رعب الصيف في الشتاء

رعب الصيف في الشتاء

مع كل زيادة تطرأ على درجة الحرارة تحدث زيادة في التبخر، وهذا يؤدي بدوره إلى زيادة معدل الهطول المطري على الكرة الأرضية. كما أن تأثير ارتفاع الحرارة في زيادة حدة الجفاف والرطوبة في بعض المناطق سيؤثر بشكل ملموس على مسارات الرياح ودورة المياه العالمية والتخطيط طويل المدى، جاعلاً مخازن المياه والسدود والمشاريع الكهربائية- المائية غير مجدية قبل وقتها المتوقع بزمن طويل وكذلك إلحاق أضرار جسيمة بالطرق وازدياد حمولات الطاقة الكهربائية من أجل التبريد، ذلك لأن هطول الأمطار سيرتفع في مناطق كثيرة، لكن التربة ستجف بفعل التبخر السريع. وستكون هناك حاجة إلى استثمارات ضخمة لإعادة توطين ملايين السكان في مواقع جديدة، وبناء حواجز على الشواطىء للحماية من الفيضانات وتغيير نوعية المحاصيل الزراعية، وتعديل النظم الاقتصادية للتتناسب مع الوضع الطبيعي والبشري الجديد. كما يمكن لازدياد التقلبات في الهطولات المطرية أن يفاقم المشكلات القائمة حالياً، ومن بينها تلك المتعلقة بنوعية المياه ومعالجة مياه الصرف الصحي وتآكل القنوات المدينية المعدة لتصريف الجريانات المطرية الغزيرة.

والزراعة ستتأثر بتغيرات درجة الحرارة، ذلك أن دفء الطقس يؤدي إلى زحف المناطق الصالحة لنمو مزروعات معينة، كالقمح، نحو القطبين. وإذا كانت التربة ضعيفة في تلك المناطق، سيؤدي ذلك إلى هبوط المحاصيل. ستتمدد مساحات الحشائش والصحاري، وستتقلص الغابات وتتحرك نحو القطب، كما ستتفاقم مشاكل التصحر Desertification وتآكل التربة. وبما أن ثاني أوكسيد الكربون هو بمنزلة مخصب طبيعي، فإن كثافته المتزايدة في الجو ستجعل المزروعات أكبر حجماً وأسرع نمواً. لكن زيادة ثاني أوكسيد الكربون، سوف تساعد بالمقدار ذاته الأعشاب الضارة والحشرات المعمرة على النمو، الأمر الذي يفقد الزرع ما يحتاج إليه من النتروجين ويجعله أكثر تعرضاً للحشرات. كما سيؤدي هذا النمو السريع للمزروعات إلى إرفاق التربة وإضعافها في وقت قصير نسبياً، إضافة إلى أن ارتفاع مستوى البحار المصاحب لظاهرة الاحترار العالمي سيؤدي إلى إغراق المناطق الزراعية المنخفضة وزيادة ملوحة المياه في الأراضي الساحلية.

تقرير من جامعة برمنغهـام في إنجلترا مع فريق مكون من 76 عالماً ينتمون إلى 17 دولة، يؤكد أن التحولات المناخية ستتطلب تغيرات جذرية في الممارسات والسياسات الزراعية، وأن ارتفاع معدلات الحرارة، في العالم سيكون له أثر كبير جداً على جميع المحاصيل الزراعية القائمة، بحيث إن المزروعات التي تنمو عادة في دولة ما في شروط مواسم معينه ودرجات حرارة محددة، فإن قدرتها على النضج- مع ارتفاع درجات الحرارة وتغيرها طولاً وقصراً- ستتغير وبالتالي فهي لن تنمو ولن يكون فيها أي عائد أو مردود إنتاجي.

إن التجربة توضح أنه لابد للإنسانية في ظل ارتفاع درجة الحرارة بمعدل درجتين أو ثلاث من أن تسرع قدر الاستطاعة في تهجين محاصيل جديدة وبديلة للمحاصيل التي تنتجها حالياً باستخدام التكنولوجيا الحيوية الجديدة والهندسة الوراثية، وهذه عملية تستغرق سنوات طويلة جداً، وتقتضي من الإنسانية أن تحاول على مدار السنوات العشرين القادمة توفير المحاصيل والنباتات والحيوانات من خلال التجارب المعملية.

والاضطراب في حالة الزراعة سيؤدي بالتالي إلى تغير في حالة المزارعين الاجتماعية وفي عملية التوظيف الزراعي مما يؤثر على أسعار المحاصيل، وبالتالي، على تجارتها العالمية، وعلى الاقتصاد العالمي بأسره، وهذا يعني أنه إذا لم تستعد دول العالم- وبخاصة الدول النامية والعربية والفقيرة منها- ومنذ الآن، فلن تكون هناك إلا زيادة في التدهور والفقر لكل هذه الشعوب.

مياه البحار والمحيطات

الواقع أن للبحار أنظمتها المعقدة الخاصة بالتيارات والمد والجذر والسلاسل الغذائية ونقل طاقة الشمس إلى الأعماق وتوزيع الخصوبة على كل المناطق. وتتفاعل المحيطات مع الهـواء واليابسة مجددة أكسجين الهواء الضائع وممتصة فائضة من ثاني أوكسيد الكربون، ومتلقية كذلك فائض الخصوبة على اليابسة، ويعمل هذا كله كنظام واحد عملاق، ونظراً لأن مياه البحار تلعب دوراً رئيسياً في الحفاظ على الاستقرار، لهذا فإن من أهم وأخطر عواقب زيادة حرارة جو الأرض هي ارتفاع منسوب سطح البحار، ويتوقع التقرير العلمي الصادر عن فريق العمل الحكومي الدولي عام 1996 أن يرتفع مستوى مياه البحار والمحيطات بين 10 و15 سم وبمتوسط 50 سم حتى عام 2100 م. ويتوقع أن يستمر هذا الارتفاع لعدة قرون متتالية حتى لو بقيت مستويات انبعاثات الغازات المسئولة عن ظاهرة الانحباس الحراري ثابتة دون زيادة. وتدل السجلات الجيولوجية على أن منسوب سطح البحر قد ارتفع أو انخفض عن المتوسط بمقدار مائة متر عبر العصور المختلفة، وذلك بفعل عوامل طبيعية لا دخل للإنسان فيها. ولكن النشاطات البشرية المؤدية إلى زياة تراكم الغازات النادرة وإطلاق غازات ومركبات كيميائية جديدة وتراكمها في الجو، سينتج عنها زيادة في سخونة الكرة الأرضية ككل . وسيؤدي ذلك إلى انصهار جزء من الجليد المتراكم في المناطق الباردة ونزول المياه الناتجة عن انصهارها في المحيط، وكذلك ستتمدد مياه البحار بفعل الدفء محدثة الفيضانات في الأماكن المنخفضة.

يمكن تقدير خطورة هذا الأمر عندما تعرف أن ثلث سكان العالم يعيشون ضمن نطاق ساحلي لا يتعدى الستين كيلومتراً وهذا يعني أن ارتفاع نصف متر من مستوى البحار سيؤثر بعمق على أنماط السكن وسيدفع بالكثيرمن الناس إلى النزوح هرباً من الفيضانات التي تهدد العديد من أهم مدن ومرافيء العالم. وستكون أكثر المدن تهـديداً بالغرق في العقود الأولى في القرن الحادي والعشرين هو تلك المدن الواقعة في المناطق الساحلية المنخفضة، خاصة في دول نامية مثل بنغلادش وإندونيسيا ومصر، وكذلك الأمر بالنسبة لمدن البندقية الإيطالية وسيليت اليوغسلافية. ومن الدول المشار إليها قد يتحول 50 مليون شخص إلى "لاجئ بيئة" بسبب ارتفاع مستوى البحار وتغير نمط المناخ. وفي منطقة المحيط الهادئ، قد تختفي بعض الجزر المأهولة كلياً إذا لم يتم بناء حواجز ساحلية. كما ستنشأ تأثيرات سلبية إضافية على الصحة العامة، وذلك نتيجة الاضطراب والتشتت الاجتماعي السكاني الحاصل بسبب ارتفاع منسوب مياه البحار والمحيطات وإغراق المناطق الساحلية المنخفضة، ونتيجة للعوامل المرتبطة بتغير المناخ كنقص المياه العذبة والموارد الطبيعية الأخرى.

وقد أشارت دراسة مشتركة بين برنامج الأمم المتحدة للبيئة ووكالة حماية البيئة في الولايات المتحدة الأمريكية، إلى أن أثر ارتفاع المياه في دلتا النيل قد يقضي على خمس مساحة أراضي مصر المروية التي يعيش عليها حالياً عشرة ملايين نسمة. ومن الآثار المحتملة لارتفاع مستوى البحار تعرية السواحل وتجريف أنظمة الري والصرف وارتفاع مستوى الملوحة في المياه الجوفية والأنهار والأراضي الزراعية.

تجدر الإشارة إلى أن نفقات إنقاذ سكان السواحل من ارتفاع مستوى البحارستصل إلى "111" مليار دولار حتى نهاية القرن المقبل، وهذا يجعل البلدان الغنية أكـثر قدرة على اتخاذ الاحتياطات بينما ستخسرالبلدان الفقيرة الكثير من أراضيها، ومع ذلك فإن أمريكا وحدها ستخسر من جراء ذلك "18" ألف كم 2 من أراضيها التي ستضيع في البحر، ويستطيع ارتفاع مقداره متر واحد أن يغمر بين 2/ 3- 3/ 4 من الأراضي الرطبة.

مؤتمر كيوتو

في ديسمبر "كانون الأول" 1997 عقد في كيوتو باليابان آخر مؤتمر عالمي حول تغير المناخ والحد من ظاهرة الاحترار العالمي، وتمخض الاجتماع الذي حضرته "159" دولة عن الاتفاق على صيغة بروتوكول لتطبيق الالتزامات كان أهم عناصره:

- تخفض دول الاتحاد الأوربي الـ "15" مجتمعة وبعض دول أوربا الشرقية وبعض دول الاتحاد السوفييتي سابقاً " مجموع الدول 27"، انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون والميتان وأوكسيد النتروز بنسبة 8% عن مستويات 1990 والغازات الأخرى عن مستويات 1995 وذلك خلال الفترة من 2008 إلى 2012، وتخفض الولايات المتحدة الأمريكية انبعاث تلك الغازات بمعدل 7% للفترة ذاتها، أما اليابان وكندا ودول أوربا الشرقية فتخفض ما نسبته،6% ويسمح للنرويجا بزيادة الانبعاث بنسبة 1% وزيادته بالنسبة لأستراليا بنسبة 8%

- يسمح للدول التي قبلت تلك الالتزمات بأن تنفذها بشكل منفرد أو بشكل جماعي من خلال نظم "التطبيق المشترك" أو "أذونات التبادل"! أو تطوير وسائط امتصاص الغازات أو أي وسيلة أخرى تضاف إلى الإجراءات المعمول بها داخل كل دولة، ودعت الاتقافية إلى إنشاء صندوق لتطويرتلك النظم.

وقد جاء البروتوكول كحل وسط بين المواقف المبدئية لكل من الاتحاد الأوربي الذي كان يطالب بخفض الانبعاث بمعدل 15% وموقف الولايات المتحدة بعدم تحديد نسب معينة وموقف اليابان بخفض الانبعاث بنسبة 5% وقد أثنى قادة الدول الصناعية على البروتوكول، وإن أبدى بعض المراقبين وممثلو الصناعات شكوكهم حول إمكان تطبيق تلك الالتزامات رغم إجراء التصديق عليها من الهيئات التشريعية في الدول الموقعة.

ورغم أن موقف الكونجرس الأمريكي كان رافضاً لأي التزامات لا تدخل فيها الدول النامية الكبرى كالهند والصين، فإنه تم إعفاء هذه الدول من أي التزامات لخفض أو استقرار انبعاث غازات الدفيئة، وقد جاء ذلك استجابة لمعارضة الدول النامية "مجموعة الـ 77 وعددها 132 دولة بما فيها الصين" التي قالت إن نصوص الاتفاقية الإطارية للتغير المناخي وتفويض برلين ينصان صراحة على أن مسئولية التعامل مع ظاهرة الاحترار العالمي تقع على عاتق الدول الصناعية المتقدمة، باعتبار أن تركز الغازات وتراكمهـا في غلاف الكرة الأرضية قد نتج عن تنامي الإنتاج الصناعي مع نهـايات القرن الماضي من قبل تلك الدول .

إلا أن الدول النامية، وإن أعفتها الاتفاقية الإطارية من اتخاذ إجراءات للحد، فإنه سيكون لها دور مستقبلي في ذلك حتماً بحكم تأثرها بالاقتصاد العالمي ومتغيراته، وبوسائل تطبيق التزامات الاتفاقية، فالسياسات الاقتصادية تعتمد على آليات السوق، وهذه السياسات قد تكون محلية أو إقليمية أو ذات طبيعة عالمية، ولكل منها نتائج على الاقتصاد الوطني وعلى التجارة الداخلية. ومعلوم أن التعامل مع هذه الظاهرة وإجراءات الحد منها ينتج عنه تغير في هيكلية الإنتاج وعلاقات مدخلاته الرئيسية، خصوصاً أن الموضوع ليس ذا طبيعة محلية مثل التخطيط للتنمية، ولكنه ذو صفة عالمية، إلى جانب أن الفترة الزمنية التي قد تستغرقها معالجة الظاهرة ربما تتطلب مائة عام، وهذا الزمن الطويل ترتبط به تغيرات في التقنية والسكان وأنماط الاستهلاك وهياكل الإنتاج.

صحة الإنسان في خطر

ركز برتوكول مؤتمر كيوتو كما لاحظنا على الجوانب الاقتصادية، دون أن يعطي أهمية للاعتبارات. والآثار الصحية السلبية المتوقعة على البشر، وهذه الجوانب والآثار الصحية خطيرة ولا يمكن إغفالها، ذلك أن غازات ثاني أوكسيد الكربون والهباء الجوي الناتجة عن حرق الوقود الأحفوري والمحمولة بالهواء يمكن أن تمتد إلى مئات الآلاف من الأميال وتسبب أضراراً للصحة العامة محلياً وعالمياً، فالهباء الجوي هذا هو عبارة عن جسيمات صلبة دقيقة جداً تشكل الخطر الرئيسي على الصحة العامة خاصة بالنسبة للجهاز التنفسي، حيث إن الجسيمات ذات الأقطار الأقل من 10 ميكروميتر يمكن أن تصل إلى القصبات الهوائية فتسبب الأمراض الربوية، بينما الجسيمات ذات الأقطار الأقل من 4 ميكرومتر يمكن أن تصل إلى الرئة فتسبب التهاباً في حويصلاتها، بينما الجسيمات ذات الأقطار الأقل من "1"، ميكروميتر يمكن أن تصل إلى الأوعية الشعرية الدموية في الرئة فتسبب التهابات خطيرة فيها، إضافة إلى أن المركبات العضوية المتطايرة (V O C) في الجو تحرض على الإصابة بالأمراض السرطانية. كما أن تغير المناخ سيفاقم من عملية تشكل بعض الأنواع من ملوثات الهواء، مما سيزيد من حصول التأثيرات الصحية المرافقة لها، مثل أعراض الأوعية القلبية والاضطرابات التنفسية. وعلمياً فإن الظاهرة ستكون مسئولة عن تغيير في التوزيع الجغرافي "خطوط العرض والطول"، لحاملات المرض، وسيؤثر ذلك على السلوكية والفعالية الموسيمية لهذه الحاملات والطفيليات، كما يمكن لهذه المؤثرات أن تضخم من "انتقال وانتشار الكثير من حاملات المرض في أنحاء عديدة من العالم. وفي القرن القادم يتوقع أن يكون للظاهرة تأثير عالمي على زيادة عدد إصابات الملاريا من 50 إلى 80 مليون حالة سنوياً. كما يتوقع أن تزيد نسبة السكان في العالم التي يمكن أن تتعرض لانتقال الملاريا عن 45% "النسبة الحالية" إلى حوالي 60% إن أكثر التأثيرات الصحية المباشرة نتيجة ظاهرة تغير المناخ ستكون من خلال موجات الحر والعواصف والفيضانات، حيث يمكن أنت تزداد حيث التكرار والشدة، كما أن القيم الوسطية للحرارة وللهطول المطري سترتفع بشكل عام.ليس ذلك فحسب، بل إن النماذج المناخية الحالية تشير إلى أنه حوالي عام 2050 م سيعاني كثير من المدن الرئيسية في العالم من إلضحايا بالآلاف سنوياً نتيجة ظاهرة الاحترار العالمي، ودون أن يكون

لذلك علاقة بأي زيادة في النمو السكاني. تأتي الجهود العالمية لتخفيض انبعاثات غاز ثاني أوكسيد الكربون والهباء الجوي عاملة على تجنب ظاهرة تغير المناخ، ومؤدية في الوقت نفسه- في حال تبني سيناريو السياسة المناخية الملائمة- إلى إنقاذ ما لا يقل عن 700 ألف ضحية سنوياً من التأثر السلبي بأخطار هذه الظاهرة حتى عام 2020 م. وهذا الرقم يتوزع إلى ما يقارب 563 ألف حالة وفاة سنوياً في الدول النامية و 140 ألف حالة وفاة في الدول المتقدمة. في الولايات المتحدة وحدها، فإن عدد الأشخاص الذين تم إنقاذهم سنويا نتيجة تخفيض الجسيمات الدقيقة في الهواء يعادل عدد الوفيات التي حصلت عام 1996 من مرض الإيدز أو أمراض الكيد.

 

عادل عوض

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات