البنك الدولي .. دراسة نقدية إيناس حسني

البنك الدولي .. دراسة نقدية

المؤلف: شيريل بييار
ترجمة: أحمد فؤاد بلبع

البنك الدولي هو أقوى وكالات التنمية الدولية، كما أنه أكبر مؤسسة في مجاله، سواء من حيث ميزانيته الإدارية الضخمة أو كمية الأموال التي تتداول بين يديه، وقد استطاع البنك الوصول بفعاليته إلى ذراها عن طريق التنسيق مع الوكالات الأخرى وإخضاعها لسيطرته، والتركيز على "التمويل المشترك" بإغراء هذه الوكالات بالإسهام بأموالها في مشروعاته.

وقد أكد البنك الدولي، في كل مطبوعاته ودراساته عن الإقراض الموجه لمكافحة الفقر، على أنه لا سبيل لمساعدة الفقراء إلا عن طريق المعونة التي تزيد من مستوى إنتاجيتهم، وأن عملية إعادة توزيع الثروة والدخل لا يمكن أن تساعد في تحسين أحوال الفقراء، إلا أن شيريل بييار تعتقد أن "تزايد الإنتاجية ليس حلا لمشكلات العمالة والفقر في المجتمع الرأسمالي الحديث"، فالإنتاجية التي هي عبارة عن كمية السلع التي ينتجها العامل في فترة زمنية، يمكن زيادتها بوسائل مختلفة، مثل أيام عمل أكثر وجهد أكثر من جانب العامل، أو عن طريق تنظيم سير العمل بكفاءة إدارية أعلى، أو بإدخال الآلات الحديثة التي تضاعف نتائج العمل.. إلى آخره. إخضاع البلاد النامية وإعادة احتوائها وتطويعها لمطالب النمو في المراكز الرأسمالية الصناعية، حتى ولوأدى ذلك إلى فقدانها لاستقلالها الوطني وتزايدت فيها أحوال الركود والبطالة والفقر وتدهو رت أحوال المعيشة للغالبية العظمى من سكانها، عبر مشروطية صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.

إن نشر هذا الكتاب باللغة العربية بالتأكيد ساهم في تعميق فهمنا للبنك الدولي من حيث سياساته وشروط قروضه ونتائج أعماله في البلاد النامية وبخاصة في حقبة السبعينيات.

البنك الدولي هو أو ل بنك من نوعه، إذ تأسس في عام 1945، ففي العام المالي 1981 قدمت عناصره الثلاثة - البنك الدولي للإنشاء والتعمير، المؤسسة الإنمائية الدولية، المؤسسة المالية الدولية - قروضا والتزامات استثمارية تتجاوز 130 مليار دولار إلى ستة وسبعين بلدا.

وهناك مصدر آخر للتمويل المشترك لمشروعات البنك الدولي هو البنوك التجارية والمؤسسات المالية، ففي عام 1980 قدمت مصادر القطاع الخاص 1.8 مليار دولار في صورة تمويل مشترك لواحد وعشرين من مشروعات البنك.

والبنك الدولي ليس فقط أكبر وأغنى مؤسسة للتمويل الإنمائي في العالم الرأسمالي الغربي، بل هو يعتبر أيضا "أفضل" مؤسساته جميعا، كما أنه النمو ذج المسيطر الذي تسعى مؤسسات المعونة والتمويل الأخرى إلى محاكاته أو التعاون معه أو الوقوف ضده. ويسخر البنك قوته المالية لتشجيع رأس المال الدولي الخاص، وذلك بطرق شتى منها: العمل كوسيط لتدفق الأموال إلى الخارج، وتقديم مساعدات مباشرة إلى شركات معينة متعددة الجنسيات، والضغط من أجل زيادة الإعفاءات الضريبية للاستثمارات الأجنبية، ورفض إقراض الحكومات التي تؤمم الممتلكات الأجنبية، ومعارضة إقرار حد أدنى للأجور أو ممارسة النشاط النقابي أو تحسين حصة العمال في الدخل القومي، والإصرار على أن يتم الشراء من خلال العطاءات الدولية المفتوحة التي تكون عادة لصالح كبرى الشركات المتعددة الجنسية، ومعارضة الحماية التي تمنح للمشروعات الوطنية.

البنك الدولي للإنشاء والتعمير هو المؤسسة الأصلية لما يعرف الآن بمجموعة البنك الدولي، وقد تأسس في عام 1944، وكانت وظيفة البنك الدولي للإنشاء والتعمير هي توفير الاعتمادات الأطول أجلا للاستثمار في المشروعات الإنتاجية.

أول رئيس للبنك هو يوجين مايرز، ولم يمض على توليه منصبه ستة أشهر واستقال ثم جاء جون ماكلوي واستقال ماكلوي من رئاسة البنك في عام 1949، ثم يوجين بلاك (1949 - 1963 )، جورج وودز (1963 - 1968 ) ثم روبرت ماكنمارا وهو الرئيس الذي نال أكبر قدر من الشهرة وذيوع الصيت، وخلال أعوام ماكنمارا قرر البنك التوسع في الإقراض لاستخراج الموارد الطبيعية عن طريق توسيع برنامجه المتواضع لتمويل تنمية التنقيب عن المعادن، وتحطيم المحظورات التقليدية التي كانت تحول دون تقديم قروض من أجل إنتاج النفط والغاز، وفيما بعد من أجل التنقيب عنها.

وهناك مستويات عدة يمس فيها نفوذ البنك حياة الفقراء، من بينها المشروعات التي تمولها قروضه، والأرقام التي يقدمها عن عدد الفقراء المستفيدين منها مبالغ فيها، حتى وإن استطاعت قلة منها صعود سلم الثروة، ويعترف البنك بأن تأثير مشروعاته لا يمكن أن يصل إلى أفقر الفقراء، أو التوجه العام للسياسات الوطنية وباستطاعة البنك دائما إجبار الحكومات المقترضة على تنفيذ برامج تقشفية تعد كارثة للفقراء.

مجموعة البنك الدولي تشمل البنك الدولي للإنشاء والتعمير الذي أنشئ في عام 1946، والمؤسسة الإنمائية الدولية التي تأسست في عام 1960، والمؤسسة المالية الدولية التي ترجع إلى عام 1956. فالكيان الأصلي - البنك الدولي للإنشاء والتعمير - يقدم القروض بشروط تقليدية نسبيا , "ويمتلكه" حملة أسهمه، أي البلدان الأعضاء المائة وتسعة وثلاثون الذين يتمتعون بحقوق في التصويت تتناسب مع ما يمتلكون من أسهم، وقد بلغ مجموع رأس المال المكتتب للبنك الدولي للإنشاء والتعمير قرابة 37 مليار دولار في عام 1981.

يتولى إدارة البنك من الناحية الرسمية مجلس للمحافظين، وكل دولة عضولها محافظ في هذا المجلس يكون عادة وزير المالية أو من يشغل منصبا متكافئا في هذه الدولة. ويوجد بالبنك اثنان وعشرون مديرا تنفيذيا يتولى تعيين خمسة منهم الأعضاء الخمسة الذين يمتلكون أكبر عدد من الأسهم (هم الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا واليابان)، أما الباقون فينتخبهم الأعضاء الآخرون الأقل شأنا والمديرون التنفيذيون هم الذين يعينون الرئيس أو يعفونه من منصبه. وفي الممارسة كان الرئيس دائما من مواطني الولايات المتحدة، ولذا كان المديرون التنفيذيون يكتفون بالموافقة على مرشح يختاره رئيس الولايات المتحدة الأمريكية.

ولا تزال الولايات المتحدة هي أكبر حملة أسهم البنك الدولي، والمدير التنفيذي الأمريكي ليس مطلق اليد في التصويت على هو اه في اجتماعات البنك الدولي، بل هو خاضع لتعليمات وزير الخزانة - الأمريكي الذي يتلقى بدوره المشورة من المجلس الاستشاري القومي بشأن أمور السياسة المرتبطة بصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والبنوك الإنمائية الإقليمية التي تكون الولايات المتحدة عضوا فيها، كما أن الولايات المتحدة بوصفها أكبر حامل أسهم في البنك كان باستطاعتها دائما السيطرة على اتجاه الإقراض.

يتوقف استمرار نجاح البنك على عاملين: أو لهما ثقة الأسواق المالية التي يقترض البنك منها، وثانيهما استمرار الدعم الذي تقدمه حكومات الدول الأعضاء، وفي مقدمتها الولايات المتحدة.

قروض البنك

القروض التي يقدمها البنك إلى المشروعات الصغيرة تؤدي إلى زيادة إنتاجية عملها (وهذا كما يبدو هو هدفها الوحيد)، فهذه المشروعات "الصغيرة" تستطيع أن تتفوق على المشروعات الأصغر منها، مثل الإنتاج اليدوي للأحذية والملابس والخيوط القطنية الطوب والدقيق والسكر والبيرة والجلود.. إلخ. وتستطيع أن تتغلب عليها في التنافس على المواد الأو لية والأسواق، وعلى ذلك فإن الطلب على اليد العاملة سيستمر في التناقص بالنسبة لمجموع الناتج.

ويمر كل قرض من قروض البنك من خلال سلسلة من ست مراحل يسميها البنك "دورة المشروع"، وهي كما يلي:

1- التحديد: اختيار البنك والمقترضين للمشروعات المناسبة التي تدعم استراتيجيات التنمية الوطنية والقطاعية، وتكون عملية مجدية طبقا لمعايير البنك.

2- الإعداد: يقوم البلد المقترض أو الوكالة المقترضة بدراسة المساعدة التقنية والمؤسسية والاقتصادية والمالية المتاحة للإعداد أو التي تكون عونا للمقترض في الحصول على المساعدة من مصادر أخرى. ويتطلب ذلك وقتا، يبلغ ما بين عام وعامين.

3- التقدير: يقوم موظفوالبنك باستعراض شامل ومنتظم لجميع جوانب المشروع، وقد يستغرق ذلك ما بين ثلاثة وخمسة أسابيع في الميدان، ويغطي أربعة جوانب رئيسية: تقنية ومؤسسية واقتصادية ومالية، ويجري إعداد تقرير التقدير لدى عودة الموظفين إلى مقر البنك، ويعد هذا التقرير الأساس للمفاوضات مع المقترض.

4- المفاوضات: تشتمل هذه المرحلة على مناقشات مع المقترضين حول التدابير اللازمة لضمان نجاح المشروع، وتدوين الاتفاقات التي يتم التوصل إليها في وثائق القرض. وعندئذ يعرض المشروع على المديرين التنفيذيين للبنك للموافقة عليه، وبعد الموافقة يجري التوقيع على اتفاق القرض، ويكون باستطاعة المشروع أن ينتقل إلى مرحلة التنفيذ.

5- التنفيذ والإشراف: يكون المقترض هو المسئول عن تنفيذ المشروع الذي اتفق عليه مع البنك ويكون البنك هو المسئول عن الإشراف على التنفيذ، من خلال تقارير سير العمل التي يقدمها المقترض والزيارات الميدانية الدورية، ويجري استعراض سنوي لخبرة البنك في الإشراف على جميع المشروعات الجاري تنفيذها، وهو يفيد في التحسين المستمر للسياسات والإجراءات، ويشترط في الإجراءات الخاصة بشراء البضائع للمشروع وبالأشغال الخاصة به أن تتبع المبادئ التوجيهية الرسمية التي يضعها البنك ضمانا للكفاءة والتدبير.

6- التقويم: وتلك هي المرحلة الأخيرة، وهي تعقب آخر دفعة من أموال البنك للمشروع، وتقوم إدارة مستقلة في البنك، هي "إدارة تقييم العمليات"، باستعراض تقرير الإتمام الذي يعده موظفوالمشروعات بالبنك، وبإجراء مراجعتها الخاصة للمشروع، ويتم ذلك في أغلب الأحوال بالحصول على المواد في المقر، وإن كان الأمر لا يخلومن رحلات ميدانية إذا دعت الحاجة، ويوفر هذا التقييم البعدي الدروس المستخلصة التي تراعى في الأعمال اللاحقة المتعلقة بالتحديد أو الإعداد أو التقدير.

تعتبر مشروعات البنية الأساسية - النقل والاتصالات والطاقة الكهربائية - المجالات الرئيسية لقروض البنك، وقد ساد هذه المشروعات نمط الإقراض من الخمسينيات، وحتى بعد التوسع في إقراض الزراعة وما يسمى مشروعات البنية الأساسية الاجتماعية في العقدين الماضيين ظلت ضمن أكبر القطاعات من حيث حجم الأموال التي يتم إقراضها، وكان الأساس المنطقي لهذا التركيز هو دائما تقديم المعونة إلى الصناعة في القطاع الخاص.

مشاريع صناعية

من بين المشروعات الصناعية التي مولها البنك مباشرة يتضح من المجاميع التراكمية التي نشرت حتى العام المالي 1981 أن غالبية القروض وجهت إلى إنتاج الأسمدة والحديد والصلب (41 في المائة و19 في المائة على التوالي من جميع المشروعات التي مولت تمويلا مباشرا). وكان التركيز الشديد على إنتاج الأسمدة ملحوظا بدرجة أكبر في الأعوام الأخيرة. ففي العام المالي 1979 تم توجيه 70 في المائة من مجموع القروض للمشروعات الصناعية إلى مشروعات الأسمدة، سواء لاستخراج خاماتها أو لتصنيعها.

بنوك التنمية وشركات تمويل التنمية هي مؤسسات ترمي إلى توفير التمويل المتوسط والطويل الأجل لمشروعات التنمية، وفي مقدمتها قطاع الصناعات التحويلية، ومن سمات بنوك التنمية أنها تمثل تماما مبدأ الدعم والتمويل الحكوميين لمؤسسات القطاع الخاص.

وجاء في إحدى نشرات البنك الدولي أن الحكومة تسيطر على 15 في المائة من تمويل أفغانستان للتنمية الصناعية.

وحتى عام 1972 كانت موارد بنك إيران من العملات الأجنبية تأتي كلها تقريبا من البنك الدولي، ولكن أدخل في ذلك العام تعديل تشريعي سمح للحكومة الإيرانية بأن تضمن عمليات الاقتراض من البنوك التجارية الأجنبية، وقد تم آخر قرض من البنك الدولي لبنك إيران في عام 1974، عندما أصبح في مقدور إيران، بفضل الارتفاع في سعر النفط، الاستغناء عن المعونة المالية التي يقدمها البنك الدولي.

إن بنك ساحل العاج للتنمية الصناعية هو دون شك أكثر مؤسسات تمويل التنمية كفاءة في إفريقيا المتحدثة بالفرنسية جنوبي الصحراء الكبرى.. وشركات تمويل التنمية التي يرعاها البنك الدولي لا تمول التنمية الوطنية، وإنما تمول التغلغل الأجنبي في الأراضي الوطنية.

أصبح البنك في الأعوام الأخيرة أكثر عدوانية في الضغط من أجل إعادة تشكيل الصناعة في بعض البلدان المقترضة، والإدارة المستخدمة لإعادة تشكيل الهياكل هذه هي الإقراض من أجل التكيف الهيكلي الذي لم يبدأ إلا في باكورة عام 1980، وذلك أن قروض التكييف الهيكلي إنما هي قروض للبرامج: عمليات حقن سريعة لمسحوبات من ائتمانات غير مقيدة يمكن استخدامها وقد قدم البنك بطبيعة الحال، قبل عام 1982، عددا من "قروض البرامج" الصحيحة منها والمقنعة.

على الرغم من أن الإقراض للتكييف الهيكلي يعتبر شكلا جديدا من أشكال المساعدة التي يقدمها البنك، فإن هذه المساعدة هي تطور طبيعي في برنامج المساعدة التقليدي الذي كان دائما وما زال جزءا من عمليات الإقراض التي يقوم بها البنك.

وتعتبر قروض التكييف الهيكلي من حيث الجوهر محاولة للجمع بين كميات كبيرة من المعونة غير المقيدة التي ستكون هناك حاجة ماسة إليها في أزمات الديون التي تلوح في الأفق في الثمانينيات، مع درجة لم يسبق لها مثيل من التدخل في صياغة سياسات القطاعات الصناعية، ونظرا لأن هذه القروض يمكن سحبها بسرعة أكبر كثيرا من سرعة سحب القروض العادية للمشروعات، وبذلك يمكن المحافظة على قدرة البنك على التحكم في ذلك البلد.

كان البنك الدولي في الفترة قبل عام 1973 يجمع بين رفض تمويل عمليات التنقيب والإنتاج المحلية، وبين التشجيع المنتظم للتوسع في استخدام النفط المستورد، بعد الزيادات المتهو رة في أسعار النفط في أعقاب عام 1973، شرع البنك في إعادة تقييم داخلية لرفضه الإقراض في قطاع النفط.

وقد أعلن البنك رسميا سياسته الجديدة في تقديم القروض لإنتاج النفط والغاز في يوليو1977، بعد وقت قصير من بيان اجتماع "القمة الاقتصادية" الذي عقد في لندن في مايو، وحضره رؤساء حكومات الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا الغربية وفرنسا وإيطاليا واليابان وكندا.

للاستهلاك لا للاكتشاف

وعندما أعلن البنك اتجاه سياسته الجديدة أكد بوجه خاص نقطتين، كانت أو لاهما أن البنك لن يمول إلا جزءا صغيرا من الاحتياجات المالية للقطاع.

وكانت النقطة المهمة الأخرى هي أن البنك يخطط لأن يمول أساسا إنتاج النفط والغاز، بدلا من التنقيب، ودور البنك في هذا المجال سيكون ضئيلا، عند أدنى حد، وفقط في حالات خاصة: للاستطلاع الجيولوجي والجيوكيميائي والجيوفيزيائي، وللتقدير الأفضل للاكتشافات الواعدة.

وفي الستينيات كان البنك الدولي قد رفض التماسات الهند لتمويل التنقيب عن النفط، وفي بداية السبعينيات قامت اللجنة الهندية للنفط والغاز الطبيعي، من جانبها وحدها باستخدام تكنولوجيتها الخاصة في أعمال التنقيب في المناطق المغمورة، وتمكنت من اكتشاف حقول أعالي بومباي الغنية للغاية، وقدم البنك الدولي قرضين لتنمية هذه الحقول، كان أحدهما - وهو الأو ل من نوعه - في عام 1977، والثاني قرض مقداره 400 مليون دولار في ديسمبر 1980، وقد تزامن القرض الثاني مع انقلاب في السياسة.

كان الإقراض الذي يستهدف على وجه التحديد التنمية الزراعية يحتل مكانا هامشيا في برنامج البنك خلال أعوامه الخمسة عشر الأو لى. فعلى امتداد الأعوام 1948 إلى 1963 لم يتجاوز إقراض البنك للزراعة 628 مليون دولار، أي 8.5 في المائة من مجموع إقراضه، وقد ذهب الجانب الأكبر من هذه الأموال للسدود وشبكات الري.

في عام 1963 قرر البنك الدولي، بتشجيع من الولايات المتحدة، زيادة دعمه للزراعة وتنويع إقراضه، بحيث يشمل الخدمات التقنية وتشييد الطرق وصناعات التجهيز والتخزين والتسويق وصيد الأسماك، وقرب نهاية الستينيات كانت حصة الزراعة في مجموع الإقراض قد ارتفعت إلى قرابة 19 في المائة.

وفي عام 1964 بدأت المؤسسة المالية الدولية تمويل مشروعات القطاع الخاص في حيازة أسهم في شركات مملوكة للقطاع الخاص، ومن بينها مشروعات الصناعات الزراعية. وفي الفترة ما بين عامي 1964 و1976 التزمت المؤسسة المالية الدولية بمبلغ 46 مليون دولار في شكل قروض ورأسمال سهمي في "مؤسسات كبيرة وتتخذ بوجه عام شكل الشركات وتقوم بإنتاج أو تجهيز المنتجات الزراعية للاستهلاك المحلي أو للتصدير".

الإقراض لعمليات تربية الماشية ما زال أهم نوع في النشاط الائتماني. وكانت قروض تربية الماشية تشكل ما يقرب من ثلث مشروعات البنك الائتمانية في ذلك الوقت.

إن البنك الدولي، بتشجيعه للزراعة التجارية وإدماج المزارع الصغيرة في السوق العالمية إنما يتبع خطى الحكومات الاستعمارية التي رسمت مجموعة منوعة من السياسات لإلزام مستعمراتها بتحمل تكاليف حكمها الاستعماري. ففي إفريقيا، على سبيل المثال، سعت تلك الحكومات إلى جذب الفلاحين إلى الزراعة التجارية منذ بداية الحكم الاستعماري. ويقوم البنك الدولي بتمويل مشروعات تشييد السدود مثل مشروعات كاريبا للطاقة الأيدروليكية، الذي موله البنك الدولي بادئ الأمر في عام 1956، وهو أكبر قرض لمشروع واحد في ذلك الوقت، وكذلك مشروع نهر فولتا في غانا، والفكرة الأساسية في مشروع نهر فولتا هي تسخير طاقة هذا النهر لتوفير الطاقة اللازمة لمصهر يقوم بتجهيز خامات البوكسيت المحلية، وترجع هذه الفكرة إلى عام 1915. عندما كانت أراضي ساحل العاج تحت الحكم البريطاني.

كان البنك الدولي في البداية مترددا في مساندة اتفاق استغلالي سافر إلى هذا الحد، ولكنه في مواجهة النفوذ السوفييتي المتزايد في غانا وربما رغبة منه في مساندة السياسة الخارجية للولايات المتحدة، تراجع في نهاية الأمر ووافق على دعم المشروع.

وقد نص البنك الدولي، في اتفاقه الخاص بقرض مشروع نهر فولتا، على أن يكون السعر الذي تحدده الهيئة لكهربائها كافيا لتغطية التشغيل واستهلاك الأصول.

حاول البنك أن يتمسك بمطالبة المستفيدين من مشروعات الري بسداد تكاليفها، سواء عن طريق فرض رسوم مباشرة على المياه أو فرض ضرائب على الأرض تستأثر بجزء من الزيادة في الإنتاجية. ولكن البنك كان في الممارسة يضطر عادة إلى أن يقنع بأن تغطي الرسوم على الأقل مصاريف التشغيل والصيانة، وإن كان يفضل أيضا أن تشمل مقابل استهلاك التكاليف الرأسمالية.

وقد تعرض البنك الدولي للنقد من جانب كثيرين من المراقبين ذوي التفكير العميق في ميدان موارد المياه لكونه لا يمول إلا المشروعات الضخمة والمعقدة تقنيا والباهظة التكلفة، متجاهلا الأشغال الصغيرة القليلة التكلفة والكثيفة الاستخدام للأيدي العاملة والتي تتولى الأيدي العاملة المحلية تشييدها وصيانتها.

قدم البنك خمسة عشر قرضا منذ عام 1968 يبلغ مجموعها 732.6 مليون دولار لإعادة تأهيل شبكات الري القائمة، التي شيدتها في الأصل الحكومة الاستعمارية الهو لندية. وتختلف الترتيبات المالية لمشروعات البنك الدولي اختلافا شديدا، فتكاليف المياه وغيرها من المرافق تتم استعادتها في بعض الأحيان من خلال الرسوم التي تفرض على المستفيدين، ولكنها كثيرا ما تضاف إلى الرسوم الأخرى وتدرج في مدفوعات المشروع الإيجارية، وهكذا يفترض البنك أن سكانه المستهدفين يستطيعون أن يتحملوا تكاليف الخدمات التي يمولها.

أبواب مفتوحة

وتكمن مصالح البنك الدولي في الإبقاء على البلدان المقترضة مفتوحة الأبواب أمام الاستثمار الأجنبي، وفي أن تظل الأحوال داخل تلك البلدان جذابة للمستثمرين الأجانب، والهدف المعلن للبنك كما يرد في كتيبات العلاقات العامة والنشرات الصحفية، هو الحرص على تحسين حياة الفقراء، أما مقاصده الحقيقية التي تمليها البيروقراطية تحت قيادة الدول المسيطرة فهي الإبقاء على أراضي البلدان المقترضة مفتوحة أمام التغلغل الرأسمالي، وعلى جاذبية سياساتها للشركات المتعددة الجنسية، أو تقديم المعونة لمخططات الحكومات الأعضاء ذات الأهمية، وتتكشف الحقيقة حول النظام عندما يكون هناك تضارب صريح بين أهدافه المعلنة وجدول أعماله الحقيقي.

وبيروقراطية البنك الدولي يهيمن عليها الرئيس، ومن المؤكد أن كل رئيس جديد يجلب معه تغييرات في كل من الأسلوب والجوهر.

وهذا الكتاب يعتبر أكثر من نقد لجهاز بيروقراطي يتمتع بقوة هائلة، كما أنه يطرح بعض المسائل الأساسية حول طبيعة التطور الرأسمالي. ومن أخطر الاتهامات التي توجه للبنك الدولي - ولحكومات البلدان الرأسمالية المتقدمة التي تدعمه وتسيطر عليه- أنه يستخدم موارده المالية الهائلة باستمرار لسد الطريق أمام قوى التغيير التقدمي، سواء كانت محاولات جزئية لتحسين الأجور وظروف العمل ولزيادة السيطرة القومية على الاقتصاد، أو تغييرا راديكاليا يتحدى بقاء الحكومات التي تتلقى المساعدة من البنك.

 

إيناس حسني

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات