الفراشة والأخطبوط للأديبة الفلسطينية زينب حبش

الفراشة والأخطبوط للأديبة الفلسطينية زينب حبش

احتل الجنود الإسرائيليون بيت راوية القصة للإيقاع بأحد الشباب المطاردين ثم غادروه، لم ينته احتلال البيت، لقد خرجوا وظلوا على أعتابه. هل يذكرنا ذلك بشيء؟

نعم بعد أكثر من عقدين على حدوث هذه القصة الحقيقية، دخل الفلسطينيون حالة رمزية مع الاحتلال إثر اتفاقيات أوسلو، لقد خرج الاحتلال من مناطق ما يسمى بمناطق (أ) لكنه ظل حولها، لقد ظل الاحتلال باقيا لا يود الرحيل، لقد قال الضابط الإسرائيلي للراوية: «إن كان هناك شيء مفقود»، وجنود الاحتلال يغادرون بيتها للاطمئنان على محتويات الغرف.

لقد نظرت الراوية إليه باستغراب.

أضاف قائلا:

«- هذا قانون.

ابتسمت بسخرية، قانون؟ قلت في نفسي: أي قانون هذا الذي تتحدث عنه؟ تنهبون بلادنا وتقتحمون منازلنا في منتصف الليل، وتنامون في غرفنا، وتستعملون أثاثنا، ثم تتحدثون عن القانون؟».

قيل إن جنود الاحتلال عام 1994 تركوا المعسكرات مثل المقاطعات (الإدارات العسكرية) كما تسلموها عام 1967.

لكن طوقت سلطات الاحتلال البلاد بسور!

لم تطل حيرتي بما سوف أبدأ به هذه الدراسة القصيرة عن رواية «الفراشة والأخطبوط» للأديبة زينب حبش، ذلك أنني تيمنت بالكاتبة وهأنذا أعمد إلى ما بدأت به روايتها، ثم لأخلص إلى مقارنة رمزية أيضا، بل مقارنة تاريخية!

الحكاية

قصة زينب حبش قصة حقيقية، للتوثيق فيها جانب رئيس، لكنها حكاية مشوقة، تمتلك عناصر العمل الأدبي القصصي، بل وأضفت الراوية عليها بعدا بوليسيا.

بسام ابن أخ الكاتبة، ناشط فلسطيني من أحد المخيمات ضد الاحتلال، تعرض للإيذاء والقمع على يد المخابرات الإسرائيلية، فلم يجد ذلك معه، حاول ضابط مخابرات الإيقاع به وتجنيده للعمل كجاسوس معه، فيوقع به بسام، يقتله ويأخذ سلاحه ويهرب، يداهم جنود الاحتلال بيت الكاتبة لنصب كمين له، لكنه لا يأتي إلى البيت في رام الله بل يستشهد في نابلس، بعد أن اشتبك مع جنود الاحتلال. هذه مجمل أحداث القصة. لكن ما صنعته الكاتبة هو الأسلوب الذي قدمت فيه هذه الأحداث.

لم تكن القصة قصة بسام فقط، ولا وضع الأسرة تحت احتلال الجنود، بل إن مغزاها تجاوز ذلك ليصف حال الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال القاسي. من أجل ذلك ركزت الراوية على وصف المكان والأحداث من داخل بيتها المحتل، بل من داخل الغرفة التي جمع جنود الاحتلال الأسرة فيها.

البيت واسع وجميل ولكنه أصبح ضيقا، والمساحات فيه تحولت إلى ثكنة عسكرية تئن تحت وطأة بساطير الجنود وعتادهم كما الوطن كذلك.

لقد عبرت الكاتبة عن مشاعرها وما حدث في البيت مع الجنود بدقة وأمانة، ففي هذه الأجواء المحاصرة، في ظل منع التحرك والتجوال داخل البيت، وعدم استخدام مرافقه إلا بإذن الجنود، حتى في ظل الحصار اللغوي، حيث لم يستطع أفراد الأسرة والزوار من الأقرباء أخذ حريتهم في الكلام خشية الجنود، في هذا الجو المشحون والمتوتر نشط الحديث الداخلي لدى الكاتبة، كما نشط التذكر واستدعاء أحداث من الماضي لتلقي الضوء على الحاضر، أو كأنها تربط بذكاء بينهما، كأنها تقول هذا زمن واحد هو زمن الاحتلال. الحالة الرمزية واضحة: الاحتلال، ونكاد نلمس أثر الديموجرافيا في الصراع:

«فالغرفة أصبحت تضيق بنا، كنا في البداية خمسة أشخاص، ثم جاءت إيمان، وبعدها سعيد وانشراح، ثمانية أشخاص في غرفة نوم يبتلع السرير أربعة أخماسها، يا إلهي! كم سيصبح عددنا لو وضعت انشراح مولودها؟ سنصبح تسعة بالتأكيد، تخيلتني اسمع في تلك اللحظة صراخ طفلٍ حديث الولادة يملأ المكان».

بل إنها في هذا السجن الخاص جدا تحتاج إلى تسلية، وتحتاج إلى وجود باقي أعضاء الأسرة، حتى ولو كانوا في الأسر.

«تضايقت أمي لاحتجاز سعيد وانشراح وإيمان.

- إلى متى سيظلون محتجزين معنا؟ قالت أمي بكثير من الضيق.

فقلت أهدئها:

- على العكس يا أمي. إن وجودهم معنا يخفف عنا. لقد تسلينا معهم.

قالت انشراح:

- لو أنهم يحضرون أولادنا هنا، فلا يهمنا شيء. ضحكنا كلنا».

صعب هو الاحتلال، فمتى سينتهي؟

هكذا تساءلت الكاتبة في مكان آخر.

«يا للهول!

هل ستطول مدة احتلالهم لبيتنا؟

إلى متى سنظل نتقاسم الحمام والمطبخ؟».

ثم تتجاوز الراوية الحالة الخاصة عن احتلال جنود الاحتلال لبيتها وتقسيمه: جزء صغير للأسرة هو غرفة واحدة، وباقي المكان لهم، تلك القسمة الظالمة والعبثية لتدخل إلى الحالة العامة.. والتاريخ، إلى القضية الفلسطينية من جذورها:

«وكانت تضم الخريطة الطبيعية بألوانها الزاهية، وكذلك الرسوم البيانية والخطوط التي تشير إلى خطة التقسيم إلى دولتين: واحدة عربية والأخرى يهودية.

وهل تحتمل هذه القطعة المباركة من الأرض التقسيم؟

حتى إن شكلها المتناسق الجميل يوحي بأنها إنسان حيّ. وأن أي عملية تقسيم تؤذيه وتشوه شكله الرائع. ألم يكن الأجدر أن تظل فلسطين كما هي، بقامتها الفارهة، وشكلها الجذّاب؟ وأن يظلّ فيها شعبها الذي رواها بحبه وحنى عليها كما تحنو الأم على وليدها عبر آلاف السنين؟

ألم يكن الأجدر أن يعيش فيها الناس كلهم كأخوة وأصدقاء؟».

اليهود

تعد «الفراشة والأخطبوط» من الأعمال الأدبية التي لم تقع تحت أسر النظرة السلبية العدوانية المطلقة لكل ما هو يهودي، من ناحية وهي بالطبع ليست الكاتبة الأولى التي فرقت بين اليهود كمحتلين واليهود كضحايا للحركة الصهيونية، من ناحية أخرى، وعلى الرغم من أن جندي الاحتلال هو عدو، فإن الكاتبة لم تجرده من الإنسانية.

لقد وصفت الراوية اقتحام جنود الاحتلال الإسرائيليين للشقة، كما وصفت حالة أسرتها في نكبة عام 1948، وأتت على اليهودي القاتل والسجان ورجل المخابرات، إلا أنها كما أسلفنا لم تقع أسيرة للنظرة النمطية المطلقة، وتأثرت بشكل خاص بإيمانها أن الحركة الصهيونية هي التي أفسدت الإنسان اليهودي هنا، وهي التي جعلت منه عدوا.

ولأجل ذلك فهي تعتبر الجنود الأربعة في شقتها ضحية للصهيونية، ولولا وجود الصراع للعبوا مع بسام كونهم في مثل سنه.

وللدلالة على جريمة الصهيونية، أتت على ذكر صديق والدها اليهودي ص 38 ، ثم عمقت ذلك في الصفحتين 81 ، 82 ، حين تحدثت عن التعددية الأصلية في فلسطين التي جمعت المسلمين والمسيحيين واليهود، وأن الصهيونية جعلت الأصدقاء أعداء، كما كشفت خوف اليهود الأصليين من اليهود الغرباء القادمين من الخارج، كما جاء على لسان شلومو ص 82 .

نحت الكاتبة منحى وجوديا في وصف جنود الاحتلال الذين يتأملون خارطة فلسطين، وينظرون تجاه الأسرة المسجونة.

«هل وضع نفسه في مكاننا في تلك اللحظة؟» هكذا تساءلت الراوية. والمنحى هذا نفسه أيضا اتبعته في وصف احترام الجنود للشهيد وبكاء أحدهم عليه بصوت مسموع حيث ذكرت «هل وضع نفسه مكان بسام؟».

في هذا المنحى الوجودي الإنساني أثبتت الراوية المشاعر الإنسانية لدى جنود الاحتلال، سواء في احترام الشهيد أو البكاء عليه، وهذه نظرة إنسانية للعدو الذي لم يستطع تحت تأثير الموقف إخفاء مشاعره كونه أولا وأخيرا إنسانا قبل أن يكون جندي احتلال.

في وصف عزرا الضابط الذي يقوم بإجراءات قانونية للاطمئنان على البيت المحتل قبل الجلاء عنه، قدمت الكاتبة أخلاقيات عسكرية لدى هذا الضابط، على الرغم من أنها تلته بمونولوج أفصح عن التناقض في شخصية اليهودي الجندي.

«قلت في نفسي، أي قانون هذا الذي تتحدث عنه؟ تنهبون بلادنا، وتقتحمون منازلنا في منتصف الليل، وتنامون في غرفنا، وتستعملون أثاثنا وأدواتنا، ثم تتحدثون عن القانون؟».

إسرائيليون من الدروز

ثمة ظاهرة ينظر إليها الفلسطينيون بازدراء شديد، ألا وهي ظاهرة وجود دروز عرب يخدمون في جيش الاحتلال الإسرائيلي، وعلى الرغم من أن النظرة العامة هي الاحتقار، فإن الكاتبة (الراوية) هنا تعرضت لهم - من خلال شخصية (يوسف) أحد الجنود المحتلين شقتها - تعرضا اقتربت فيه من الأسباب والظروف ونفسية الجندي الدرزي من الداخل وتناقضاتها، فهو في العمق غير ما هو على السطح.

مواقف يوسف

«كان أبي يستمع إلى حديثنا الهامس، أدرك ما تُعانيه أمي من الخوف والقلق، فطلب من الشاب الذي يجلس أمامه ويصوّب بندقيته علينا، أن يتكلم مع أمي، وأن يطمئنها ببعض العبارات.

كم كانت دهشتنا عظيمة حين رأيناه يقترب منها ثم يقول لها بلطف:

- لا تخافي يا خالتي، نحن لن نؤذيكم.

ثم نظر إليّ وقال هامسا:

- إنني هنا لأحميكم، لن يستطيع أحد أن يمسكم بأي سوء، وأنا عندكم.

أذهلني كلامه، إنه يقول لأمي يا خالتي! ويطمئنني بأنه سيحمينا من أي أذى، وفي الوقت نفسه يصوّب بندقيته إلى قلبي، يا للعجب! هل تحوّل الجندي الذي يجلس أمامي إلى ملاك؟

تأملته وهو يتكلم إليّ باحترام ومودّة، كان يتكلم العربية بلهجة مألوفة.

إنه عربي، تأكدت الآن أنه عربي.

لم أقل شيئا، فابتسم ليؤكد لي ما يقوله، شعرت بأنه صادق في كل كلمة قالها لأمي ولي».

فيوسف من دروز فلسطين، المجبر على الخدمة في جيش الاحتلال، مضطر لهكذا سلوك، لكنه من الداخل مشدود إلى الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال عام 1967، لكنه ليس قادرا على صنع شيء لهم سوى التضامن على مستوى المشاعر، فهو حتى حين يبوح للراوية بمعلومات يرجوها ألا تخبر أحدا، وهو يحاول أن يكون إنسانيا بقدر ما تسمح به التعليمات العسكرية، وهكذا فهو يعيش شخصيتين معا في وقت واحد، الأولى وهي السطحية المحكومة بكونه جنديا إسرائيليا وهي الرسمية، والثانية وهي الداخلية المحكومة بكونه فلسطينيا وهي غير الرسمية.

لذلك فهو يحسب حسابا، ويخشى أن يتصرف وفق شخصيته الحقيقية لئلا يتعرض للعقاب. وقد عبرت الراوية عن مشاعر يوسف المتناقضة حين قالت في داخلها:

«ولماذا تصوب بندقيتك إلى قلبي يا يوسف؟

هل عدت إلى بزتك العسكرية لتتحول إلى قاتل؟ (....)

وحين توجهت إلى الباب لأفتحه، أحسست ببندقية يوسف تلمس ظهري.

عدت أتساءل:

- لماذا يا يوسف؟ لماذا تصوب بندقيتك إلى ظهري؟ هل ستطلق عليّ النار؟

لا، يوسف لن يطلق النار عليّ، ألم يقل لي إنه لن يسمح لأحد بأن يؤذيني؟»

روح فلسطينية محبة للسلام

شخصية الفلسطيني شخصية محبة للسلام كارهة للحرب، وهذا ظاهر في «الفراشة والأخطبوط» فالراوية محبة لوطنها وتأملها الطويل بجماله وأطفاله، هي ذاتها التي تتذكر النكبة وآلامها، وحب السلام لديها ولدى الفلسطينيين كبشر هو حب أصيل، لذلك فإنها تبوح بذلك صراحة، على الرغم من أن موقعها العام في الرواية هو مع مقاومة الاحتلال.

وبعد استشهاد «بسام» في الصفحات الأخيرة، يصبح لتساؤل الراوية «لماذا لا تعيش الفراشات طويلا؟» ومقارنتها بين الفراش والأطفال الفلسطينيين دلالة عميقة ورمزية عمقتها من خلال الحوار الذي دار بينها وبين الضابط عزرا، والذي أوضح الحوار من خلاله رمزية أخرى في حب الراوية للفراش الحر الحي وحب عزرا للفراش الميت! حيث يمكن أن يدل ذلك على ما يصنعه جنود الاحتلال مع الأطفال والفراش!

أما الإشارة إلى الأخطبوط فقد وردت في صفحة 171، أي في نهاية الرواية، لقد بدأت الكاتبة الرواية بالفراش وأنهتها بالأخطبوط، والأخطبوط هو رمز لضابط المخابرات الإسرائيلي الذي عذب الشباب، وحاول السيطرة عليهم، والتحكم بهم:

لقد رمزت الراوية بالفراش لبسام، وللشباب، وللشعب الفلسطيني، لما يتميز به الفراش من جماليات وبراءة وسلام، في حين رمزت بالأخطبوط إلى ضابط المخابرات والاحتلال لما فيه من بشاعة وإرهاب.

اختفت الفراشة التي تأملتها الراوية في بداية الرواية، ثم اختفى بسام، لكن ما يعزي أن الأخطبوط (ضابط المخابرات الذي أراد الإيقاع ببسام) هو الآخر يختفي، ثمة ما يعزي ويثير الأمل بالخلاص.

عن اللغة والبناء

لغة الرواية تتفاوت ما بين اللغة الشاعرة، واللغة السردية، أي هي لغة متوسطة ما بين اللغة الأدبية واللغة العادية.

من عناصر البعد البوليسي في الرواية التشويق، كما هي حال جسد الرواية، حيث البحث عن الشاب المطارد بسام. وهناك حوادث ظهر فيها التشويق، كما في وصفها لرحلة اللجوء، وبحث الأسرة عن الطفل والأب. كذلك الحال عن «بسام» في طفولته حين عاد إلى المخيم في نابلس وحده.

بداية الإضاءة على شخصية المطارد كانت في صفحة 40، مما يؤكد أن حدث «بسام» الشاب المطارد استدعى تاريخ النكبة والقضية، وإلا كيف نفسر أن استدعاء الماضي flashback غطى مساحات كبيرة جعلتنا نحس بالاستغراق فيها كأنها هي القضية، كما هو في الصفحات من 42 - 59 ، والحقيقة أن القصة هنا هي قصة النكبة التي ما زالت تؤثر بشكل كبير على الراوية، بل إن تفكيرها في بيت دجن وبيتهم المسلوب هناك كان في بال الراوية حتى قبل احتلال الشقة وهروب بسام.

ما بعد صفحة 123، خف التشويق, وأثر ذلك على إيقاع السرد، وجزء كبير منه كان يجب أن يكون قبل ذلك من أجل الإضاءة على شخصية بسام. لم تشأ الراوية سرد حكايتها وفق تسلسل زمني تاريخي بدءا بعام اللجوء، حين كانت طفلة ابنة 4 أعوام، بل اختارت اللحظة الراهنة لتعود من خلال زمانها ومكانها، إلى الزمان الأول.

آخر الكلام: الحنين إلى بيت دجن

أود أن أختم حديثي هذا بهذه الكلمات التي يدرك معناها كل من حرم من بيته ووطنه، وهي من رواية زينب حبش:

«كانت بيت دجن هي أرجوحتي التي كنت أحلق عليها كما العصافير، وكانت شجرة التوت الضخمة التي تظلل منزلنا القديم على الشارع العام، تمد أغصانها ليأكل منها المارون في طريقهم إلى العمل، أو عودتهم إلى منازلهم.

كان طعمها كما وصفته أمي، مميزا، ولونها يميل إلى السواد، ليس هناك شخص واحد في بيت دجن لم يأكل من تلك الشجرة، صغيرا كان أم كبيرا. وكانت بيت دجن تعني الأمل بالعودة، مهما طال الزمن».

كلٌّ له «ليلى» ومن لَم يَلقها فحياته عبثٌ ومحضُ هباءِ
كلٌّ له «ليلى» يرى في حبها سرّ الدُّنى وحقيقة الأشياءِ
ويرى الأماني في سعير غرامها ويرى السعادةَ في أتمِّ شقاءِ


إبراهيم ناجي

 

تحسين يقين 




 





مؤلفة الرواية زينب حبش