عاطف العراقي.. أفكار حياة فلسفية: أمير الغندور

 عاطف العراقي.. أفكار حياة فلسفية: أمير الغندور

عن عمر يناهز 77 عاما، قضاها وحيدا متوحدا في صومعة الفلسفة الإسلامية، رحل عاطف العراقي عن عالمنا نهاية شهر فبراير من العام الحالي 2012، وذلك بعد مسيرة طويلة ومثمرة في الفلسفة الإسلامية.

تبنى الدكتور عاطف العراقي طريقة محددة في قراءة المذاهب الفلسفية. وقد قدم طريقته هذه في كتابه الصادر عام 1973، بعنوان: «تجديد في المذاهب الفلسفية والكلامية»، والذي طبع عدة مرات في دار المعارف. وفيه ميز الدكتور عاطف العراقي بين طريقتين في تناول الأفكار والمذاهب الفلسفية:

- القراءة الأفقية: وهي تكتفي بالرواية والحكاية والعرض للأفكار والمذاهب الفلسفية.

- القراءة الرأسية: وهي تعتمد النقد والتحليل وتنفذ إلى صميم الأفكار والمذاهب التي تتناولها دون أن تكتفي بعرضها.

وقد دعا إلى اعتماد القراءة الرأسية، بدلا من الأفقية. ويكتب عاطف العراقي: «نشير إلى أن هذا النقد والتحليل نسميه فكرا رأسيا. ومن هنا كان الاقتصار على الرواية والحكاية يعد فكرا أفقيا. فإذا كان الفكر الأفقي يعد فكرا مسطحا، فإن الفكر الرأسي يعد فكرا ينفذ إلى الصميم... غير مجد في يقيني واعتقادي هذا النوع من الدراسات التي يزعم لها أصحابها أنها دراسات فلسفية، في حين أنها تقوم على الرواية والحكاية ربما لغرض التسلية». (ص 17 - 19)

وفي تصديره للكتاب نفسه، وبعنوان «منهج عقلي تجديدي أدعو إليه» يكتب عاطف العراقي:

«يجب علينا إزاء فكر فلاسفة العرب، أن نقف موقف المحلل الناقد، فهم أولا وأخيرا بشر وليسوا بقديسين.. ولو خلعنا عليهم وعلى أفكارهم هالات من القداسة لأخطأنا في دراسة أفكارهم خطأ ما بعده خطأ... ويقيني أن أعظم ما يؤدي إلى تقدير الفيلسوف حق قدره هو تحليل أفكاره ونقدها، لأن في هذا دليلا على أنها أفكار حية لم تولد ميتة، وإلا لما اهتممنا بها من جانبنا. أما إذا لم نفعل ذلك فسوف لا نكون دارسين في مجال الفلسفة بل خطباء في حفلات التكريم». (ص 16 17)

التراث بين النشر والإحياء

يوسع عاطف العراقي مسألة التمييز بين «الطريقة الأفقية» و«الطريقة الرأسية» في تناول الفلسفة، لتصبح معياراً للتعامل مع التراث. فهو يميز بين عملية نشر أو طباعة أو تحقيق التراث، وبين عملية إحياء التراث. وهو لا يجيز الخلط بين هاتين العمليتين المختلفتين، فيكتب: «سبق أن ميزنا بين «طبع التراث» و«تحقيق التراث» وإحياء التراث». وقلنا إن المهم عندنا أو ما ينبغي أن يكون كذلك، هو إحياء التراث .. إن الطبع (لأعمال التراث) لا يجعلنا نتقدم خطوة واحدة نحو التجديد». (ص 19 20)

نشير فقط إلى أننا سنحاول اعتماد الطريقة الرأسية في تناول أفكار وآراء الفيلسوف عاطف العراقي، حيث لن نكتفي بعرضها وروايتها فقط، بل سنحاول الخوض في نقاش معها بهدف تحريكها وتأكيد حيويتها.

إلا أن الطريقة الرأسية تتطلب تضمين الطريقة الأفقية داخلها، ولا تنفيها بالضرورة. وذلك باعتبار (الطريقة الأفقية) بمنزلة خطوة أولى في مسار الطريقة الرأسية، وليست (الأفقية) محطة نهائية لمسار (الرأسية).

ذلك أنه لا يوجد تعارض تام بين الطريقتين (الأفقية والرأسية)، بل كثيرا ما تتطلب الطريقة الرأسية البدء بالطريقة الأفقية في عرض ورواية وتحقيق الأفكار، قبل الخوض في نقدها وتحليلها ومناقشتها وربما معارضتها. بينما يحدث التقصير فقط إذا ما تم الاكتفاء بالطريقة الأفقية وحدها وكأنما هي محطة الوصول، دون استكمال الجهد والمسيرة باعتماد الطريقة الرأسية من بعدها.

ثورة العقل في الفلسفة العربية

ثورة عاطف العراقي هي ثورة عقلية داخل الفلسفة. وهنا تترادف المصطلحات كما يلي:

  • الثورة = العقل.. وذلك ضدا على اللاعقل والقول الغيبي والقول الخطابي والقول الشعري.
  • الداخل = الفلسفة.. ضدا على الخارج أي ما هو خارج الفلسفة أي التصوف وعلم الكلام.

ذلك أن عاطف العراقي في كتابه «ثورة العقل في الفلسفة العربية»، يحدد ما يسميه «الثورة من الخارج» كما يلي: «فقد نجد شكلا من أشكالها يتبلور حول: نقد الفلسفة والهجوم على التفكير العقلاني ورفض الفلسفة اليونانية والمنطق الأرسطي». (ص 18)

ويصف من يدعون إلى هذه الأشكال بأنهم «دخلاء على الفلسفة ولا يعتبرون فلاسفة من قريب أو بعيد».

ثم يضع العراقي «المعتزلة» في حال وسط، بين الفلاسفة وبين الدخلاء على الفلسفة. فهو يصفهم بأنهم «قاموا بدور كبير وخلاق لأنهم لم يتخلوا عن العقل. لكن نقطة الخلاف بين عاطف العراقي وبينهم هي أن اتجاههم كان أساسا اتجاها كلاميا جدليا لا يرقى إلى مستوى البرهان. فبضاعتهم هي بضاعة الجدل لا بضاعة البرهان. (ص 19)

أما من يتفق معهم عاطف العراقي ويرى فيهم التمثيل الحقيقي للثورة من الداخل، فهم فلاسفة العرب. وأبرزهم ابن رشد، «لأن اتجاهه يقوم على البرهان واليقين، ويبتعد تماما عن الجدل الكلامي الأشعري». (ص 19) فهذا هو ما يقصده عاطف العراقي بالثورة العقلية من الداخل. وهو يصف هذا الأمر بأنه «دعوة إلى عمود الفلسفة»، وإلى إعلاء كلمة العقل فوق كل كلمة (ص 29). ولذا فلابد من عقد المقارنات والمفاضلات بين مختلف الاتجاهات الفكرية المتاحة في الثقافة العربية، ثم قياس مدى التزام كل منها بطريق العقل والبرهان.

وتتوصل أبحاث عاطف العراقي إلى أنه يوجد لدينا ثلاثة اتجاهات أساسية لها ثلاثة مصادر للمعرفة ، وهي:

- التصوف: وينتهج الطريق الوجداني القلبي.

- علم الكلام: الذي ينتهج الطريق الجدلي الكلامي.

- الفلسفة: التي تنتهج الطريق البرهاني العقلي.

ويمكن فهم وتقييم كل اتجاه من هذه بالبدء بدراسة مصادرها الخاصة بها لاكتساب المعرفة التي تعتمد عليها.

ما هي مصادر المعرفة؟

يميز عاطف العراقي مصادر المعرفة كما ظهرت في الفكر العربي إلى صنفين (ص 35 وما بعدها):

- مصادر يقينية: وهي تؤدي إلى طريق الحق. وهي تتكون من الأوليات العقلية المحضة، والمحسوسات والمجربات والمتواترات والحدسيات.

- مصادر غير يقينية: وهي تؤدي إلى طريق أشباه الحقائق، وهي تتكون من المقبولات والمظنونات والمسلمات والمشهورات والمخيلات والوهميات.

وتعتمد ثورة العقل على مصادر المعرفة اليقينية وحدها. أما مصادر المعرفة غير اليقينية فهي تؤدي إلى أخطاء وإلى ظاهر اليقين الظني وليس إلى حقيقة اليقين البرهاني. فالمعرفة اليقينية تتبلور حول المقدمات البرهانية، حيث البرهان هو المعبر عن ثورة العقل. (ص 37)

وتكمن أهمية التمييز بين هذين الصنفين لمصادر المعرفة في أنه هو المسئول عن التمييز الموازي بين الموقف الفلسفي (البرهاني) ،والموقف غير الفلسفي (الكلامي الجدلي، والصوفي، والخطابي الشعري). (ص 22)

الجهود النقدية لعاطف العراقي

أحيا عاطف العراقي المنهج الذي ابتكره الفيلسوف ابن رشد في النقد الفلسفي القائم على البرهان. وذلك كما يلي:

نقد علم الكلام

يرى العراقي أن المتكلمين قد خرجوا على قواعد البرهان والقياس. واستخدموا بدلا منها أقوالا تقوم على مقدمات لا مبرر لها غير شهرتها. ولذلك فهم يعتبرون «خارج» الفلسفة. (ص 22: من ثورة العقل في الفلسفة العربية).

فعندما يشير المتكلمون في مؤلفاتهم إلى أن هذا الشيء يوجبه العقل أو ينفيه العقل، فإنهم يعنون بذلك «المشهور» في بادئ الرأي المشترك بين الناس. فهم يسمون ذلك العقل. ويقولون إنها لعلم بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات. (ص 26: من تجديد المذاهب الفلسفية والكلامية).

ويصف ابن رشد أن أقوال علماء الكلام غير برهانية. فهم قد وقفوا موقفا وسطا بين الأقوال البرهانية، وبين الأقوال الخطابية. فلا انتفع بهم الخاصة. لأن الخاصة لا تنتفع إلا بالبرهان. ولا انتفع بهم العامة. لأن العامة لا تصدق إلا الخطابة. إذن فصناعة علم الكلام لا فائدة ترجى منها - كما يرى ابن رشد. إذ الصناعتان النافعتان، هما البرهان والخطابة. أما الجدل، فلا يقصد لا إلى هذا ولا إلى ذاك. (ص 27)

نقد التصوف

يرى العراقي أن المتصوفين لهم مصطلحات وعلوم خاصة بهم. فمثلا يختلف مصطلح «اليقين» لدى المتصوفة عما لدى الفلاسفة. فاليقين عند الفلاسفة هو البرهان النظري أساسا. أما اليقين الصوفي فهو علم القلوب. فاليقين الصوفي يعارض الطريق الحسي النظري، وينتهج بدلا منه الطريق القلبي. فالدليل على الله لدى المتصوفة هو الله وحده، أما العقل فهو محدث، وعاجز عن جلب الدليل، لأن المحدث لا يدل إلا على محدث مثله. ولذا يتبنى المتصوفة الحكمة الوجدانية الذوقية، ويرفضون الحكمة الأرسطية العقلية البرهانية. وبهذا يكون التصوف هو ممارسة عملية وجدانية، وليس ممارسة فلسفية نظرية.

وعلى هذا يعد التصوف بمنزلة طريقة فردية. إذ لكل متصوف مسلكه الفردي إلى الله، وعالمه الروحي الذي يعيش فيه وحده. فهم إذن كما يصفهم الغزالي أرباب الأحوال، لا أصحاب الأقوال. وهم يصلون إلى هذه الأحوال من خلال الإلهام، دون واسطة بين النفس وبين الله. وهذا لا يتحقق من خلال النظر العقلي. ولذا فهم يقولون بالأنوار الإشراقية التي تقذف في قلب الصوفي بطريق الفيض من الله. (من تجديد المذاهب الفلسفية والكلامية: (ص 24)

نقد الغزالي

يعد الغزالي مثالا نموذجيا لمن يطلق عليهم العراقي «الدخلاء» على الفلسفة. فالغزالي يميز حقا في المجال المنطقي بين معرفة يقينية ومعرفة غير يقينية. ولكنه حين ينتقل إلى المجال الفلسفي، فإنه لا يلتزم بهذا التمييز. فهو يتحدث عن اليقين، لكنه لا يلتزم به، بل يزعم أنه يرفض منهج أهل اليقين (الفلاسفة). (ص 20)

ويرى الغزالي أن آراء الفلاسفة لو كانت صحيحة، لما اختلفوا حولها، ولكانت مثل الحقائق الرياضية، يتفق عليها الجميع دون خلاف. (ص 27)، ولذلك يصرح الغزالي بأنه يكتب في الفلسفة كي يحطمها وليس لينفعها. ثم يكفر الفلاسفة في ثلاث مسائل من أقوالهم.

ويرد عاطف العراقي على هذه النقطة بالقول إن الحقيقة لا يمكن الوصول إليها كما يظن الغزالي، بل غاية الفلسفة هي الدنو والاقتراب منها، ولذا تقوم الفلسفة على الحوار. (ص 28).

ويرفع الغزالي مرتبة إيمان المتصوفين العارفين أصحاب المعرفة الصوفية إلى أعلى مراتب الإيمان، ويجعله فوق مرتبة إيمان الفلاسفة وإيمان العوام وإيمان علماء الكلام.

ويورد العراقي رد ابن رشد على الغزالي (في التهافت) حيث يقول:

«إذا كان الغزالي يقول في تهافته (كتابه المعنون بالتهافت) إنه لم يخض خوض الممهدين بل خوض الهادمين المعترضين، وإنه سمى كتابه تهافت الفلاسفة لا تمهيدا لحق، فإن هذا القصد لا يليق به، بل بالذين غاية في الشر. وكيف لا يكون ذلك كذلك ومعظم ما استفاده الغزالي من النباهة وفاق الناس فيما وضع من الكتب إنما استفاده من كتب الفلاسفة ومن تعاليمهم.. وإنه لا ينبغي أن نشوش دعاوى الفلاسفة كما يفعل الغزالي، فإن العالم بما هو عالم إنما قصده طلب الحق، لا إيقاع الشكوك وتحيير العقول. أما الفلاسفة فإنهم لا يقصدون الغلط بل الحق. وإذا أخطأ الفيلسوف في إصابة الحق، فليس يقال فيه إنه ملبس. والفلاسفة معلوم من أمرهم أنهم يطلبون الحق، فهم غير ملبسين أصلا». (ص 80 - 83)

نقد ابن سينا

يتبنى عاطف العراقي نقد ابن رشد لابن سينا. ويرى أن هذا النقد أهم من نقد ابن رشد للغزالي. وهو يبدأ بتناول تمييز ابن سينا بين اللذة الباطنة واللذة الحسية، حيث رفع ابن سينا الباطنة على الحسية. لكنه استند في ذلك إلى التصوير الكيفي وليس إلى التحديد الكمي، حيث يجري المقارنة بين أ (نفس مثلا)، وب (جسد مثلا). وبذلك تقترب أفكاره من أفكار الأديب الفنان، منها إلى أفكار الفيلسوف.

ويرى عاطف العراقي أننا لابد أن نميز بين الثوب الكيفي والثوب الكمي، إذا أردنا إنجاز ثورة العقل والتجديد. ذلك أن ما يورد ابن سينا هنا هو أقرب إلى حديث الوجد وليس إلى حديث العقل. وكان يتوجب على ابن سينا أن يبين موقف العقل من الاختلافات بين الكيف والكم، دون أن يلجأ إلى التصوير الصوفي والوجداني في شرح هذه المسائل. فكان يتوجب عليه اعتماد لغة العقل بدلا من لغة الوجدان. لأن اللغة الوجدانية تنطوي على كثير من المخاطر والأخطاء التي لا يمكن للعقل أن يقبلها. (ص 31)

مسار تقدم العقل

يؤكد عاطف العراقي أهمية ألا ننحرف عن المسار العقلي الذي دشنه ابن رشد، إلى مسارات أخرى تخرجنا إلى خارج الفلسفة العقلية السليمة. ويرى ضرورة أن تكون الثورة المأمولة هي ثورة عقلية من داخل الفلسفة العربية. وذلك لأن: «العقل هو الذي يصحح نفسه بتمرده على نفسه، من العقل وبصحيح العقل. إذ لا يقوم اللامعقول بتصحيح المعقول. فصحيح أن العقل قد يكون بطيئا في سيره ولكن هذا البطء راجع إلى أنه يشق طريقه وسط الأشراك، وأنه دوما يعود آنا بعد آن إلى الوراء لكي يحكم خطاه نحو مستقبل ينتظره ومهمات غاية في التنوع. فلا يجب أن نلوم العقل على المهمات التي لم ينجزها، بل يجب النظر إلى المهام التي أنجزها، والمهام التي ما زالت أمامه لإنجازها والتي من المؤكد أنه سيعمل على إنجازها، كما يثبت ذلك تاريخ الفكر الإنساني والفلسفي المتمسك بالعقل. (ص 34)

المذهب العقلي

يرى عاطف العراقي أن الإنسان يسير في حياته الفكرية على هدي طريق من ثلاثة:

- إما حسي تجريبي.
- وإما عقلي.
- وإما أنه يحاكي الناس ويقلدهم.

فالأول هو المذهب التجريبي والثاني هو العقلي والثالث هو التقليدي.

أما صاحب المذهب العقلي فيؤمن بقيمة العقل وله مبادئ أولية يعتمدها ويهتدي بها، ويتخذ العقل مقياسا ومعيارا، على أساسه يحكم على الأشياء بأنها صواب أو خطأ. ويرى أن كل شيء له وجود، بعلة معقولة، ولذلك فكل ما هو موجود فهو معقول وقابل للعلم بالعقل. فالعقل الإنساني قادر بلا مساعدة خارجية على تحصيل الحقيقة الموضوعية. ومادة المعرفة قد أخذت من العقل نفسه العقل وليس من التجربة أو من خارج العقل، أي أنها أفكار أولية واضحة تترتب عليها نتائج بالضرورة. فالتجربة (من خارج العقل) ممكنة فقط عند صاحب عقل يقوم على مبادئ كلية ضرورية (هي الضوء الطبيعي للعقل).

ولصاحب العقل القدرة على اكتساب العلم. وكل تعلم إنما يكون بمعرفة متقدمة للمتعلم، وإلا لم يمكنه أن يتعلم شيئا. مثال ذلك أن الذي يتعلم عن طريق القياس، يجب قبل تعلمه نتيجة القياس أن يكون قد سبق عنده العلم بمقدمات القياس. (ص 74)

فمن أين يأتيه هذا العلم الأولي، إلا من العقل؟ إذن، فالعقل يحتوي على علم أولي خاص به.

والعلم يحدث بإدراك العقل للكليات المجردة وذلك بتجريد المعقولات من المحسوسات. ثم اكتشاف العلاقات بينها. (ص43)

إحياء منهج ابن رشد

يتبنى عاطف العراقي مفهوم ابن رشد عن العقل والذي أورده (الأخير) في «تهافت التهافت» ص 123:

«ليس العقل شيئا أكثر من إدراك الموجودات بأسبابها. فمن رفع الأسباب فقد رفع العقل. وصناعة المنطق تحدد أن هاهنا أسبابا ومسببات، وأن المعرفة بتلك المسببات لا تكون على التمام إلا بمعرفة أسبابها. ورفع هذه المسببات مبطل للعلم ورافع له، إذ يلزم ألا يكون ها هنا شيء معلوم أصلا علما حقيقيا، بل إن كان ثمة علم فهو علم مظنون. كما لا يكون ها هنا برهان ولا حدّ. وترتفع أصناف المحمولات الذاتية التي تأتلف منها البراهين. وبالتالي فإن من يذهب إلى عدم وجود أي علم ضروري، يلزمه أن لا يكون قوله هذا ضرورياً».

ما البرهان؟

في مناقشته وتفصيله للبرهان، يعتمد عاطف العراقي على ابن رشد وكذلك على ابن سينا في مؤلفاته الفلسفية. فهو يورد قول ابن سينا في (النجاة):

«إن البرهان قياس مؤلف في يقينيات لإنتاج يقيني. واليقينيات إما أوليات أو تجريبات أو متواترات أو محسوسات. وأما (لكن) الذائعات والمقبولات والمظنونات، فخارجة عن هذه الجملة».

كما يورد قول ابن سينا في (منطق الشفاء):

«يفترق القياس البرهاني عن غيره من الأقيسة. إذ القياسات على مراتب: فمنها ما يوقع اليقين وهو البرهاني، ومنها ما يوقع شبه اليقين، وهو القياس الجدلي والسفسطائي. ومنها ما يقنع فيوقع ظنا غاليا، وهو القياس الخطابي. وأما القياس الشعري فلا يوقع تصديقا، ولكن يوقع تخيلا محركا للنفس».

ويرى عاطف العراقي أن البرهان يسعى إلى طلب الحق في ذاته، ولذا يعتمد على المصادر اليقينية وحدها، وهو بذلك يضمن سلامة المنهج الفلسفي الهادف لطلب الحق.

أما المناهج الأخرى فلها مساعي وأهداف أخرى غير الحق. فمثلا يسعى علم الكلام في أحد أهدافه إلى تحقيق مطالب دينية تتعلق بإفحام الخصوم المتحالفين على أساس ديني. ولذلك فهو لا يعتمد البرهان اليقيني، بل يعتمد القول الجدلي.

كما يورد عاطف العراقي قول ابن رشد في فصل المقال:

الناس على ثلاثة أصناف: صنف ليس من أهل التأويل، وهم الخطابيون الذين هم الجمهور الغالب. وصنف من أهل التأويل الجدلي. وصنف من أهل التأويل اليقيني، وهؤلاء هم البرهانيون. (ص 21)

فالأقاويل البرهانية هي التي من شأنها أن تفيد العلم اليقيني المطلوب الذي تلتمس معرفته سواء استعملها الإنسان فيما بينه وبين نفسه أو خاطب بها غيره أو خاطبه بها غيره في تصحيح ذلك المطلوب. وهو العلم الذي لا يمكن أن يرجع عنه ولا تقع فيه شبهة تغلط ولا مغالطة ولا ارتياب». (ص 71)

الدفاع عن السببية

يكتب عاطف العراقي، في كتاب «الفيلسوف ابن رشد ومستقبل الثقافة العربية»:

«الواقع أن الدارس للفكر الفلسفي العربي يلاحظ أن المفكرين الذين يتجهون اتجاها عقليا كابن رشد يقررون أن العلاقات بين الأسباب والمسببات تعد علاقات ضرورية، ولكن المفكرين الذين لا يعتمدون على العقل كالأشاعرة والغزالي يذهبون إلى أن العلاقات بين الأسباب والمسببات تعد علاقات غير ضرورية بل ترجع إلى مجرد العادة. والله تعالى قادر على خرق العلاقات بين الأشياء، لأنه تعالى يؤثر في الأشياء بطريقة مباشرة، وإرادته مطلقة غير مقيدة بضروريات. فكل شيء ممكن بالنسبة له تعالى وكل حركة وكل تغيير مصدرها الله.

ومعنى هذا أن نفي القاعدة السببية يعد مبدأ من مبادئ الأشاعرة، بدليل ذهابهم إلى أن الله إذا أراد تغيير النظام الذي يبدو لنا في الكون لاستطاع ذلك، وبدل العادة وخلق عرضا بدل عرض آخر، هذا يؤدي بدوره إلى حدوث معجزة، إذ المعجزة ما هي إلا خرق للعادة. وهذه أدلة تنهض على نفي القاعدة السببية، أي: عدم الاعتراف بالعلاقات الضرورية المحددة المعينة بين الأسباب ومسبباتها. وهم لهذا يؤكدون باستمرار عمل ما يسمونه بالعلة الأولى، أما ما يسمى بالعلل القريبة، فإنهم لا يعترفون بها، إذ من الممكن أن يحدث الشبع بالرغم من عدم تناول الطعام، وهكذا إلى آخر هذه الأمثلة، ومعنى هذا أن ما يبدو من عمل العلل القريبة يعد من قبيل الوهم، لأن الله هو الذي يخلقها كما يخلق لنا ما يظهر من آثارها.

وإذا كان الأشاعرة يذهبون إلى نفي القاعدة السببية، فإن الغزالي قد تأثر بهم أكبر تأثر، بحيث إن موقفه يعد موقفا أشعريا قلبا وقالبا. فهو قد سار على نهج الأشعري والباقلاني، فيما يختص بقولهم إن الاقتراب بين ما يعرف بالسبب وما يعرف بالمسبب، إنما هو اقتران مرده إلى العادة لا إلى الضرورة العقلية. وقد عرض الغزالي موقفه الذي.. يبين فيه أنه من الجائز مثلا وقوع الاتصال بين القطن والنار دون حدوث احتراق. أو تحول القطن إلى رماد محترق دون ملاقاة النار. هذا عن التيار الأشعر والغزالي. فما موقف فيلسوفنا ابن رشد؟

إن نظرة ابن رشد لمشكلة السببية تعد انتصارا للعقل.. حيث إن أقوالهم الأشعري والغزالي في نظر ابن رشد تعد أقوالا سفسطائية ومخالفة لطباع الإنسان في اعتقاداته وفي أعماله. ومن هنا يكون إنكار وجود الأسباب الفاعلة في المحسوسات إنما هو من قبيل الأفعال السوفسطائية». لكن ماذا يعني ابن رشد؟

إنه يعني أننا نتصرف في حياتنا بناء على أن لكل شيء طبيعة ثابتة. فطبيعة الماء هي البرودة. وشرب الماء لابد أن يؤدي إلى الارتواء. فإذا قلنا إنه لا توجد علاقات ضرورية بين الماء والارتواء، أو بين النار والحرارة، فإن هذا يعني أن أقوالنا لا تتفق مع تصرفاتنا وأفعالنا. وابن رشد يبين أن موقفه متفق مع الدين.

حيث يقول الله تعالى: «صنع الله الذي أتقن كل شيء» (النمل - 88)، «وما ترى في خلق الرحمن من تفاوت، فارجع البصر هل ترى من فطور. (الملك - 3). وذهب إلى أن من يلغي الأسباب فإنه يلغي العقل. إذ إن العقل ليس شيئا أكثر من إدراك الموجودات بأسبابها ومن رفع الأسباب فقد رفع العقل». (ص 57 - 59).

عاطف العراقي أفكاره وحياته الفلسفية

عاطف العراقي من مواليد 15 نوفمبر 1935 بمحافظة الدقهلية، بمصر، وقضى حياته يعمل أستاذاً في جامعة القاهرة، منذ عام 1970 وحتى وفاته عقب إلقاء محاضرته اليومية فيها، نهاية شهر فبراير 2012.

وحصل عاطف العراقي على ليسانس الفلسفة من كلية الآداب، جامعة القاهرة، في 1957، ثم الماجستير في 1965، ثم الدكتوراه في 1969. وشغل منصب رئيس قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة في عام 1981.

كتبه:

أصدر عاطف العراقي العديد من المؤلفات المهمة في مجال الفلسفة الإسلامية، منها:

1 - النزعة العقلية في فلسفة ابن رشد.
2 - الفلسفة الطبيعية عند ابن سينا.
3 - مذاهب فلاسفة المشرق.
4 - تجديد في المذاهب الفلسفية والكلامية.
5 - ثورة العقل في الفلسفة العربية.
6 - الميتافيزيقا في الفلسفة ابن طفيل.
7 - المنهج النقدي في فلسفة ابن رشد.
8 - العقل التنويري في الفكر العربي المعاصر.
9 - الشيخ الأكبر مصطفى عبد الرازق مفكرا وأديبا ومصلحا
10 - تحقيق كتاب «الأصول والفروع» لابن حزم.
11 - محاضرات في تاريخ العلوم عند العرب
12 - ثورة النقد في عالم الأدب والفلسفة والسياسة
13 - ابن رشد فيلسوفاً عربياً بروح غربية
14 - التنوير والمجتمع
15 - العقل والتنوير في الفكر العربي المعاصر- قضايا ومذاهب وشخصيات
16 - الفيلسوف ابن رشد ومستقبل الثقافة العربية : أربعون عاماً من ذكرياتي مع فكره التنويري
17 - نحو معجم للفلسفة العربية «مصطلحات وشخصيات».
18 - زكي نجيب محمود مفكراً عربياً ورائداً للاتجاه العلمي التنويري: كتاب تذكاري
19 - البحث عن المعقول في الثقافة العربية رؤية نقدية
20 - الفلسفة العربية و الطريق إلى المستقبل : رؤية عقلية نقدية
21 - يوسف كرم : مفكراً عربياً ومورخاً للفلسفة بحوث عنه ودراسات مهداه إليه
22- الشيخ الإمام محمد عبده والتنوير، قرن من الزمان على وفاته

كما حصل على عدة جوائز وأوسمة، منها:

  • جائزة أحسن البحوث الجامعية من جامعة القاهرة ، عام 1972 وعام 1973.
  • وسام العلوم والفنون والآداب من الدرجة الأولى، عام 1981.
  • جائزة الدولة المصرية التشجيعية في العلوم الاجتماعية من المجلس الأعلى للثقافة، عام 1981.
  • جائزة الدولة المصرية للتفوق في العلوم الاجتماعية من المجلس الأعلى للثقافة ، عام 2000.

 

أمير الغندور