شاعر العدد.. إبراهيم ناجي.. وأطلاله!

شاعر العدد.. إبراهيم ناجي.. وأطلاله!

نحكي عن صاحب الأطلال في ذائقة الغناء العربي وذاكرته الحية، فهل يكفي هذا تعريفا بالشاعر الذي خلدت سيرته في الوجدان العربي قصيدة تحولت إلى أغنية؟!

ربما يكفي، على الأقل لدى عشاق الصوت الكلثومي الخالد، والذين لا يرون في إبراهيم ناجي إلا أنه كاتب كلمات أشهر أغنية لأم كلثوم، وعلى الرغم من أن هناك الكثير مما يقال عن إبراهيم ناجي خارج إطار الصورة الكلثومية الباذخة في تكاملها الفني والإنساني، فإن ما حققته تلك الأغنية الذاهبة بأسماعنا إلى المدى الأبعد، عبر ألحان رياض السنباطي، في الذائقة الغنائية الشرقية نجحت في تحديد ملامح صورة الشاعر أكثر مما نجحت في ذلك أشعاره الباقية كلها مجتمعة في عدة دواوين صدرت لذلك الطبيب الرومانسي الحالم، والذي عاش حياته منذورا للحلم قصة وقصيدة وحكايات كثيرة في الأفاق القاهرية خلال النصف الأول من القرن العشرين.

ولد الشاعر إبراهيم ناجي في حي شبرا بالقاهرة في اليوم الحادي والثلاثين من شهر ديسمبر في عام 1898، لأسرة مثقفة تأثرا بالأب الذي كان مثقفاً حريصا على القراءة والاطلاع، وممارسة الثقافة فعلا حياتيا بين أفراد أسرته، وقد أثر ذلك السلوك الحضاري تأثيرا كبيرا في صقل مواهب الشاعر منذ صغره، غير تلك المواهب المحلقة في سماوات الشعر والإبداع الأدبي لم تمنع !براهيم ناجي من الاتجاه العلمي في دراسته، حيث تخرج في مدرسة الطب في عام 1922، وعين طبيبًا في وزارة المواصلات، ثم في وزارة الصحة، ثم مراقبًا عامًا للقسم الطبي في وزارة الأوقاف. وبين مرضاه، وفي أجواء مشبعة برائحة الأدوية حاول أن يجد وقتا لموهبته الأثيرة في قراءة الشعر وكتابته فدرس العروض والقوافي وقرأ دواوين المتنبي وابن الرومي وأبي نواس وغيرهم من فحول الشعر العربي، كما نـهل من الثقافة الغربية فقرأ قصائد شيلي وبيرون وآخرين من رومانسيي الشعر الغربي.

لكن حياته الشعرية بدأت حقيقة متزامنة ومتوازية مع حياته العملية في حقل التطبيب، حيث بدأ منذ عام 1926 تقريبا بترجمة بعض أشعار ألفريد دي موسييه وتوماس مور شعرًا ونشرها في الصحف والمجلات، ويبدو أن تلك الترجمات الشعرية حققت له رضا نفسيا أثار فيه طموحا جديدا رأى أن يتحقق في صورة أشد وضوحا ضمن إطار جماعة أبولو، التي كانت قد تشكلت على أيدي مجموعة من الشعراء، ممن استطاعوا تحرير القصيدة العربية الحديثة من قيودها الكلاسيكية واشتراطاتها التاريخية والفنية القاسية، فانضم إبراهيم ناجي لتلك الجماعة المنشدهة بمستقبل الشعر أكثر من انشداهها نحو ماضيه عام 1932م.

إلا أن الشاعر الرومانسي الحالم شعرًا ونثرًا وعلاقات عاطفية تعددت في ذلك الإطار الشاعري، واجه نقدا عنيفا من أساطين الوسط الثقافي القاهري تبناه في صورته الأكثر قسوة كل من عباس محمود العقاد، وطه حسين، اللذين اجتمعا على تعنيفه نقديا، على الرغم من أنهما قلما يجتمعان على شيء، وقد تأثر ناجي كثيرًا بما قاله عنه طه حسين، الذي وصف شعره بأنه «شعر صالونات لا يحتمل أن يخرج إلى الخلاء فيأخذه البرد من جوانبه»، وهو رأي يوافقه عليه الكثيرون ممن يؤمنون بترتيب الشعراء وفقا لنظرية طبقات الشعراء، حيث وضعوا ناجي ضمن الطبقات الوسطى - وأحيانا الدنيا - من بين أقرانه، وفقا لهذه النظرية التراتبية.

ومع الأسف فإن ناجي الذي كان حريا بأن يعود له اعتباره عبر بوابة الجماهير الكلثومية الكاسحة، لم يهنأ باختيار أم كلثوم لقصيدته في حياته، حيث عرضها عليها، لكنها ماطلت كثيرًا، وترددت أكثر، وعندما قررت أن تغنيها بعد أن تجري عليها عمليات الإضافة والحذف والتنقيح المعتادة، كان ناجي قد رحل عن هذه الدنيا قبل سنوات كثيرة. فالشاعر الذي أزعجته النظرة النقدية المتعالية سافر إلى لندن، وهناك دهمته سيارة عابرة فنقل إلى مستشفى سان جورج وقد عاشت هذه المحنة في أعماقه فترة طويلة حتى توفي في الرابع والعشرين من شهر مارس في عام 1953 حزينا ومكتئبا، ولكن دون أن يتخلى عن أحلامه الكبرى في الشعر والحياة، وقد تجلى ذلك واضحا فيما خلفه من قصيد امتاز بالسهولة والقرب من نفس المتلقي والجدة في التعبير، بما يتناسب، ربما، مع الموضوع الوحيد، تقريبا، الذي فضل أن يكون ناجي موضوعه الشعري وهو موضوع الغزل.

وقد توزع هذا الموضوع، متشعبا على عدة دواوين تركها الشاعر خلفه منها؛ «وراء الغمام» (1934)، و«ليالي القاهرة» (1944)، و«في معبد الليل» (1948)، و«الطائر الجريح» (1953)، وغيرها. كما قام ناجي بترجمة بعض الأشعار عن الفرنسية لبودلير تحت عنوان أزهار الشر، وترجم عن الإنجليزية رواية «الجريمة والعقاب» لديستوفسكي، وعن الإيطالية رواية «الموت في إجازة»، ونشر دراسة عن شكسبير، بالإضافة إلى إصداره مجلة «حكيم البيت»، وتأليفه بعض الكتب الأدبية في القصة والنقد مثل «مدينة الأحلام» و«عالم الأسرة» وغيرهما.

وقد صدرت أعماله الشعرية الكاملة في عام 1966 بعد وفاته عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر، كما صدرت عنه بعد رحيله عدة دراسات مهمة، منها: إبراهيم ناجي للشاعر صالح جودت، وناجي للدكتورة نعمات أحمد فؤاد، بالإضافة إلى العديد من الرسائل العلمية بالجامعات المصرية. ولعل في هذا عزاء - بعض العزاء - ليس للراحل الحزين، وإنما لمريديه الذين استدلوا على عنوانه الشعري عبر «أطلال» أم كلثوم، قبل أن يلجوا ذلك العالم باستفاضة تليق بالشعر والشاعر.

هنا، في هذا العدد من «العربي»، محاولة لتكريس إبراهيم ناجي شعريا عبر أبيات اخترناها من قصيدة الشفيف لنذيل بها بعض الصفحات إعجابا.

 

سعدية مفرح

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات