يوميات الحرب على لبنان.. إنها الحرب مرة أخرى

يوميات الحرب على لبنان.. إنها الحرب مرة أخرى

13 - 7 - 2006

من كان ينتظر أن تهبّ الحرب فجأة فتدمّر وتحرق وتهدم؟ من كان يتوقع أن تعود الحرب إلى وطن لم يكد ينسى آثار الحروب التي شهدها طوال عقود؟

إنها الحرب مرة أخرى. لا تستأذن أحدًا ولا تطرق الأبواب. تندلع فورًا مثل النار في الهشيم وتحرق ما تحرق، وتدمر، ما تدمر، وتقتل مَن تقتل.

إنها المشاهد نفسها، مرة تلو مرة، الضحايا هم أنفسهم أيضًا والقتلة الذين يقتلون بلا رحمة.

مشهد طفل قتيل، مرمي على الطريق أو راقد تحت الأنقاض، قد يساوي ملحمة بكاملها. متى يكفون عن قتل الأطفال، هؤلاء الملائكة الصغار الذين لم يفقهوا بعد معنى الموت؟

15 - 7 - 2006

هذه ليست حربًا بل مأساة تراجيدية، بين قاتل متوحش ومقتول يحاول أن يقاوم، بروحه أو ما تبقى منها وبجسده الذي أضحى أشلاء.

والكلام عن البطولة والتضحية والاستبسال هو من قبيل الإنشاء الجميل الذي لا بد منه. لكن الواقع شيء آخر. الشهداء مباركون حتمًا والمقاتلون الذين يذودون عن أرضهم مباركون أيضًا. لكن هذا الوطن الصغير لم يعد يحتاج إلى المزيد من الدم والدموع والألم. لم يعد يحتاج هذا الوطن إلى المزيد من الخراب والدمار... ألم تكفه تلك السنوات المأسوية التي عاشها أو ماتها بالأحرى؟

إننا نكره الحرب، نكره الموت، نكره الخراب.

إننا نستحق الحياة التي نتشبث بها، بأيدينا وأظفارنا.

16 - 7 - 2006

منذ أن اندلعت الحرب أحاول مواجهتها بالقراءة، متنقلاً بين كتاب وآخر. القراءة أسهل من الكتابة في مثل هذه الظروف المأسوية، على الرغم من صعوبتها هي أيضًا. فالقارئ كاتب بدوره كما يعبّر رولان بارت.

أحاول أن أعزل نفسي عن «الخارج» منقطعًا إلى قراءة كتب تناسيتها فترة.

أحاول أن أقرأ قسرًا متخطيًا حال التشتت التي أعيشها منذ الشرارة الأولى. فالحروب التي تعاقبت على لبنان التهمت الكثير من العمر والأوقات، ولابدّ من تعويض ما فات، لابدّ من تعويض الفراغ الذي عاشه شخص مثلي. هناك سنوات أشعر بأن سواي عاشها بدءًا من العام 1975 حين اندلعت الحرب «الأهلية». سنوات «عجاف» ضاعت سهوًا ولم أستطع أن أنجز خلالها ما كان يجب عليّ إنجازه.

هذا الشعور بـ «الفوات» نادرًا ما يفارقني، بل هو يهبّ كلما اندلعت حرب جديدة، متحولاً إلى ما يشبه الشعور بـ «الذنب» الداخليّ. فالأوقات التي ضيّعتها الحروب يستحيل استعادتها، والأحلام المؤجلة ستظل مؤجلة.

وما كان يجب تحقيقه خلال المآسي يصعب تحقيقه في زمن اللاحرب لئلا أقول زمن السلم المضطرب والمتقطع، الذي كثيرًا ما عرفه لبنان.

القراءة إذن في مواجهة الحرب التي تشنّها إسرائيل على لبنان. هل تستطيع القراءة أداء مثل هذا الفعل؟ أليست القراءة صنو الكتابة؟ أليست وجهها الآخر؟ ألا تحتاج القراءة بدورها إلى بعض الهدوء الداخلي، وبعض الطمأنية وبعض السلام؟

أحاول أن أقرأ وأعجز. الأفكار مشتتة والرأس «لا يجمع» كما يقال، والعين تنظر دومًا إلى الأبعد. الشاشة الصغيرة لا أستطيع أن أطفئها وقتًا طويلاً. هناك الصور والأخبار التي تتوالى. وفي الروح قلق لا يوازيه قلق: قلق على المصير، قلق على الحياة، قلق على هذه الأرض التي يسمّونها وطنًا.

17 - 7 - 2006

تغلق الكتاب وتجلس أمام الشاشة. وعندما ينقطع التيار الكهربائي تلجأ إلى الراديو الصغير متسقطًا نشرات الأخبار، صامتًا وحزينًا. القراءة تؤجلّها مرة تلو مرة، ما يحدث على الأرض الآن لا يحتمل التجاهل أو التناسي. صدمة المجزرة الثانية في قانا توقظ في القلب ألمًا لم يعهده يومًا.

هؤلاء الأطفال هل ستمّحي صورهم في عينيك؟ كأن الحرب لا تكون حربًا إلا عندما تصطاد الأطفال. تصرخ مع الصارخين ولكن بصمت.

هول المجزرة لا يمكن أن تعبّر عنه أي قصيدة، أي كلمة، أطفال كأنهم مازالوا أحياء، ولكن يصعب تصديق المشهد. هل يموت الأطفال حقًا أم أنهم كالملائكة يغمضون عيونهم فقط؟

21 - 7 - 2006

أخذ الشاعر أدونيس على الأوساط الثقافية في الغرب الأمريكي - الأوربي صمتها شبه الشامل إزاء الحرب التي تشنها إسرائيل على لبنان. فالأوساط هذه عُرفت كثيرًا بدعمها حقوق الفرد والجماعات، وباحتجاجها على أعمال القمع والقتل، وبانتصارها للحرية والسلام.

هذا الصمت عن المجازر التي ترتكبها إسرائيل في لبنان عزاه بعضهم إلى «المقولة» الإسرائيلية الرائجة الآن في الغرب، ومفادها أن إسرائيل تواجه الإرهاب ممثلاً بـ «حزب الله» الذي يشكل بحسب المقولة، الوجه الآخر للإرهاب الأصولي الذي ضرب نيويورك في سبتمبر 2001. قد تكون المقولة الزائفة سببًا وجيهًا في تراجع المثقفين الغربيين عمومًا عن إصدار بيان استنكار أو رسالة تنديد. فالحرب في نظر هؤلاء ليست بين إسرائيل ولبنان بل بينه وبين «حزب الله». هذا التأويل خاطئ طبعًا، فالحرب تحصل على أرض لبنان والخراب يحل به كلّه والضحايا هم من الأبرياء. وكانت تكفي مجزرة قانا - 2 لتدحض هذه النظرة الخاطئة و«المركبة» إلى الحرب.

***

ومن البيانات الفردية التي رفعت في فرنسا «بيان» كتبه الشاعر الفرنسي برنار نويل، صديق الشعراء العرب، منددًا فيه بما سماه «الإرهاب الوحشي» الذي تمارسه إسرائيل على لبنان. وبدا «بيان» نويل أشبه بالنص العميق الذي يدين الحرب على لبنان، وانطلق فيه من معاني كلمات مثل «اجتياح» و«غارة» و«صدام» و«هجوم»... ليخلص إلى القول: «إن الجيش الإسرائيلي يجمع بوضوح منذ نصف قرن بين «الاجتياح» و«الاقتحام» ليُنزل بجيرانه أكبر الخسائر». ويرى أن استعلاء إسرائيل وإنكارها الوقائع يستندان إلى الدعم الأمريكي لها.

مثل هذا الكلام المندد والمستنكر لم يرضِ طبعًا الكاتب الفرنسي الصهيوني إيلي فيزيل الحائز على جائزة نوبل للسلام. كتب فيزيل مقالة سريعة اتهم فيها علانية «حزب الله» معتبرًا أنه هو الذي حرّض إسرائيل على العدوان. وفي رأيه أن «حزب الله» كان يعرف ما هي العواقب، وأن إسرائيل لن يكون أمامها من خيار سوى الدفاع عن نفسها. وبدوره اعتبر أن الحرب هي بين إسرائيل و«حزب الله» وأن الشعب اللبناني واقع «بين نارين». ولم يتوان عن إبداء «ألمه» حيال معاناة هذا الشعب.

22 - 7 - 2006

ولئن كان الوجود الإسرائيلي الذي تجسده إسرائيل في الشرق العربي بمنزلة الخط الأحمر الذي لا يتجاوزه أي مثقف غربي، فإن بعض الأصوات الفرنسية لم تولِ إسرائيل الحق كل الحق، في عدوانها على لبنان. الصحافي المعروف أندريه فونتين وصف المغامرة الإسرائيلية بـ «الخطرة وذات العواقب المجهولة». وتطرّق الكاتب أوليفييه روا، أحد المتخصصين في الشئون الشرق أوسطية، إلى العجرفة الإسرائيلية القائمة على التفوق العسكري، معتبرًا أنها تحول دون أي تفاهم حقيقي مع العرب. ورأى أن مفتاح الأزمة الراهنة بين إسرائيل و«حزب الله» إنما هو في إيران.

23 - 7 - 2006

البيانات العربية التي تدين العدوان الإسرائيلي وتدعم صمود المقاومة والشعب اللبناني كثيرة. بعضها يمضي في حماسته للمقاومة وبعضها يحمل طابع النص «الشعاراتي» وبعضها يميل إلى الموضوعية في مخاطبة الرأي العام العربي وفضح العنف الإسرائيلي. وهذه البيانات، وإن اقتصر نشرها على بعض الصحف والمواقع الإلكترونية، تبدو ضرورية ليس لأنها تخفف من العبء النفسي الناجم عن الحرب بل لأنها تعبّر عن التزام المثقفين العرب بقضايا شعوبهم وأوطانهم، وعن انخراطهم في مواجهة العدو الإسرائيلي ولو بالنصوص والشهادات.

25 - 7 - 2006

تتناثر الأوراق البيضاء في الفضاء كأجنحة يمائم، كحبّات من البرد في شتاء الجنوب، كرذاذ يتطاير فوق زرقة البحر. يا له من منظر جميل.

ولكن ما إن تسقط الأوراق على الأرض حتى تصبح سوداء.

إنها مناشير تطلقها الطائرات المعادية في سمائنا، حاملة إلى المواطنين المزيد من الخوف والرعب، مناشير تحذّر الناس وتدعوهم إلى هجر منازلهم والنزوح عن أحيائهم، لأن المنازل والأحياء ستقصف.

لا تقوم إسرائيل بمثل هذه المبادرة رحمة بالناس الأبرياء والعزل ولا محبّة بهم، بل ترهيبًا لهم ونشرًا للخوف والأسى.

ولو فطنت إسرائيل لجمالية المنظر الذي تتساقط فيه الأوراق البيض، لما نثرتها من فوق. لكنها تدرك جيدًا أن هذه الأوراق محبّرة بالأسود، بالأسود الذي تغدقه على قرى لبنان ومدنه وغاباته.

إنها مناشير مضمخة بالحقد والكراهية، تحملها بأطراف أصابعك لئلا تتلوث اليد بحبرها السام.

27 - 7 - 2006

لم أستطع أن أستوعب كيف يفتح الجندي الإسرائيلي كتاب «التوراة» أو ربما «التلمود» ويصلّي قبل أن يطلق الصاروخ على القرى والأحياء.

إنها الصلاة قبل القتل، الصلاة التي لابد منها كي تقتل القذيفة الكثير من الأطفال والنسوة، كي تهدم وتحرق وتدمّر. مَن يستطيع أن يفهم مثل هذا المشهد؟

28 - 7 - 2006

فتيات صغيرات جاء بهن الجيش الإسرائيلي وطلب منهن أن يكتبن رسائل إلى أطفال لبنان على القذائف والصواريخ قبل أن تطلقها المدافع نحو ربوعنا.

لا يقتل الجنود أطفالنا فقط، الذين يتساقطون ببراءتهم تحت وابل نيرانهم، بل هم يقتلون أطفالهم أيضًا، ولكن رمزيًا أو نفسيًا. يقتلون طفولة أطفالهم جاعلين منهم قتلة المستقبل. لعلّه القتل الأعنف والأشنع. قتل البراءة في أول تجليها، قتل السلام في مهده.

29 - 7 - 2006

تحت الخيمة، في حديقة الصنائع لم تستطع الطفلة أن تبصر القمر في الليل، تلك الليلة لم يطلع القمر بضوئه الفضي. والخيمة لم تكن سوى خرقة قماش نصبت في إحدى الزوايا.

النازحون من الجنوب إلى هذه الحديقة القديمة لم يعتادوا النوم في الهواء الطلق. والخيمة التي كانوا ينصبونها على سطوح منازلهم تختلف عن هذه الخرق البيضاء، التي تردّ عنهم رذاذ الليل وأشعة الشمس في النهار.

الخيم فوق السطوح كانت أشبه بالغرف المفتوحة التي يحلو النوم تحتها والسهر والسمر.

هنا في الحديقة لا يحلو النوم ولا السهر، والعراء الواسع الذي تحرسه الأشجار يُشعر الإنسان بأنه أشبه بالحشرة أو بالعصفور الذي لا غصن له، يبيت فيه.

إنهم النازحون، يتوزعون تحت الشجر، في زوايا الحديقة، على المقاعد، أو يقفون ويمشون داخل الأسوار الحديد. لاشيء لديهم ليعملوا، يتمددون على الأرض، يحلمون بالعودة ويفكرون بأمور شتى، ويخشون أكثر ما يخشون، أن يغدرهم الشتاء وهم هنا، بلا بيوت ولا سقوف ولا أسرّة، الشتاء قاس في بيروت ولو لم يكن باردًا.

وحدهم الأطفال يبتسمون ويلعبون، متناسين ما حصل ويحصل. لكنهم في أعماق قلوبهم يدركون أن المأساة كبيرة، أكبر من البحر.

كنا نقول سابقًا: «المهجّرون»، اليوم نقول: «النازحون»، المعنى هو نفسه تقريبًا. لكن المهجرين في معجمنا اللبناني هم الذين هجّروا «أهليًا» من بيوتهم وقراهم. أما النازحون فهم الذين هجرتهم إسرائيل.

إلا أن المشهد هو نفسه، والضحايا هم أنفسهم، والآلام هي نفسها، يكفي أن تنظر من وراء قضبان حديقة الصنائع لتدرك كم أن المشهد أليم وأليم جدًا.

31 - 7 - 2006

لم تستثن الآلة الجهنمية الإسرائيلية جنازات الضحايا الأبرياء، كأنها تخشى أيضًا الموتى المرفوعين على الأكف، والشهداء الذين ما برحوا في الأكفان، ولم يتسن لأهلهم أن يدفنوهم. إنها تقتلهم مرتين.

صورة الجنازة التي قصفتها إسرائيل في بلدة الغازية الجنوبية كانت أكثر من رهيبة. عندما سقطت القذائف على المشيعين تفرّق هؤلاء خائفين ومصدومين، وسقط أكثر من محمل على الأرض، صورة أليمة جدًا، جثامين الشهداء على الأرض ينتهك القصف حرمتها، ولا أحد يجرؤ على الاقتراب منها. هذه صورة نادرة في تاريخ الحروب، عدو لا يقتل الأحياء فقط بل الموتى أيضًا، الموتى الذين قضوا قصفًا وخوفًا ورعبًا.

تكاد صور المأساة تدمي العيون، يشعر المرء بأن الدموع، التي تنهمر من عينيه حمراء اللون. الصور المأساوية الرهيبة تجرح، وتعجز العينان عن استيعابها، بل عن التحديق فيها. الحرب هي أكثر من صورة، إنها صورة الصور، الصورة الأشد إيلامًا من القتل نفسه، الصورة الأشد رعبًا من المجزرة نفسها.

الشهداء الذين يسقطون يحيون في الصورة، في الصورة الحية ، التي تؤرخ لحظة سقوطهم. صورة خائنة ولكن حقيقية، حقيقية جدًا:" الجسد الذي تفضحه الكاميرا لم تبق فيه أي أسرار، المرأة الميتة المحنية الرأس، لم يكن لديها وقت لتعتذر، الطفل الذي مات كالملاك ما برح جسده على حاله، لكن الروح فارقت.

حتى البيوت والحقول والحدائق لا تنجو من الموت الذي تصنعه الصورة، في إحدى الصور بدت إحدى العائلات تندب بيتها الذي تهاوى. أجل، بيتها. صورة البيت الذي تحول أنقاضًا أقل ألمًا من صورة العائلة التي تندبه. البيت فرد من العائلة أيضًا. البيت إنسان يحيا مع الأحياء ويموت معهم. في لحظة وجدت هذه العائلة الجنوبية نفسها بلا بيت، بلا سقف، بلا باب. ربما المفاتيح وحدها نجت، لكنها ستصبح ذكرى مفاتيح، بعضهم يقول إن البشر أهم من الحجر. هذا قول صحيح. لكن حجر البيت، حجر حميم وحنون، له قلب يخفق وروح تنبض. الحجز صديق صاحبه، صديق لا يخون مهما حصل.

1 - 8 - 2006

كلما دانت الأسرة الدولية العنف الإسرائيلي الوحشي الذي تمارسه في حربها على لبنان، تذرّع رئيس الوزراء الإسرائيلي بحرب كوسوفو وكيف أبادت قوات الحلفاء عشرة آلاف من المدنيين هناك. السفّاح يبرر أفعاله الشنيعة بأفعال سفاحين آخرين يقلّون قسوة عنه. القتل يبرر القتل وإن اختلف الزمن والمكان والظروف، يبقى نحو تسعة آلاف قتيل لتبلغ المجرة التي ترتكبها إسرائيل في لبنان، حجم الحرب في كوسوفو. هل تستطيع إسرائيل أن تلتهم وحدها هذا الكمّ الهائل من الدم؟

هذه الحرب هي حرب على لبنان، أي كلام آخر هو في حكم المؤجل، وكذلك أي سجال حول المقاومة وحول سلاحها ومبادرتها الفردية وحساباتها الخاصة، إنها الحرب على الكيان اللبناني الذي لو قدرّ له أن ينهض، لكان خير كيان يمكن الاقتداء به. إنها حرب على الفكرة اللبنانية، التي لم يتوافر لها أن تترسخ. إنها حرب على ماضي لبنان الذي لم يكن سعيدًا دومًا، وعلى مستقبله الذي طالما كان غامضًا.إنها الحرب على لبنان بكل أزمانه وعلله، إنها الحرب على لبنان بذاته.

2 - 8 - 2006

رحل المؤرخ والعلاّمة نقولا زيادة في أوج الحرب، التي تشنّها إسرائيل على لبنان، كان ينقصه عام ليصبح عمره مائة عام، ويقضي قرنًا بكامله، كان هو واحدًا من الشهود الكبار له وعليه. نقولا زيادة، الرجل الموسوعي، لم يدع القلم يسقط من بين أصابعه حتى اللحظات الأخيرة. وسنواته التسع والتسعون، التي عاشها كما يجب أن تعاش، لم تحل دون توقد ذهنه، وتماسك وعيه وقوة ذاكرته. فظل المرجع التاريخي، الذي كانت تحسن العودة إليه ترسيخًا لحدث ما، أو تصحيحًا لخطأ، وحلاً لإشكال مختلف عليه. وكان هو دومًا العالم المتواضع، الرحب الصدر، والمتابع الدءوب لأي جديد في التاريخ على اختلاف أصنافه.لم يكن نقولا زيادة مؤرخًا مجرد مؤرخ، بل كان واحدًا من الذين صنعوا «علم التاريخ»، مرتكزًا على اختصاصه العلمي ومنهجه الأكاديمي وثقافته الشاسعة، الضاربة في أديم المعرفة الشاملة، ولعل وفرة المراجع، التي كان يعود إليها تدل على مدى تضلعه في علم التاريخ والمعرفة. إلا أن المؤرخ فيه لم يخضع للبعد العلمي الصرف، والأسلوب الجاف، والكتابة الرتيبة، بل كان مبدعًا في تأريخه، ذا نزعة أدبية بيّنة، ميالاً إلى الأدب ولطائفه. كان نصه التاريخي نصًا نثريًا، متين السبك، بهي الجمل، قويًا ومتماسكًا، وهذا الاعتناء بجمالية اللغة، نابع من ذاته، هذه الذات التوّاقة دومًا إلى الجمال والمعرفة.رحل العلاّمة نقولا زيادة عن تسع وتسعين سنة، أمضى أكثر من سبعين منها كاتبًا وباحثًا ومعلقًا ومحققًا ومترجمًا. ولم يأخذه يومًا أي ملل أو كلل، بل ظل منكبًا على الكتابة حتى الرمق الأخير.رحل نقولا زيادة في أوج الحرب، ولم ينل ما يستحق من مديح في الصحافة. لكنّ العودة إليه ستكون ضرورية بعد الحرب.

14 - 8 - 2006

قيل إن الحرب انتهت. ولكن هل انتهت حقًا؟ ترى ألا تبدأ مأساة الحرب عندما تنتهي الحرب نفسها؟

يكفي أن تجلس أمام الشاشة الصغيرة، لتشاهد كيف تنتهي الحرب! كانوا يقفون أمام الأنقاض مدهوشين، النسوة يبكين بأصوات مجروحة، والرجال يقاومون بضع دمعات في عيونهم: إنها منازلهم، وقد تهاوت، ولم يبق منها سوى الركام.

جاءوا باكرًا، بعد إعلان الهدنة، ليتفقدوا المنازل والأحياء، التي نزحوا عنها قبل أسابيع فلم يجدوها، بل وجدوا ما يخبر أنها كانت هنا، وأن القذائف الإسرائيلية دمّرتها. إنهم العائدون الذين كانوا يسمّون قبل أيام بالنازحين، العائدون الموقتون الذين تكفيهم تلك النظرات الحزينة، يلقونها على بيوتهم التي كانت، ثم يعودون إلى المدارس والحدائق، التي لجأوا إليها منذ الثاني عشر من يوليو.

هذا المشهد الأليم هو أول ما يلفت على الشاشة الصغيرة، الكاميرا التي زارت الضاحية الجنوبية وأحياءها المدمّرة، نقلت للفور مأساة المواطنين، مأساة هؤلاء الواقفين على الأنقاض، تختصر الكثير من مآسي الحرب، التي شنتها إسرائيل على لبنان، فالمنازل «غالية» أيضًا، وإن أقلّ من الأحباب، من الأطفال والأمهات والناس الذين سقطوا في القصف المجنون.

كأن الضاحية الجنوبية أصبحت واجهة بيروت، بيروت الأخرى، التي لا تزال محاصرة بحرًا وسماء، هذه الأحياء، هي التي فتحت صدرها للقذائف والصواريخ، بل هي التي كانت «مختبر» الحرب، مثلها مثل الجنوب بمدنه وقراه.

لكن الحرب مكلفة حتمًا، خصوصًا في مثل هذه المنطقة التي لا تعرف اليسر كثيرًا.

هذا ما يؤكده الخراب الهائل الذي يمتد بين منطقة وأخرى، بين الشياح وحارة حريك وحي ماضي وحي معوض والمربع الأمني، هنا أزقة محيت تمامًا، وهناك أبنية كأنها اصطيدت اصطيادًا فسقطت وقربها أبنية ما برحت «صامدة»، شرفات تتدلى، غرف معلقة وما بقي في داخلها يسرد حكاية أهلها الذين كانوا هنا، مطابخ مقطوعة بالنصف، ألعاب تفتقد أطفالها وأغراض وأشياء لطالما ضمتها البيوت.

16 - 8 - 2006

لقد توقفت الحرب، ولكن هل تنتهي الحروب فجأة، كما تبدأ فجأة؟.

 

عبده وازن

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




العدوان الإسرائيلي هدم في الأسبوع الاول من الحرب 15 ألف منزل لبناني





الصواريخ التي اطلقت على القرى اللبنانية سبقتها صلوات قبل القتل





جنود ودبابات تحاول عبور الحدود ولكنها وجدت الموت