التقدم الأسي طريق إلى عبور التخلف ومنافسة المتقدمين محمد رءوف حامد

التقدم الأسي طريق إلى عبور التخلف ومنافسة المتقدمين

تمثل الفجوة المتزايدة بين بلدان الشمال وبلدان الجنوب الوصف العام لمشكلة التخلف والتقدم في النصف الثاني من القرن العشرين، وإذا كان الاتساع المتزايد للفجوة بين الدول المتقدمة والدول النامية هو أمرا واقعا فإن هناك أمرا واقعا آخر يعد في تقديرنا أكثر أهمية من مشكلة الفجوة بالإضافة لكونه يتناقض معها، ألا وهو "اطراد التقدم العلمي والتكنولوجي"، إذ كيف لا يتيح هذا التقدم الفرص والآليات لشعوب الجنوب بغرض الانتقال من حالة التخلف إلى حالة التقدم؟!، وهكذا يكون السؤال: كيف يمكن للمعرفة العلمية والتقنية أن توفر لشعوب الجنوب المنهج المناسب لعبور الفجوة بين التخلف والتقدم، بحيث يتاح للمتخلفين التحول إلى المنافسة في إطار التقدم ذاته؟!. إن الفحص المتأني للشكل "1" يقود - من وجهة نظرنا - إلى إدراك أن التقدم الأسي هو الطريق الوحيد أو الأنسب لتحقيق الانتقال من حالة التخلف إلى حالة التقدم، وذلك بمعنى "الاستخدام الأمثل للزمن والجهد في تركيب القدرات البشرية والمادية والمعلومات والمعارف والعلاقات المتاحة مع بعضها البعض الآخر بطريقة تجعل الإنجاز يتحقق ويتقدم كما وكيفا بسرعة أسية. التقدم الأسي إذن هو الهدف والمنهج في ذات الوقت. وربما يستغرب البعض من تعاملنا مع مشكلة التقدم والتخلف من خلال منحنيات نظرية لكن من الضروري تذكر أن التوصل إلى حل المشكلة.. أي مشكلة.. لا بد أن يبدأ بفرض نظري.. وتصبح المسألة عندئذ هي الفحص الدقيق لمعقولية الفرض المطروح (أي إثبات صحة الفرض). وقبل الاستطراد في مسألة التقدم الأسي نود الإشارة إلى ما نعتبره مؤشرا على خلل في أدبيات التنمية (بمعنى الانتقال من التخلف إلى التقدم)، وهو أن عمليات إحداث التقدم في دول الجنوب تتناول قضايا كبرى على مستوى الاستراتيجيات والسياسات (مثل الأمن القومي - السياسات التكنولوجية -التعاون الإقليمي - الشرق أو سطية... إلخ) أكثر مما تتناول "الطريقة" التي تجري بها الأمور بدءا من الاختيارات اليومية وكيفية تنفيذها على المستوى الفردي وحتى التوصل للاختيارات الاستراتيجية وكيفية تطبيقها على المستويات العليا (المؤسسة - الوطن - الإقليم... إلخ)، فكل القضايا الكبرى المشار إليها وغيرها تعتبر من - وجهة نظرنا - قضايا مفردة ذات طبيعة جزئية يمكن تناول ها تناولا مدرسيا , على أساس من البيانات والدراسات والسيناريوهات وتحليل النظم وبحوث العمليات، وفي المقابل، فإن "الطريقة" التي تجري بها الأمور أو تنفذ بها الأشياء تمثل المشكلة الأصل أو القضية الكبرى الحقيقية في البلدان المتخلفة، حيث هي الإطار الأكثر تأثيرا في فاعلية الحياة في هذه البلدان بما في ذلك من سوء أو حسن اختيار وصياغة الاستراتيجيات والسياسات وكذلك مدى الدقة والالتزام في التنفيذ.

وهكذا، في غياب الطريقة السليمة التي تجري بها الأمور أو تنفذ بها الأشياء تتحول الاستراتيجيات والسياسات إلى طبول وشعارات جوفاء.

هناك إذن حاجة إلى الاقتراب المعرفي من الطريقة (أو التقنية) التي نحتاج إلى اتباعها للتوصل إلى التقدم والتي نعتقد أنها هي ما نسميه "التقدم الأسي"، والتي يسرنا أن نقدمها للقارئ من خلال ما يلي:

1- تميز التقدم الأسي كأسلوب لتخطي الفجوة.

2- التقدم الأسي من منظور الفكر العلمي والإداري الحديث.

3- المنظومة كمجال لإحداث التقدم الأسي.

4- شروط إحداث التقدم الأسي.

1- تميز التقدم الأسي كأسلوب لتخطي الفجوة: يوضح الشكل "1" أن العلاقة بين الزمن (أو الجهد المبذول) من ناحية والتقدم من ناحية أخرى يمكن أن تمثل بنوعين من المنحنيات، منحنى تقليدي على شكل حرف S (يسمى أيضا منحنى منطقي) ومنحنى أسي يمثل التقدم الأسي الذي تعنيه. وفي المنحنى المنطقي نلاحظ أن سرعة تحقيق الإنجاز تزداد تدريجيا إلى حد معين بعدها تقل هذه السرعة تدريجيا أيضا حتى تصل إلى سرعة ثابتة (صفر) لا تزيد عليها سرعة الإنجاز بل وربما تقل. وهكذا، هناك حد أعلى للتقدم طبقا للمنحنى المنطقي، وهذا أمر حقيقي نلمسه في العديد من الأمثلة الحياتية، فالطالب يزيد تحصيله بزيادة ساعات المذاكرة، ولكن مع ازدياد زمن المذاكرة على حد معين فإن معدل زيادة التحصيل يتناقص إلى أن يقل التحصيل ويتوقف. ومن ناحية أخرى فإن كفاءة أي عملية خدمية أو إنتاجية تزيد بازدياد عدد العاملين فيها، ولكن إلى حد معين من عدد العاملين (حد حرج) تقل بعده كفاءة العملية الإنتاجية وتكون مهددة بالتدهو ر والتوقف مع استمرار زيادة عدد العاملين. وأما في المنحنى الأسي فإننا نجد أن سرعة زيادة الإنجاز تتزايد باستمرار مع مرور الزمن أو زيادة الجهد. والحقيقة أن التقدم الأسي يتطلب تدخلا إنسانيا واعيا وإيجابيا نشطا - كما سيتضح فيما بعد - لكننا هنا نكتفي بالإشارة إلى مثال واحد ونعني به ما توصلت إليه معارف وفنون التسويق إلى أن لكل منتج دورة حياة، وأن هذه الدورة (كما في الشكل 4) تأخذ شكل منحنى منطقي S، وأنه للحفاظ على نجاح وتقدم المؤسسة صاحبة السلعة ينبغي أن تستحدث تطويرات وتغييرات في السلعة (المنتج) بحيث يستمر تطور المبيعات في منحنى خطي أو أسي وإلا حدث هبوط في نسبة المبيعات. وإذا أمعنا النظر في المنحنيات المتتالية لإدارة حياة المنتج بعد التطويرات المتعاقبة له(شكل 4) فإن دورات حياة المنتج يمكن أن تختزل في منحنى تقدم أسي.

2 - التقدم الأسي من منظور الفكر العلمي والإداري الحديث: والحقيقة أن الفاحص المدقق للفلسفات العلمية الجديدة وكذلك المدارس الفكرية في الإدارة الحديثة يجد أن التقدم الأسي متضمن من حيث الجوهر داخل نظريات ومفاهيم هذه الفلسفات والمدارس برغم عدم الإشارة إليه صراحة أو تلميحا.. ففي نظريتي تضافر المنظومات (أو تداءوب الأنساق) Synergetics ( هرمن هاكن -1977 ) والتواصل الارتقائي المجتمعي Sociogenesis ( فلادمير نوفاك - 1982 ) نجد أن الموجودات (أو الأنساق أو المنظومات) الأدنى سواء هي حية أو غير حية قادرة على الارتقاء في المرتبة و"النمو " إلى مرتبة أعلى، وأن هذا التنظيم الذاتي للترقي أو من خلال أداء أو فعل مشترك لعدد من الأنساق الأصغر (نسبيا) Sub - Systems حيث يؤدي هذا الفعل المشترك إلى تشكيل مستوى منظومي أعلى (كائن أعلى) من خلال عمليات ارتقائية تتضمن تعديلا في الاختصاصات والمناخ والعلاقات بحيث إن النسق الأعلى الجديد New System أو الكائن الجديد New Individual يمثل مخلوقا جديدا يكون أكثر رقيا في تكامله ووظائفه من.. الأنساق أو الأفراد المكونة له... هذا المخلوق الجديد يمكن أن يكون شركة أو مادة كيميائية أو مركزا بحثيا أو اتحاد سكان في حي ما أو تحالفا بين مجموعة شركات... إلخ... وهو يمثل من حيث قدراته وسعته الوظيفية تغيرا نوعيا كبيرا بالنظر لأي من مكوناته حيث يمثل بالنسبة لهذه المكونات تقدما أسيا.. وأما السيبرناطيقا Cybernetics والتي تأسست كعلم وميدان علمي جديد بصدور كتاب فاينرWiener عام 1948 بعنوان "السيبرناطيقا أو التحكم والاتصال في الحيوان وفي الآلة " فقد أدت إلى تقدم كبير في المع رفة الإنسانية عن التحكم والاتصال، مما انعكس في تسارع التقدم في مجالات عديدة نذكر منها الإلكترونيات والذكاء الاصطناعي وهندسة الآلات والمعلوماتية والإدارة والتخطيط، وإذا كنا الآن ندرك أن التقدم الأسي متضمنا Implicited كجوهر معرفي في اتجاهات فلسفية علمية وفكرية وإدارية حديثة، فإن ذلك الإدراك ليس إلا دليلا على أهمية التقدم الأسي كهدف ومنهج يمكن بتعرفه واستيعابه وتطبيقه العبور الحقيقي من التخلف إلى التقدم.

3- المنظومة كمجال لإحداث التقدم الأسي: وحتى نتوصل إلى العناصر أو العوامل أو المسببات أو القوة الدافعة على تحقيق التقدم الأسي Inducers Of Exponential Growth علينا أولا أن نتساءل.. ما مجال عمل التقدم الأسي ؟ وعند التوصل إلى تحديد هذا المجال علينا أن نتعرف خصائصه حتى يتسنى بعد ذلك الكشف عن السبل المؤدية للاستخدام الأمثل للزمن والجهد في تركيب القدرات البشرية والمادية والمعلومات والمعارف والعلاقات المتاحة ( داخل وخارج المجال المعني) مع بعضها البعض بطريقة تجعل الإنجاز يتحقق ويتقدم كما وكيفا بسرعة أسية (كما أشرنا في بداية المقال). وهنا قد تختلف الرؤى فالبعض يرى أن مجال العمل الرئيسي هو التنظيمات السياسية، والبعض قد يرى أنه جمعيات النفع العام غير الحكومية (NGOs) والبعض الآخر قد يرى أنه التعليم.. أو البحث العلمي أو الإعلام أو البنية الأساسية.... إلخ.وفي تقديرنا أن مجال عمل التقدم الأسي هو كل هذه المجالات وهو كل المجالات التي نذكرها أيضا، لكن هناك نمطا واحدا يجمع كل هذه المجالات مهما بلغ تنوعها ومهما بلغ مستواها من أدناها (الفرد الواحد ووحدة العمل كمعمل أو مدرسة أو صحيفة.. إلخ)، إلى أعلاها (الدولة أو الشركة متعددة الجنسيات أو الإقليم أو جامعة الدول العربية.. إلخ). هذا النمط هو المنظومة أو النسق System، وهكذا يصبح مجال إحداث التقدم الأسي هو الأنساق (أو المنظومات) على كل مستوياتها من الأنساق الأدنى جدا Sub - Sub -.. Sub Systems إلى الأنساق الأعلى أو الأكبر جدا Supra - Systems ويصبح الأمر أنه كي نتعرف شروط إحداث التقدم الأسي علينا أن نتعرف المنظومة من حيث مواصفاتها وسلوكياتها وعوامل وجودها وتطورها وضعفها وتحللها.

ويعرف النسق (أو المنظومة) بأنه مجموعة من الأجزاء التي لها فيما بينها روابط بينية، بحيث إن هذه الأجزاء تبدومع بعضها البعض كوحدة واحدة Unity وكما أن النسق يمكن أن يكون جزءا من نسق وأنساق أعلى فإنه أيضا يمكن أن يحتوي على أنساق أدنى.

العوامل المؤثرة على قوة المنظومة

وهنا يثور تساؤل عن العوامل التي توفر للمنظومة القدرة على توليد استجابة كفء للتحدي الواقع عليها ؟.. إن هذه العوامل تتلخص في أمرين مهمين هما:

أولا: مقدار التنوع الكيفي والكمي في التحديات الواقعة على المنظومة.

ثانيا: السعة الوظيفية بمعنى الكفاءة الفعلية للأنساق التحتية Sub-Systems والقدرة على توليد أنساق تحتية جديدة لمجابهة التحديات.

والحقيقة أن النسق يستمر ويقوى ويتجدد في الأحوال التالية:

1- تكامل أهدافه مع الأنساق الأخرى (أي التفاعل المصلحي بين الأنساق).

2- توسيع الحدود الوظيفية للنسق.

3- مجابهة الظروف الخارجية التي تهدد وحدةالنسق.

4- تحويل التحديات القادمة من الخارج إلى أهداف جزئية تتولد معها أنساق أصغر داخل النسق ذاته.

5- مجابهة الظروف أو المتغيرات التي قد تنشأ في الأنساق التحتية، وقد يكون من شأنها تهديد النسق ذاته.

وفي المقابل فإن النسق يضعف وقد يتحلل أو يتوقف في الأحوال التالية:

1- إذا انخفضت سرعة استجابة النسق للتحديات القادمة من البيئة المحيطة (أو المتغيرات الحادثة فيها) عن سرعة ورود هذه التحديات (أو حدوث هذه المتغيرات).

2- إذا ازدادت سعة تنوع أحد الأنساق التحتية عن النسق ذاته، حيث تنقلب الأو ضاع بالنسبة لواجبات التحكم والرقابة وربما التشغيل بين النسقين (النسق والنسق التحتي).

3- إذا قام النسق بوضع تعريفات متناهية التفاصيل لأهداف الأنساق الأدنى، بحيث تصل دقة التفاصيل إلى درجة يصعب على آليات (وظائف) الرقابة والتشغيل عند النسق الأعلى أن تقوم بممارسة مهامها ومتابعة الأهداف الموضوعة للأنساق الأصغر.

4- إذا نزل النسق عن ممارسة وظائفه الخمس إلى مستوى ممارسة وظائف أنساق تحتية.

5- إذا فشل النسق الأعلى في تحويل التحديات القادمة له من الخارج إلى أهداف مجسمة وممكنة أمام الأنساق التحتية.

6- كما يضعف النسق إذا لم يوفر لنفسه توازنات (داخلية وخارجية) تساعد على ثباته، أو إذا حدثت اختلافات واضطرابات مع النسق الأعلى، وكان النسق ذاته لا يتكون من أنساق تحتية أخرى.

وهكذا يمكن القول إن المنظومات في حركة دائمة من حيث الاستجابة للتحديات وتوليد منظومات جديدة والحفاظ على التوازنات وتبادل المنفعة، وهنا يجدر الانتباه إلى أن الحركة الدائمة للمنظومة تكون في إطار الأهداف المنوطة بها من المنظومة الأكبر والتي (أي الأهداف) يتم وضعها ومتابعتها من منظور القيم والمعايير السائدةي المنظومة الأم، بحيث إن المنظومة الأم تحافظ على المنظومة الأصغر ما دامت تساهم في تحقق أهداف المنظومة الأم ولا تشكل ضررا لها ولقيمها ومعاييرها، (بصرف النظر عما إذا كانت المنظومة ناديا رياضيا أو مافيا أو مهرجانا سينمائيا أو مستشفىأو جيشا نظاميا أو عصابات مرتزقة أو شركة متعددة الجنسيات... إلخ).

شروط حيوية وفاعلية المنظومات

مما سبق يمكن التوصل إلى أن الشروط الأساسية لتمتع المنظومات بالحيوية والفاعلية تكمن فيما يلي:

1- وضوح القيم والمعايير العامة للمنظومة، بحيث لا تكون هناك قيم ومعايير مغايرة موجودة في الظل، حيث إن التداخل والاختلاط بين القيم والمعايير المعلنة وتلك المغايرة يؤثر حتما على حيوية المنظومة (حركيتها الداخلية وتوازناتها الداخلية والخارجية وقدرتها على تطوير وظائفها)، ومن ثم يؤثر في فاعليتها، مما قد يؤدي تدريجيا إلى توليد منظومات تحتية مغايرة في القيم والمعايير الأصلية.

2- نجاح النسق الأعلى في استيعاب التحديات المفروضة عليه بل والتنبؤ بها وحسن تعامله معها وتحويلها إلى أهداف أمام الأنساق التحتية.

3- الارتقاء المتوافق للنسق بحيث يتم تجديد وتنويع الأنساق التحتية أو استحداث أنساق تحتية جديدة دون حدوث خلل في أداء الوظائف العامة الخمس (السابق الإشارة إليها) بواسطة النسق الأعلى أو الأنساق التحتية.

4- ستيعاب وتطبيق الفكر الأحدث في الإدارة، حيث في التخلف عنه تكمن احتمالية التخلف عن فرص وأدوات لتقليل الفاقد أو رفع الكفاية، وهنا تجدر الإشارة إلى أن الاتباع الواعي لمناهج إدارة الجودة الكلية والإدارة الاستراتيجية يكفل - كما حدث في اليابان - أن "يعطي كل فرد أو مجموعة داخل المنظومة بقية الأفراد أو المجموعات أحسن ما لديه". وبنفس التسلسل فإن طبيعة هذا التوجه تكفل إمكان أن تعطي كل منظومة بقية المنظومات (الموازية أو الأعلى أو الأدنى) أحسن ما لديها.

5- ترك درجات حرية مناسبة للمنظومات الأدنى بحيث يكون من شأنها إتاحة إمكانات ودوافع التأقلم والارتقاء والإبداع.

شروط إحداث التقدم الأسي

والآن وقد تناولنا تعريف التقدم الأسي والحاجة إليه وخصائص المنظومات، باعتبارها مجال إحداث وتحقيق التقدم الأسي، فإنه يبقى التوصل إلى أركان (أو شروط) تحقق التقدم الأسي، وذلك بمعنى تحديد المتطلبات أو الإجراءات التي يمكن باتباعها إحداث تقدم أسي. وفي تقديرنا يمكن إيجاز شروط التقدم الأسي فيما يلي:

أول ا: تحقيق المنظومات لكل شروط الفاعلية والحيوية وفي نفس اتجاه القيم والمعايير (انظر البند الخاص بشروط حيوية وفاعلية المنظومات).

ثانيا: قدرة Capability والتزام Commitment من كل رأس منظومة (أو كل منظومة أعلى) بالرؤية الشمولية (أو الكلية) Holistic للمنظومات الأدنى ومخرجاتها بهدف توفير قوة دافعة منظومية (أي تحديات وأهداف وتنوع) باستمرار بغرض اختزال تقدم المخرجات (الإنجازات) بالنسبة للزمن (أو الجهد) من المنحنيات النسبية أو المنطقية (شكل 5) إلى منحنيات أسية قدر الإمكان، وذلك بمعنى الانتباه في تغيير الأهداف والتحديات ورفع مستواها مع تطوير التنوع وتشجيع الإبداع، بحيث يتم دائما تفادي ضياع الوقت (أو الجهد) في منطقة سقف المنحنى والتي هي في الأغلب منطقة انخفاض، على أن تكون هذه هي الرؤية الاستراتيجية لإدارة المنظومة مهما بلغ رقي أو تدني مستواها المنظومي (انظر شكل 5 حيث الانتقال من 1 أو 2 إلى 3).

ثالثا: الأخذ في الاعتبار أن متغيرات بسيطة في الطرق Procedures قد تؤدي أحيانا إلى طفرة في الإنجاز، ومن الضروري الانتباه المستمر إلى معلومات بهذا الخصوص (من خارج المنظومة) أو إبداعات من هذا النوع من داخل المنظومة، بحيث يتم تجنب أي إهدار في الوقت قبل استيعاب وتطويع الطريقة متى كانت مناسبة، ومن أمثلة ذلك المبدأ الياباني Just in Time وهو مبدأ ذائع الانتشار في أدبيات جودة الإنتاج والتخزين ( والمقصود به التخلص من أي فاقد أثناء عمليات التشغيل) وطبقا له " يتم فقط إعداد أو إنتاج الأجزاء المطلوبة بالكميات المطلوبة وفي الوقت والمكان المطلوبين مع استخدام أقل ما يمكن من وسائل وتجهيزات ومواد وموارد بشرية ".. وكذلك مثل آخر هو طريقة لتقييم الطلاب في الإختبارت الجامعية أسميتها Group - Dependent Marking وتعني أن جزءا من الدرجة التي يحصل عليها الطالب (20 % مثلا) تقوم على أساس المستوى الجماعي للمجموعة التي ينتمي إليها الطالب، بحيث إذا حازت مجموعة على أعلى متوسط في الدرجات يحصل كل طالب منها على ال 20 % كاملة، وإذا حازت المجموعة على أقل متوسط في الدرجات يحصل كل طالب فيها فقط على الدرجة التي أحرزها كفرد في الاختبار وهي من 80 %.. وهكذا، وكنت قد توصلت إلى هذا النهج في إطار البحث عن وسيلة لدفع الطلاب على التعاون في تبادل المعلومات وحل نماذج من المشكلات والمسائل العلمية بهدف تعميق روح الفريق لديهم، وكان ذلك في أثناء قيامي بالتدريس في إحدى الجامعات بقطر عربي شقيق (78 / 1979).

رابعا: الانتباه لاعتبار أن بعض الأفراد أو الأنساق لظروف خاصة بالعمل أو التدريب أو التقليد قد تصل الأمور الموكلة إليها إلى أبعد من السعة التي يمكن تحملها وظيفيا أو نفسيا.. إلخ، هنا قد تأخذ سلوكيات سلبية في النمو ببطء بحيث تتراكم إلى الحد الذي يسبب كارثة أو نكبة مفاجئة أو إخفاقا مفاجئا Catastrophe.. وبالتالي يكون على رأس المنظومة (أو المنظومة الأعلى) التنبه إلى مثل ذلك واللجوء إلى وسائل مثل التدريب أو التغيير السلوكي أو التطوير التكنولوجي أو تبديل الأشخاص.. إلخ، وأحيانا ما يكون هذا التنبه دافعا إلى تطوير يكون من شأنه ليس فقط تجنب حدوث كارثة، بل التوصل إلى طفرة في الأداء.

خامسا: التوجه المنظومي دائما إلى الإنسان البسيط العادي Ordinary humanbeing بمعنى استيعاب المنظومات لاحتياجاته وإمكاناته باعتباره الخلية الرئيسية (أو المنظومة الأساسية) في كل المنظومات.

سادسا: تشجيع حدوث تضافر أو تواصل ارتقائي بين الأنساق Synergetics-Sociogenesis متى كان ذلك في إطار القيم والمعايير العامة حيث يؤدي ذلك إلى طفرات في التقدم، ولكن إذا حدث التضافر والتواصل الارتقائي للأنساق والنظم في إطار قيم ومعايير تحتية فإن النتيجة تكون معاكسة حيث يؤدي ذلك إلى تكوين وانتشار أعراض مرضية في الأنساق على اختلاف مستوياتها.

خاتمة

والآن بعد أن حاولنا جذب الانتباه لما يمكن أن نطلق عليه " التقدم الأسي" كهدف وآلية في ذات الوقت وذلك من خلال الاستعانة بجوهر الفكر العلمي العالمي في مجالات النظم والسيبرناطيقا والإدارة الحديثة فإننا قد ندرك ما يلي:

أ - أن الفكر المطروح ربما يكون متضمنا داخليا فينا، بحيث نشعر أنه ليس جديدا تماما، وهذا شعور طبيعي فالتقدم والنمو متضمنان في الطبيعة النسقية للإنسان.

ب - أن التعامل مع السلبيات المسببة للتخلف أو الناتجة عنه بعيدا عن المنظور المنظومي لا ينعكس بأي فائدة على عملية التقدم. وأما معالجة السلبيات من حيث إطارها المنظومي على المستويات الرأسية والأفقية، ومن حيث نوع الوظائف المنظومية التي تتداخل مع السلبيات سلبا أم إيجابا ومن حيث التوازنات المنظومية المولدة أو الخانقة للسلبيات.. ومن حيث انعكاس السلبيات على قدرة المنظومات في مجابهة التحديات الخارجية أو قدرتها على التطور الذاتي.. وكذلك انعكاس السلبيات على قيم ومعايير المنظومات.. إلخ، فإن ذلك (المنظور المنظومي) يضمن إلى حد كبير فرص الرؤية الموضوعية للسلبيات وحسن الاستخدام المنظومي للإيجابيات القائمة في معالجة السلبيات.

ج - وامتدادا للنقطة السابقة "ب" فإن معالجة السلبيات بعيدا عن المنظور المنظومي لا يؤدي لأكثر من علاج مؤقت، كما أن استمرار ذلك يعني الخطر الذي يكمن في انتشار السلبيات واتساع تأثيرها في المنظومات القائمة.. بل إن غياب المنظور المنظومي يؤدي إلى القضاء تدريجيا على أي نماذج طيبة تمثل تقدما أسيا.. وبالتالي القضاء على فرص التقدم الأسي، وفقد الكثير من الوقت والجهد والطاقات والإمكانات البشرية في محاولات فدائية (انتحارية)للتقدم.

د- وهكذا، فإن التقدم ليس خطابة أو تعبيرا أو حتى محاولة إصلاحية في جزيرة معزولة، إنه سلسلة من العمليات البسيطة المتشابكة التي تحتاج إلى التناول العلمي المنظومي الذي تتداخل فيه أمور السياسة والأخلاق والفلسفة والإدارة والثقافة والتعليم والتقنية بانسياب وتناغم وتضافر، أي من خلال المنظومة على اختلاف مستوياتها من المستوى الأعظم أو الأكبر Supra إلى أدنى المستويات (الإنسان الفرد).

أستاذ علم الأدوية بالهيئة القومية للرقابة والبحوث الدوائية - مصر.

 

محمد رءوف حامد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




شكل 1





شكل 2





شكل 3





شكل 4





شكل 5