرعا لهذا المتحف في بيروت أو القاهرة أو الدار البيضاء.

في الواقع أن تجربة إنشاء هذا المتحف جانب شخصي بحت، فكر وقرر أن يجمع أعمالا فنية. وكان توظيفي بسبب فني، بسبب ثقافي وهذا العمل له بعده وينم عن مسئولية كبيرة، وهناك أربع وعشرون دولة، ومفروض أيضًا أن (مؤسسة كندة) في السعودية أيضًا عندها الاهتمام نفسه، أخذوا في اقتناء وجمع أعمال فنية لمجموعة كبيرة من الفنانين العرب، هناك صارت (مؤسسة المنصورية)، التي تشرف عليها الأميرة جواهر، بدأت تركز بالاهتمام بالفن السعودي وإذ بها تعمل كتابا هائلا عن آدم حنين، فنان مصري، نجد أن مؤسسة «كندة» مثلاً أقامت معرضا في باريس لمجموعة من الفنانين من مجموعتها، ثم أقامت معرضًا آخر في ألمانيا، لمجموعة أخرى من الفنانين وهذا ما كان ليحدث لو نظمته مؤسسات حكومية، فهي تفضل أن ترسل فنانا بدلا من أن ترسل خمسة فنانين فالمؤسسات الشخصية الأهلية اشتغلت على النوعية وليس الكمية وبالتالي مع مرور فترة يمكن أن يصبح في إمكان الفنانين العرب الحضور بشكل ما على خارطة الفن التشكيلي العالمي.

الفن وتطوير المجتمع

  • الأجهزة والمؤسسات الحكومية التي تتولى الإشراف على الحركة الفنية التشكيلية في البلاد العربية، أليست مقصّرة في رعايتها؟ كما أن التشكيل العربي على الرغم من مرور أكثر من خمسة عقود مزدهرة، فإنه متهم ببعده التعبيري عن مشاكل مجتمعاتنا العربية ومعاناة شعوبنا، تشخيصًا لأوضاعنا ما نصيحتك؟

- أعتقد أن الجميع يتحمل قسطه في هذه الإشكالية، بداية من المؤسسة الحكومية، نحن نعرف أن الطفل عندما يلتحق بالمدرسة وبعد مرور سنوات أو مراحل يكون قد امتلك قدرة القراءة بشكل يمكنه من توسيع معرفته، الأصح تنطبق هذه المقولة على الفن التشكيلي والمسرح، فنظام التعليم الأوربي يمكن الطفل وفي مراحل مختلفة من الاطلاع ودراسة التجارب الفنية الشائعة إلى مستوى يمكنه من تذوق العمل الفني بحدود معقولة. المؤسسة العربية الثقافية منها أو التعليمية تتحمل قسطًا هائلاً لعدم سعيها إلى الاعتراف بأن الثقافة والفن هما ركن أساسي في تطوير المجتمع وبالتالي العمل على إيجاد السبل الأكثر حضارية لتعزيز وتطوير العلاقة مع المجتمع. أما الحديث عن فن النخبة والانعزال عن المجتمع فهو أمر يمكن لمسه في أكثر من مجال في المجتمع، من الموسيقى الكلاسيكية إلى المسرح الطليعي مرورًا بالسينما الجادة. بالنسبة للفن التشكيلي هناك مشكلة كبيرة تتبدى حينًا عند بعض الفنانين بتعاليهم الفارغ، بحجة حداثة العصر وحينًا آخر عند المؤسسة الرسمية عندما لا تجد في التظاهرات الفنية إلا جزءا من الإعلام السياسي قصير المدى للنظام الذي تمثله. والغريب في الأمر أن من يدير أكثر المؤسسات الفنية هم من الفنانين الذين لسبب من الأسباب ينحازون لمنطق المؤسسة أكثر من الرغبة في ايجاد أفضل الوسائل لدعم الإبداع بمعناه المستقبلي، إن أي مؤسسة من دون استراتيجية مستقبلية تتبدل بفعل المستجدات هي مؤسسة قصيرة النظر وعامل إعاقة أمام تطوير المجتمع.

ولا يفوتني أنه الآن أصبح أمرًا شائعًا في بلداننا (خاصة الخليجية) وجود جامعي اللوحات العربية، وليست المحلية، وهذا لم يكن يحصل ما لم تنفتح الحدود ويعرض الفنان السوري مثلا في البحرين، في السابق كان يعامل الفنان كتاجر واللوحات كبضاعة، أنا شخصيًا تحملت مشاكل جمة من الجمارك خلال معرض كنت أنوي إقامته في بيروت، في الحقيقة الفنان يحتاج إلى جهد كبير حتى يقيم معرضًا في بلد آخر، ولا توجد لدينا صالات عرض حقيقية تتحمل عن الفنان هذه المسئولية لأن مشاكل إقامة هذه المعارض وافتقاد المجلات الفنية المتخصصة يصعبان الأمر كثيرًا على الذين يجمعون أعمال الفنانين العرب.

في أمريكا مثلا أغلب متاحف الفن الحديث الموزعة في الولايات ومقتنياتها هي من قبل أشخاص يمتلكون المال، وطيلة حياته يشتري أعمالا فنية وفي الغالب لا يعرف كثيرًا في الفن، ولكن لديه خبراء وراء النصح بالشراء، وبعد مرور فترة يهدي هذه المجموعة باسمه إلى هذا المتحف أو ذاك، والمتاحف نفسها عندما ترغب في اقتناء عمل للمتحف تعلن وتتصل بالأشخاص والشركات حتى تجد من يشتري لهم ويضعون اسمه عليه، حتى هذه ليست عندنا.

أنا أتذكر مرة، أن جامعة الدول العربية، كانت في تونس - وأبدت رغبتها في عمل كتاب عن الفن العربي، وكنت أحد الأشخاص باللجنة الاستشارية، وحتى لا أطيل خلصت أنها كانت مجرد اجتهادات فقط حتى يبرروا حضورهم للعمل ليس هناك عمل حقيقي كمادة بشكل صحيح وصور جيدة، ميزانية ضعيفة مرصودة لا تشجع أي دار نشر محترفة على أن تدخل في الموضوع هكذا. كثير من الدول العربية لا تقدم حصتها لمعهد العالم العربي حتى تقيم معارض كبيرة (كمعرض الثقافات القديمة) أو معرض (العلوم عند الإسلام).

في الوقت نفسه، نجد أن مؤسسة المنصورية تهتم أن يكون لديها استوديو في مدينة الفنون في باريس، الاستوديو غرفة نوم ومكان عمل ويمنح الاستوديو إقامة على مدى شهرين لفنان عربي وعليه تدبير معيشته، ولا تطالبه بشيء، لا شك تجربة جميلة جدًا لأول مرة من بلادنا، وإن كان هناك كثير من البلاد في العالم لديها مثل هذه الاستوديوهات، استفاد من هذا الاستديو فنانون عرب كثيرون أذكر منهم رافع الناصري ومحمد عمر خليل وفنانين شبابا عراقيين.

وطبعًا تعتبر هذه وسيلة موفقة للشباب على وجه الخصوص للتعرف على ما يحدث في العالم، طبعًا هذا مثال حدث عمليًا نتيجة الوعي والتطور الثقافي والفني في المنطقة وأصبح في المجتمع أشخاص عندهم بعض الأفكار المساهمة لتطوير جانب من جوانب الثقافة في المجتمع تحمل أعباءه شخصيات وطنية تحس بمسئوليتها تجاه مجتمعاتها وفي غياب مؤسسات الدولة التي ليس لديها هذا الاهتمام.

العزاوي والكويت

  • جمهور كبير من محبي الفنون في الكويت بشكل خاص يعرفون العزاوي وتحتضن بيوتهم لوحات مميزة له، فمنذ انطلاقته الفنية، أقام عدة معارض في الكويت بفضل اللقاء مع المعماري غازي سلطان عام 9691 في بيروت، فكانت سلسلة من المعارض بجاليري سلطان أعوام 70 و 71 و 74 و 1979، وفي عام 1983 وبدعوة من المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب أقام معرضًا لعدد كبير من أعماله، حيث عرضت لوحة صبرا وشاتيلا لأول مرة، والتي ظلت معروضة لعدة سنوات بمتحف الكويت الوطني على أمل أن يتمكن من إهدائها لمتحف فلسطين يوما ما. بعد طول غياب ما الذي تبقى من ذكرياتك وكيف ترى الأمر الآن؟

- تميّزت الكويت منذ الستينيات باهتمامها بالفن العربي عبر صالة سلطان، الذي كان يديرها غازي سلطان وشقيقته المرحومة نجاة، قدمت هذه الصالة فنانين عربا متنوعي التاريخ والتجربة والعمر، عكس قبول هذا التنوع نظرة مستقبلية أثبت التاريخ أهميتها. كنت أحد الأسماء الذين اهتم غازي بتقديمها، ولم يكن معي غير معرضين شخصيين الأول في بغداد والثاني في بيروت، لم يكن المعرض الأول الذي أقمته في الكويت مهما لي على صعيد العمل الفني بل جعلني في مواجهة جمهور جديد، سواء كان ذلك من المقتنين أو الصحفيين وجلهم كانوا من الفلسطينيين المملوءين بثقافة عنيدة في طاقتها على خلق الإبداع غير المحايد. كانت صالة سلطان أقرب إلى ناد للأصدقاء والأقارب بشكل أساسي معني ببناء مجموعات فنية لأعضائه عبر المعارض التي أقامتها، كانت فكرة هائلة وفّرت للصالة الاستمرار، وكذلك أعطت الفرصة للعديد من الأشخاص لجمع أعمال أصبحت لها أهمية في تاريخ الحركة التشكيلية العربية. بعد تجربة السلطان لم تتمكن صالة أخرى غير صالة بوشهري من الذهاب أبعد في تطوير العلاقة بين الفنانين والجمهور الكويتي. إنه لأمر مثير حقًا أن تجد مجتمعا يتقبل معرض (أندي ورهول) في السبعينيات، ولم يتمكن حتى الآن من مجاراة جيرانهم مثل البحرين كمثال. حيث ظهت هناك أكثر من صالة عرض وأصبحت السوق الفنية للأعمال العربية من أكثر الأسواق تميزًا، إلى جانب نشاطات ثقافية فيها الكثير من الجدة والتنوع.

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




ضياء العزاوي ويحيى سويلم





تشكيل - عام 2006





الرجل والحصان لوحة زيتية - عام 1977 ألوان جواش 50 × 45 سم





ضياء العزاوي





إيقاعات - يناير عام 2005 زيت على قماش قطرها 120 سم





مخلفات قديمة - 2006 زيت على قماش 200 × 200 سم