اتفاقيات حسنة وأخرى رديئة.. أمين هويدي

اتفاقيات حسنة وأخرى رديئة.. أمين هويدي

مصالح متوازنة يمكن أن تنتج اتفاقيات جيدة، وعندما يختل هذا التوازن فلابد أن تكون الاتفاقيات رديئة.

بعد هزيمة نابليون بونابرت في معركة «ووترلو» ونفيه إلى جزيرة «سانت هيلانه»، نجح كل من «ميترنخ» مستشار النمسا و«كاستلروا» وزير خارجية إنجلترا في جمع أباطرة وملوك أوربا، في مؤتمر فيينا (1814 - 1815) لإعادة رسم خريطة أوربا، وتم اتفاقهم على معاهدة عرفت في التاريخ بمعاهدة «سلام المائة عام».

كان أساس المعاهدة معاملة فرنسا - حتى بعد هزيمتها - معاملة كريمة، وعارض الاثنان - على الرغم من إعلانهما دفن الثورة الفرنسية - أي محاولة لإضعاف فرنسا عقابًا على ما فعلته الحروب النابليونية بأوربا، وأصرا على مساندتها لتنهض من جديد في ظل سلام، دعائمه توازن المصالح، وليس توازن القوى، مع تصحيح الأوضاع عن طريق حلول وسط وتطويق الخلافات داخل نظام أوربي متوازن. ولذلك يصبح للجميع مصلحة في استمراره وبقائه.

ويعتبر التاريخ هذه الاتفاقية من الاتفاقيات الجميلة أو الحسنة أو العاقلة، فقد حققت في أوربا - التي سادتها حروب مستمرة بين دولها- سلامًا لمائة عام استمر حتى قيام الحرب العالمية الأولى عام 1914، ولأنها حاولت إعادة بناء ما خلفته الحروب النابليونية، عن طريق التفاوض، على الرغم من وصول جيوشه إلى قلب موسكو، قبل أن يشعل فيها القائد الروسي ميخائيل كوتوزوف النيران لإجبار نابليون على الارتداد من حيث أتى تحت ضغوط «الجنرال شتاء» وقسوته، ولأنها لم تستغل هزيمة نابليون في ووترلو لتحطيم فرنسا، مكتفية بإعادة الملكية ثانية، ولو إلى حين، ولأنها قدرت أن تحطيم فرنسا معناه خلل التوازن الأوربي مما يحول دون استقرار القارة. ولأنها أدركت أن القوة لا تفرض السلام، وأن السلام لا يتحقق إلا عن طريق مشاركة جميع الأطراف لا عزل البعض منهم، وأن تحقيق الأغراض الناقصة للجميع حافز لهم للحفاظ على ما اتفقوا عليه، وأن غرور القوة يقود إلى الهلاك تبعًا لقانون «قوة الضعف وضعف القوة» و«أن الأقزام يمكنهم التصدي للعمالقة». لقد استخدم ساسة القرن التاسع عشر - لإعادة الاستقرار إلى أوربا القلقة - أسلوب الحوار وأسلوب القتال، أو التفاوض والحرب، لتحقيق الغرض الكبير، فقام كل من الجنرال «ولنجتون» الإنجليزي والجنرال «بلوخر» الألماني بهزيمة الإمبراطور نابليون في معركة ووترلو، ثم قام ميترنخ وكاستلروا بالمجهود السياسي في مؤتمر فيينا لإقامة سلام المائة عام، على أساس توازن المصالح، وليس على أساس توازن القوى.

إلا أن الاتفاقية تركت الأبواب مفتوحة للصراع ليبدأ من جديد، إذ تجاهلت بناء الاستقرار في دول الجنوب خارج القارة، ليصبح المجال مفتوحًا أمام الاستعمار ليخلق التنافس بين القوى للاستيلاء على مساحات أكبر مما خلق «خميرة» للانفجار فيما بعد، فيما عرف بالحرب العالمية الأولى (1914 - 1918).

وكما نعرف، فالأيام دواليك يوم لك ويوم عليك، فقد هزمت ألمانيا في تلك الحرب وخضعت لشروط قاسية في معاهدة «شامبين» عام 1918 فقد تناسى ساسة القرن العشرين ما فعله ساسة القرن التاسع عشر فانصرفوا إلى اقتسام الغنائم لتكوين إمبراطوريات جديدة في مؤتمر باريس، ما أدى إلى رفض ألمانيا للشرعية المفروضة، وظهرت مبادئ المجال الحيوي في ألمانيا النازية، والتي أوضحها أدولف هتلر في كتابه «كفاحي»، حتى قبل أن يقفز إلى السلطة، وكذلك في إيطاليا الفاشستية بقيادة بينيتو موسوليني، وعاد العالم إلى سباق تسلح رهيب قاده إلى الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945)، إذ رفض المهزومون الخضوع إلى مبدأ «الويل للمغلوب»، فعادوا إلى بناء قواتهم المسلحة لاسترداد توازن القوى مرة أخرى لأن توازن القوى متغير، فيوم لك ويوم عليك.

وهكذا البشر، يصنعون مشاكلهم بأيديهم، إذ بعد انتهاء الحرب الثانية بهزيمة دول المحور، وجد الساسة أنفسهم أمام خيارات ثلاثة لبناء النظام العالمي الجديد: الأمن الجماعي العالمي، أو توازن القوى، أو الهيمنة.

واختارت الولايات المتحدة الحل الأخير، بصفتها القوة العظمى التي تقود العالم إلى العولمة لتحقيق السلام الأمريكي.

واضطرب العالم كما نرى، لأن موازين القوى وحدها لا تحقق الاستقرار المنشود، بل يتحتم علاوة على ذلك بناء وحدة القوى وتقوية الشرعية الدولية لفرض القانون والتصدي للعدوان.

كتب الرئيس ريتشارد نيكسون في كتابه «نصر بلا حرب»- 1999، عن مفهومه للسلام ما نصه «ألغت الأسلحة النووية الحروب على المستوى العالمي كوسيلة لحل النزاعات، ولكن لا يعني ذلك أن السلام الكامل قد يتحقق لينهي النزاعات والتناقضات فهذا وهم كبير، ولكن سوف يعيش العالم مع تناقضات دوله وخلافاتها، في ظل النظام الواقعي ومعناه تعايش العالم في ظل هذه التناقضات، ومحاولة حلها دون اللجوء إلى استخدام القوة، وهذا ما يعرف بحرب السلام، وأسلحتها الدعاية والدبلوماسية والمفاوضات والمساعدات والمناورات السياسية والعمليات السرية»، يعني تعيش دول العالم بخلافاتها وأطماعها كعقارب داخل أنبوب واحد إن حاولت إحداها لدغ الأخرى ستلدغها الأخرى قبل أن تموت.

تكلم التاريخ وعلى الجميع أن ينصتوا ويفهموا الدرس فخير لنا أن نتعلم من تجارب الغير ونتفادى خوض التجارب وتكرارها.

غطرسة القوى تعمي أصحابها عن السير في الطريق الصحيح، فهي لا تحل المشاكل، ولكنها تزيد من عقدها والطريق السليم في العلاقات بين الدول أن تحل تناقضاتها على أساس توازن المصالح وليس على أساس توازن القوى، وإلا سيظل الصراع بين فرض الأمر الواقع ورفضه مع تذكر أن القوة هي التي تصنع السلام وتحافظ عليه عن طريق وجودها، وليس بالضرورة عن طريق استخدامها، وهذا ما يعرف بتوافر الردع، وهو استخدام وسائل القتال لمنع القتال، مع الحصول على أغراضنا الناقصة في الوقت نفسه.

معادلة صعبة لتحقيق الاتفاقيات الحسنة أو العاقلة لا ينفذها إلا عظماء الساسة، الذين يدرون بدروب غابة السياسة، التي يعيش فيها الأسود والنمور والثعالب والأفاعي... والحمير!!!.

 

أمين هويدي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات