كيف تعامل الغرب مع القرآن الكريم؟

كيف تعامل الغرب مع القرآن الكريم؟

في البداية، لم يهتم الغرب بمضمون الدين الإسلامي، بقدر اهتمامه بشخصية الرسول الكريم، وبعبقريته العسكرية التي فتحت إمبراطورية واسعة في زمن وجيز. وبعد ذلك بدأ الغرب يكتشف القرآن الكريم.

عندما استقر المسلمون في بعض البلاد المجاورة للغرب، وخاصة في بلاد الشام وفلسطين ومصر وبلاد فارس، ثم بعد ذلك في قلب أوربا في الأندلس، بدأ الاهتمام يتزايد بماجاء به هؤلاء العرب من مفاهيم دينية جديدة تغاير المفاهيم اليهودية والمسيحية المنتشرة في تلك البلاد حتى ذلك الحين. وأول محاولة لترجمة سور القرآن الكريم في أوربا كانت في طليطلة، حيث قام دون إبراهام من طليطلة، بناء على طلب الملك الفونس العاشر (1252 - 1284) بترجمة سورة المعارج، إلى الإسبانية. وقد أخذت الكنيسة الكاثوليكية، تهتم بمضمون الدين الإسلامي لتتمكن من مواجهته ومحاربته، فأخذ رجال المذهب الكاثوليكي يهتمون بأهم المفاهيم الجديدة التي جاء بها الإسلام ليس بهدف التعرف على هذا الدين الجديد ودراسته موضوعيًا، ولكن بغرض دحض هذا الدين الجديد ومحاربة أفكاره وقيمه ومفاهيمه، وإقناع الناس بأن الرسول محمداً (صلعم) - الذي جاء بهذا الدين الجديد - ليس نبيا وأنه كذاب قام بتأليف القرآن، بعد أن عاشر بعض الرهبان والأحبار المسيحيين، وتتلمذ على أيديهم، وأخذ عنهم كل ماجاء في كتابه القرآن، الذي ساعده على تأليفه راهب نصراني خبير بفحوى الإنجيل والتوراه.

وهكذا انحصرت مهمة الكنيسة في تكليف رهبانها بتأليف الكتب لمحاربة محمد ودينه الجديد، وإثبات كذبه وتزييفه للكتب المقدسة، فشحذت همة هؤلاء الرهبان وأخذوا يصورون الرسول (صلعم) على أنه المسيح الدجال antéchrist ويركزون على بعض الموضوعات التي رأوا فيها نقاط ضعف - حسب تقديرهم - فاهتموا أكثر ما اهتموا بالاختلافات بين المفاهيم الإسلامية والمفاهيم المسيحية فأخذوا يفندون بعض المفاهيم الإسلامية وبعض خصائص الدين الإسلامي التي تتعارض مع معتقداتهم ليدحضوها.

وطبقًا للمستشرق الفرنسي، ريجيس بلاشار، (1900 - 1973) Régis Blachère الخبير في ترجمات القرآن الكريم في أوربا، في كتابه الذي يحمل عنوان «القرآن»، ويسرد فيه تاريخ القرآن الكريم وترجماته إلى اللغات الأوربية: «منذ بداية القرن الثامن الميلادي اهتم المؤلفون البيزنطيون في نقدهم للإسلام بعدة نقاط أساسية، مثل الرؤية الإسلامية للمسيحية وللسيدة مريم العذراء، ولنظرة الإسلام للحياة الجنسية، (وخاصة حياة النبي محمد الجنسية)، وغياب أية معجزات للنبي محمد». ولعل أولى الكتابات التاريخية عن القرآن، وعن الرسول محمد (صلعم) ترجع للقرن التاسع الميلادي، وهي للراهب نيسيتاس البيزنطي والراهب برتليمي دي داس. وقد ركز الاثنان في كتاباتهما على النقاط الضعيفة- حسب رؤيتهما - وهي بالطبع المقولة إن الرسول (صلعم)، إنما هو المسيح الدجال الذي يدعي النبوة، وأنه نقل القرآن عن الكتب المسيحية واليهودية، وأنه مزواج ويحب الملذات والنساء. وترجع أولى الترجمات شبه الكاملة للقرآن الكريم إلى القرن الحادي عشر الميلادي، وهي ترجمة إلى اللغة اللاتينية وكانت هي اللغة الرسمية للدولة الرومانية ولجميع مقاطعاتها في أوربا، وقام بهذه الترجمة في مدينة طليطلة بالأندلسTolède، روبير دي ريتين Robert de Rétines بناء على طلب رسمي من بابا الكنيسة الكاثوليكية في روما، بيير الموقر، وذلك خلال زيارة البابا للأندلس مابين 1141 و 1143م. وقد أرسل البابا هذه النسخة الأولى لترجمة معاني القرآن الكريم باللغة اللاتينية، المعروفة باسم «ترجمة طليطلة» (1143)، إلى القديس سان برنارد مرفقة بخطاب يحدد فيه أن الهدف الأول لهذه الترجمة هو إعلاء كلمة المسيحية ونصرة الصليبيين ومساعدة الإسبان، الذين ارتدوا عن الدين الإسلامي بعد عودة طليطلة إلى المسيحية عام 1085، على إزالة ومسح كل ما علق بأذهانهم عن الدين الإسلامي.

وطبقا للخبير الفرنسي في ترجمات القرآن، ريجيس بلاشار، فإن «هذه الترجمة التي أنجزت في طليطلة لم تكن أبدا ترجمة مخلصة وصادقة وكاملة للنص القرآني». وبالطبع كانت هذه الترجمة غير متوافرة، حيث لم تكن الطباعة قد اكتشفت بعد، ولم تكن في متناول إلا قلة قليلة من الرهبان، وبالرغم من ذلك فقد ظلت هذه الترجمة الوحيدة في الغرب حتى القرن الرابع عشر الميلادي، عندما قام ريمون ليل (المتوفى عام 1315 في Bougie) بترجمة أخرى للقرآن باللغة اللاتينية أيضا، ثم عثر على ترجمة في اسطنبول القديمة Canstantinople عام 1543 في مكتبة القديسين المبشرين بالمسيحية بعنوان القرآني أبيتوم Alcorani Epitome. ولكن على ما يبدو ظل الجهل بالإسلام وبالقرآن منتشرًا في بعض الدول الأوربية، حتى أن المصلح الألماني مارتن لوثر كتب عام 1542 في مقدمة إحدى الترجمات الأولى إلى اللغة الألمانية في القرن السادس عشر يقول: «كنت أود قراءة القرآن بنفسي، وإنني أتعجب كيف لم يتم ترجمة القرآن إلى اللاتينية قبل ذلك، وبالرغم من أن محمداً يسيطر على العالم منذ 900 سنة وأحدث به أضرارًا جسيمة فإن أحدًا لم يهتم بمعرفة ما هي معتقدات محمد، ولكن الجميع اكتفوا بالتأكيد على أن محمدا هو عدو العقيدة المسيحية. ولكن كيف؟ وأين موضوعيا؟ فإن ذلك لم يقم به أحد ومن الضروري جدا القيام به».

أول ترجمة مطبوعة

وازدادت الترجمات في عدة مدن أوربية مهمة وفي الأوساط العلمية في إيطاليا وفرنسا وهولندا وسويسرا: وهكذا ظهرت في فينيسيا عام 1530 ترجمةPaganini، ثم ظهرت أولى الترجمات المطبوعة باللغة اللاتينية في مدينة بازل عام 1543 في سويسرا للمترجم بيير دي كولني. ثم ظهرت أولى الترجمات للقرآن الكريم باللغة الإيطالية في فينيسيا لمؤلفها أندريه أريجابان عام 1547 بعنوان قرآن محمد Alcorano di Macometto والتي نسبت تأليف القرآن إلى محمد، وقدمت تفسيرًا لبعض الآيات والسور مستعينة بأحداث من حياته.

ومنذ منتصف القرن السابع عشر بدأ بعض الدبلوماسيين الأوربيين الذين عاشوا في البلاد الإسلامية يهتمون بدراسة اللغة العربية وبدراسة كتاب المسلمين في بلاد الشرق- القرآن- وهكذا نشأت الدراسات الشرقية وبدأت تظهر مؤلفات جديدة وأخذت تبرز ظاهرة أدبية أطلق عليها فيما بعد «الاستشراق» Orientalisme ومعظم تلك الدراسات بقلم قناصل الدول الأوربية في بلاد الشرق.

وهكذا ظهرت عدة ترجمات للقرآن الكريم باللغة الفرنسية، ولعل أولاها هي ترجمة دي رييه عام 1647 وقد كان قنصل فرنسا منذ عام 1630 في القاهرة، وتعتبر ترجمة دي رييه أولى الترجمات الكاملة من اللغة العربية رأسًا إلى اللغة الفرنسية، دون المرور باللغة اللاتينية. وقد تم إصدار عدة ترجمات نقلاً عن هذه الترجمة الفرنسية إلى اللغات الإنجليزية والهولندية والألمانية، وأعيدت طباعتها أكثر من 18 مرة خلال قرن كامل، وحظيت باهتمام بالغ في الأوساط العلمية، خاصة أن مؤلفها ادعى أن هدفه من وراء هذه الترجمة هو «تعريف القارئ بكل أمانة بالإسلام». ولكنه في الواقع كان بعيدا كل البعد عن الأمانة، حيث إنه نسب تأليف القرآن إلى محمد، حيث إنه أعطى لترجمته عنوان «قرآن محمد» L'Alcoran de Mahomet وكتب يقول: «لقد قسم محمد كتابه إلى فصول أطلق عليها سورات «سور» وأعطاها أسماء على مزاجه، ثم قسمها إلى آيات تحتوي على تعليماته وحكاياته».

وبعد ذلك ظهرت الترجمة اللاتينية المصحوبة بالنص العربي للقرآن والمنشورة في بادو Padoue عام 1698 للمؤلف Ludovico Marracci. وقد ادعى ماراتشي في مقدمة ترجمته للقرآن أن الرسول محمداً (صلعم) كان مصابا بمرض الصرع، وكان يصاب بنوبات شديدة من الصرع ويهذي أثناء هذه النوبات بكلام وحكايات وروايات جمعها أصحابه في هذا الكتاب، الذي أطلقوا عليه اسم القرآن. وظلت ترجمة ماراتشي وادعاءاته الكاذبة وافتراءاته على الرسول هي التي يستعملها المبشرون المسيحيون لنشر المسيحية في بلاد الشرق، وتقديم هذه الترجمة المشوهة للقرآن، التي لم يكن بها فواصل ولا شروحات، بل سرد غير منتظم وكلام بلا ضوابط، ليبدو النص القرآني وكأنه كلام بلا معنى ولا عمق بل كلام مرصوص وغير موزون، والهدف من وراء ذلك هو دحض الدين الإسلامي وتقديم كتابه المقدس - القرآن - على أنه كتاب لايستحق القراءة.

وفي القرن الثامن عشر ظهرت في فرنسا واحدة من أكثر الترجمات الفرنسية انتشارا وشهرة وهي ترجمة الكونت دي بولنفيلييه والتي صدرت عام 1730 وظلت طوال قرنين من الزمان هي الترجمة الأكثر تداولاً وانتشارًا في فرنسا وأوربا، بل إنها ترجمت إلى معظم اللغات الأوربية، بالرغم من رداءتها وعدم الدقة والأمانة العلمية التي اتسمت بها والتي ندد بها علماء عصر التنوير في أوربا، خاصة في إنجلترا، حيث بدأ ينتشر تيار علمي جديد ونظرة أكثر حيادية للإسلام وللقرآن فظهرت في لندن عام 1734 الترجمة الإنجليزية الأولى عن العربية تحت عنوان The Koran لمؤلفها George Sale والتي يمكن أن يقال إنها أولى الترجمات إلى اللغة الإنجليزية التي تحترم النص الأصلي وتهتم بالفواصل وبتقسيمات السور والآيات، وإن كانت بها بالطبع كثير من المغالطات، ولكنها غلطات غير مسيئة للإسلام ولا للرسول محمد (صلعم)، حيث روح النص لا يتسم بالعداء ولا بالحرب على الدين الإسلامي. وظلت هذه الترجمة هي الترجمة الإنجليزية المعتمدة في معظم الأوساط العلمية والجامعية والأكاديمية لمدة قرنين من الزمان، عرفت خلالهما حوالي أربعين طبعة في إنجلترا وفي الولايات المتحدة الأمريكية.

أما في فرنسا فقد صدرت ترجمة مهمة بالفرنسية لكلود سافاري عام 1783 الذي عاش خمس سنوات في مصر ليتعلم اللغة العربية ويترجم القرآن، وكان سافاري أول من نفى ادعاءات ماراتشي بأن الرسول محمد(صلعم) كان يعاني من مرض الصرع ويملي على أصحابه القرآن أثناء نوبات المرض. وحسب تقدير المحللين الفرنسيين في القاموس العالمي: «فإن ترجمة سافاري هي الوحيدة التي نقلت عبقرية الأسلوب والصيغة النبوية للنص الأصلي».

ترجمات موضوعية

وفي القرن العشرين ظهرت كثير من الترجمات للقرآن الكريم باللغات الأوربية، واتسم أغلبها بالجدية والحيادية، وتخلص المترجمون الأوربيون من عقدة دحض ومحاربة الدين الإسلامي وتشويه صورة الرسول محمد (صلعم)، بل حاول أغلبهم نقل النص القرآني بأمانة وصدق، مع كثير من الشروحات الجانبية لمزيد من التوضيح. كما ظهرت عدة محاولات لإعادة فهرسة القرآن الكريم أي لإعادة ترتيب السور القرآنية حسب ترتيب النزول، وليست كما جاءت في الترتيب المعروف في المصحف الشريف. ونذكر من هذه المحاولات محاولة المترجم المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشار، الذي أصدر عام 1949 ترجمة للقرآن الكريم من ثلاثة أجزاء، حسب ترتيب نزول الآيات بعنوان «ترجمة القرآن طبقا لمحاولة لإعادة ترتيب السور».

ونذكر هنا أحدث الترجمات التي ظهرت في فرنسا في نهاية القرن العشرين وهي ترجمة المستشرق الفرنسي المشهور، جاك بيرك عام 1990 وترجمة الكاتب اليهودي أندريه شوراكي في العام نفسه. وقد أحدثت كل منهما ضجة في العالمين العربي والإسلامي، خاصة في القاهرة، حيث أمر شيخ الأزهر وقتها جاد الحق علي جاد الحق بتشكيل لجنة علمية عام 1995 لمراجعة ترجمة جاك بيرك. ولقد خلصت اللجنة إلى إدانة هذه الترجمة واعتبارها ترجمة محرفة، واتهمت جاك بيرك بعدم الأمانة العلمية، وبالجهل باللغة العربية، بالرغم من أنه كان عضوا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة لمدة عشرين عاما.

المسلمون يترجمون

ظلت ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية مرفوضة في البلاد الإسلامية حتى بداية القرن العشرين، وطبقًا للدكتور محمد إبراهيم مهنا في كتابه: «ترجمة القرآن الكريم»، فإن قضية ترجمة القرآن الكريم في العالم الإسلامي مرت بثلاث مراحل: المرحلة الأولى مرحلة الرفض القاطع عندما منعت مشيخة الأزهر إدخال نسخة من ترجمة القرآن الكريم باللغة الإنجليزية إلى مصر وطلبت من مصلحة الجمارك إحراقها. والمرحلة الثانية مرحلة الموافقة التركية عندما قررت حكومة كمال أتاتورك ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة التركية. والمرحلة الأخيرة مرحلة الموافقة الرسمية في عام 1936 عندما أصدر مجلس الوزراء المصري قرارا رسميا بموافقته على ترجمة معاني القرآن الكريم ترجمة رسمية، تقوم بها مشيخة الجامع الأزهر، بمساعدة وزارة المعارف العمومية، وذلك وفقا لفتوى جماعة كبار العلماء وأساتذة كلية الشريعة. وكانت مشيخة الأزهر برئاسة الشيخ محمد مصطفى المراغي، الذي كان أيضا رئيسًا لجماعة كبار العلماء، قد أصدرت قرارها بموافقتها على مبدأ ترجمة معاني القرآن الكريم.

وهكذا بدأ العلماء المسلمون في ترجمة معاني القرآن الكريم من العربية إلى اللغات الأجنبية وخاصة إلى اللغة الإنجليزية ثم إلى اللغات الألمانية والإسبانية والفرنسية والإيطالية، وفيما بعد إلى معظم لغات العالم.

وكان معظم هؤلاء الخبراء المسلمين من العارفين بأمور الدين الإسلامي، والذين درسوا اللغات الأجنبية وأجادوها بعض الشيء فقاموا بترجمة معاني القرآن الكريم إلى هذه اللغات الأجنبية، بعد أن كانت الترجمة من العربية إلى اللغات الأجنبية حكرًا على بعض المستشرقين من غير المسلمين من الخبراء أو المهتمين بالدراسات الشرقية، أو الدراسات العربية والإسلامية. وجاءت ترجمات هؤلاء المسلمين أكثر دقة لمعاني القرآن الكريم ولكنها أقل جودة من ناحية اللغة الأجنبية، ومن ثم جاءت ترجمات المسلمين العرب بنتيجة عكسية، لأن الأجانب الذين يقرأونها بلغتهم الأجنبية يجدون فيها أغلاطا لغوية كثيرة، فيعتقدون بالخطأ أن هذه الأغلاط موجودة في القرآن نفسه، وليست من صنع المترجمين المسلمين، الذين كانوا على الأغلب لا يجيدون اللغة الأجنبية إجادة تامة، بل كان اهتمامهم منصبا على المعنى والمغزى للآيات، فأهملوا الناحية اللغوية على حساب المعنى. ونحن نعيب على كثير من المترجمين العرب المسلمين الذين ترجموا معاني القرآن الكريم إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية وغيرها تحاملهم الشديد على المترجمين الأوربيين غير المسلمين، وكيلهم الاتهامات العنيفة لكل الذين قاموا قبلهم بالمجهود المضني نفسه لترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية، خاصة في القرن العشرين، حيث صدرت عدة ترجمات جيدة للقرآن الكريم باللغات الإنجليزية والألمانية والفرنسية، قام بها علماء متخصصون في علوم اللاهوت وفي العلوم الإسلامية، مع إجادتهم للغة العربية، واتسمت أعمالهم بالحيادية والموضوعية والدقة والحرص الشديد على تقديم المعنى مع شرح أسباب نزول الآيات. ونحن نشيد هنا بالترجمة الفرنسية التي أنجزها الدكتور محمد حميد الله، الأستاذ بجامعة اسطنبول الصادرة عام 1959 والتي اعتمدها مجمع الملك فهد بن عبد العزيز لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة، كذلك نشيد بالترجمة الفرنسية بعنوان Le Coran inimitable التي قامت بها المستشرقة الفرنسية السيدة دونيز ماسون عام 1967، وقد جاءت هذه الترجمة أقرب ما تكون للنص الأصلي العربي، حيث تمت المحافظة على المعنى واللغة الأجنبية في الوقت نفسه. وسوف أذكر هنا بعض الأخطاء البارزة في ترجمة حديثة للقرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية قامت بها أستاذة مسلمة فاضلة هي الدكتورة زينب عبد العزيز، أستاذة الحضارة بجامعتي الأزهر والمنوفية سابقا، وقامت جمعية الدعوة الإسلامية بطرابلس بطباعتها في طبعة فاخرة عام 2002. وهدفنا من وراء هذا النقد البناء لهذه الترجمة هو الرغبة الصادقة في إخراج الطبعة الجديدة من هذه الترجمة في صورة مشرفة. فمثلا لم يصب المترجمة الصواب في ترجمة مصطلح الطلاق إلى الفرنسية، حيث تقول في مقدمة الترجمة: «وهناك مثال آخر، قد انتقل تقريبًا، إلى كل الترجمات ألا وهو اختيار ألفاظ بعينها، مثال كلمة répudiation كمقابل لكلمة الطلاق، في حين أن المقابل الفرنسي موجود، وهو divorce والفرق بين الكلمتين في اللغة المترجم إليها أن الطلاق يمثل واقعة محددة تعني انتهاء عقد الزوجية في حين أن répudiation تتضمن بالنسبة للمرأة، معنى الإهانة والطرد، الأمر الذي يسيء إلى حقيقة الإسلام وموقفه من المرأة». وحقيقة المفهوم الإسلامي لمعنى الطلاق وطبقا للغة العربية هو أن يقوم الرجل بتطليق المرأة أي بإطلاق سراح المرأة من ميثاق الزوجية بعد أن كان حبسها لنفسه، حسب المفهوم الإسلامي، وهذا المعنى - معنى تطليق الرجل للمرأة - متعارف عليه في القانون الدولي بأنه انفصال من جانب واحد unilatéral ويترجم إلى الفرنسية بمصطلح répudiation أما في اللغة الفرنسية فكلمة طلاق بمعنى قرار الزوجين بالانفصال ويترجم بكلمة divorce وهي كلمة من أصل لاتيني تبدأ بجزئية di ومعناها اثنان أي أن الزوجين ينفصلان كل منهما عن الآخر سواء بالاتفاق أو بعدم الاتفاق أي يتفقان أو لا يتفقان على مبدأ الانفصال عن بعضهما لأسباب مختلفة، فالانفصال هنا حتى وإن كان الزوجان على خلاف واضطرا للجوء، إلى المحكمة لطلب الطلاق هو انفصال ثنائي الجانب bilatéral وليس أحادي الجانب، مثل المفهوم العربي الإسلامي. وحالة الطلاق الأحادي الجانب الوحيدة المشهورة في تاريخ فرنسا هي قيام نابليون بونابرت بتطليق زوجته جوزفين التي كانت ترفض الانفصال فطلقها من جانب واحد répudier، ولم يكتب أبدا في التاريخ الفرنسي أن نابليون وجوزفين حدث بينهما divorce ولكن جميع كتب التاريخ تذكر كلمة répudiation. كذلك تعبير جنات عدن التي ترجمتها الدكتورة بتعبير paradis d'Eden (تقديم الترجمة صفحة ح)، «وتعيب على المستشرقين أنهم ترجموها بتعبير jardins d'Eden والحقيقة أن كلمة jardin في اللغة الفرنسية ليس فقط معناها حديقة، ولكنها أيضا تعني جنة، وتستخدم كلمة جنة paradis وحدها أما كلمة جنات عدن فيستخدم لها تعبير jardins d'Eden كما هو مذكور في قاموس لاروس Larousse وقاموس Robert.

أما بالنسبة لما ذكرته من أن المترجمين الفرنسيين يتعمدون تشويه الأسماء وخاصة اسم القرآن واسم رسول الله محمد (صلعم)، وأنهم يصرون حتى الآن على كتابة القرآن Le Coran وليس al-Quran (التقديم صفحة س) فأنا أختلف معها فيما تقول، لأن أسماء العلم التي تمت ترجمتها من الفرنسية إلى العربية لم يقصد بها تشويه الكلمات العربية أو الإقلال من شأنها، بل تم نطقها خطأ منذ البداية واستمرت هكذا في اللغة الفرنسية وأصبحت ثابتة كأسماء علم ومتعارف عليها، وحين نحاول الآن تصحيحها لن ننجح لأنها أصبحت اسم علم في اللغة الفرنسية، ولا يمكن تغييرها مثل اسماء المدن الكبرى القاهر ة Le Caire وليس al-Qahira دولة المغرب le Maroc وليس Al-Maghreb وعلى هذا القياس فإن كلمة القرآن تعارف على أنها Le Coran وليس al-Quran. كذلك الحال بالنسبة لاسم الرسول محمد (صلعم)، حيث تعارف على كتابة اسم محمد في اللغة الفرنسية بـ Mahomet وليس Muhammad وكذلك الحال بالنسبة لاسمي مكة والمدينة فقد تعارف في اللغة الفرنسية على أنهما Mecque و Médine وليس Makka وal-Madina.

أما الخطأ الكبير الذي وقعت فيه الدكتورة زينب عبد العزيز فهو كتابة كل ما يتعلق بالله بالحرف الكبير«كابتال» أو «ماجيسكيل» lettres majuscules، ففي اللغة الفرنسية تكتب أسماء العلم فقط بالحرف الكبير واسم الله Dieu يكتب أول حرف منه بالحرف الكبير للتفريق بين الله الواحد الخالق وبين آلهة الإغريق المتعددين مثل إله الحب وإله الحرب وإله الخصوبة... وهكذا يكتب بالحرف العادي dieu، أما الدكتورة زينب في ترجمتها فقد ابتدعت بدعة على اللغة الفرنسية، حيث جعلت الأفعال والصفات التي تتعلق بالله سبحانه وتعالى تبدأ بحرف كبير، مما جعل قراءة الترجمة صعبة جدا وبعيدة عن اللغة الفرنسية، مثلما جاء في هذه الجملة (Il A Eté si Allah Veut A Lui Appartient)، وغيرها حيث ألصقت الحرف الكبير بجميع الكلمات، وليس بالأسماء فقط مما جعل ترجمتها مشوهة، كأنما كلها أخطاء مطبعية فليس من المعقول أن تكتب الأفعال والمشتقات والصفات والنعت وحروف الجر والربط بالحروف الماجيسكيل في اللغة الفرنسية.

الخلاصة

بالرغم من التقدم المحرز في ترجمات القرآن الكريم في القرن العشرين، حيث ظهرت عدة ترجمات احترم مؤلفوها النص القرآني، وبذلوا مجهودا كبيرا للحفاظ على دقة معانيه وتناسق فقراته، فإن العلماء المسلمين الذين أنجزوا بعض الترجمات من العربية إلى اللغات الأوربية اتهموا المستشرقين - والعلماء من غير المسلمين، الذين ترجموا القرآن قبلهم - بالجهل وعدم الأمانة العلمية، وعدم الدقة والموضوعية. ونحن ندين ونندد بهذه الاتهامات غير المبررة، خاصة أن بعض الترجمات التي قام بها غير المسلمين إلى اللغات الأجنبية تعتبر أكثر دقة وأمانة وقربا من المعنى الأصلي من بعض الترجمات التي قام بها العلماء المسلمون، وربما يرجع ذلك إلى أن الأوربيين ينقلون النص العربي إلى لغتهم الأصلية (لغة الأم)، بينما العلماء العرب المسلمون ينقلون إلى لغة أجنبية عليهم. وفي رأينا أن أفضل ترجمة للقرآن الكريم إلى لغة أجنبية هي التي يقوم بها عالم عربي مسلم، ويقوم بمراجعتها خبير لغوي في اللغة الأجنبية المترجم إليها.

 

فوزية العشماوي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات