تيارات نقدية متصارعة

تيارات نقدية متصارعة

لا أظن أنه يمكنني التشكيك في أن «البنيوية» كانت النجم الصاعد في جامعة وسكنسن، ومكتباتها، طوال إقامتي في مدينة ماديسون الهادئة الآمنة التي كانت مستقري لعام كامل. ولكن هذا النجم الصاعد ظل يتحرك في فضاء لا يخلو من منافسين أقوياء، ومن ثم كان يثير جدالات ومناظرات لها أثرها في التحولات البنيوية نفسها، وانقلاب أبرز ممثليها عليها، على امتداد النصف الثاني من الستينيات. يشهد على ذلك كتاب «جدال بنيوي» الذي ضم بحوث الدورة الدراسية التي رعاها مركز جونز هوبكنز للإنسانيات، وأقيمت على امتداد أربعة أيام (18 - 21 أكتوبر، 1966)، وجمع أوراقها وحررها ريتشارد ماكسي ويوجينو دوناتو في كتاب نشرته مطبعة جامعة جونز هوبكنز 1970 - 1972. وكانت الدورة تقوم على بحوث يلقيها كبار المختصين، بعد أن يكون قد قرأها المشاركون الذين يعقبون على كل شيء بما لديهم من أفكار موازية، أو معارضة، أو مناقضة.

ونظرة واحدة إلى المشاركين وأوراقهم تؤكد دخول البنيوية في زمن مغاير لزمن مؤتمر إنديانا سنة 1958، فقد تحدث ممثل البنيوية رولان بارت عن الكتابة بوصفها فعلاً لازمًا، وقبله تحدث تودوروف عن اللغة والأدب، وقبلهما تحدث لوسيان جولدمان عن «البنية: الواقع الإنساني والمفهوم المنهجي». وجاء بعدهم جان إيبوليت مترجم «ظاهريات الروح» - كتاب هيجل الشهير، ثم جاك لاكان وجاي روزلاتو ونيفل هادسون، وجاءت بعد ذلك ورقة جاك دريدا التي تولّت نقض الأساس اللغوي للبنيوية، فاتحة البنية على مراح الدوال ولعبها، ثم جاءت ورقتا جان بيير فيرنان ونوكاس روير، واختتمت الأوراق والمناقشات «ملاحظات ختامية»، طرحها جان إيبوليت الذي ينتسب إلى الفلسفة لا إلى علم اللغة أو النقد الأدبي، كما كان عليه الحال في مؤتمر إنديانا الذي قال كلمته الأخيرة، عالم اللغة رومان ياكوبسون. وكان واضحًا من تصفح الأوراق وتوجّهات ممثليها أن المرحلة الحماسية للغواية البنيوية انتهت، وأنها أصبحت موضوعة موضع المساءلة من خصوم أقوياء، وأن الكلمة الأخيرة لم تعد لعالم اللغة وإنما لدارس الفلسفة، الأمر الذي يدل في ذاته على بداية التحول من مركزية النموذج اللغوي في البنيوية إلى مركزية النموذج الفلسفي الذي أخذ في الإعلان عن نفسه، مع نزعة التفكيك التي ظهرت في بحث دريدا الذي سرعان ما أصبح له معجبون والمتأثرون بمنهجه في الولايات المتحدة، خصوصًا في جامعة ييل. ولم يكن التيار اليساري بأجنحته المختلفة، في النقد الأدبي، بعيدًا عن هذا التضاد الذي تحول إلى صراع. فمن ناحية، كان هناك لوسيان جولدمان بأطروحاته عن البنيوية التوليدية التي ساءلها في عمق يوجينو دوناتو على وجه الخصوص فيما يشبه المناظرة مع جولدمان، وفي سياق غير بعيد عن ذلك، من ناحية أخرى، وخارج بحوث مؤتمر جونز هوبكنز، كانت هناك ظاهرة لاحقة بالغة الدلالة، وهي صدور كتابين كان لهما تأثير لا يختلف عمقه عن اتساع مجاله. أولهما كتاب جوناثان كلر عن «الشعرية البنيوية» وثانيهما كتاب إدوارد سعيد (1935 - 2003) «بدايات: المقصد والمنهج». وقد صدر كلا الكتابين في السنة نفسها، 1975، لكن في اتجاهين مختلفين، أو متضادين، إذا شئنا الدقة.

مدخل إلى البنيوية

ولا أنسى أن مدخلي الأهم إلى البنيوية كان دراسة جوناثان كلر عن «الشعرية البنيوية: البنيوية واللغويات ودراسة الأدب»، وقد صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب عن مطبعة جامعة كورنيل سنة 1975. ونال الكتاب استحسانًا عامًا، أهّله لأن يحصل على جائزة جيمس رسل لويل من جمعية اللغة الحديثة سنة 1976، أي بعد عام واحد من صدور الكتاب الذي لم يكتب مؤلفه، بعده، ما يوازيه في الشهرة أو المكانة، ذلك على الرغم من أنه كتب، بعد ذلك، كتبه الأقل شهرة وتأثيرًا من مثل: «عن التفكيك» سنة 1972 و«سوسير» سنة 1976، و«تأطير العلامة: النقد ومؤسساته» سنة 1988.

وقد قرأت فصول الكتاب الذي سرعان ما أصبح المرجع المعتمد والمدخل الأوثق إلى البنيوية، متنقلاً ما بين الجزء الأول عن الأساس اللغوي وتطور المنهج من خلال دراسات ياكوبسون ورولان بارت وجريماس، والجزء الثاني الخاص بالشعرية التي كانت تعنى بالخصائص أو العناصر التكوينية والمجالات التطبيقية للبنيوية في آن، وذلك ابتداء من المقدرة الأدبية والعرف والتطبيع، مرورًا بشعرية القصيدة وانتهاء بشعرية الرواية، وذلك كله مع تسليم بفكرة البنية الكامنة وراء التجليات المتغايرة، شأنها في ذلك شأن «اللغة» القارة وراء تجليات «الكلام»، وهو الأمر الذي كان يعني وضع «المقدرة الأدبية» موضع الصدارة بوصفها بنية ينطوي عليها القارئ، وتتحكم في عملية القراءة التي تعود إلى هذه المقدرة، كما تعود التجليات المتغيرة إلى أصلها الثابت. وكان ذلك يعني التسليم بأن جميع الأعمال الأدبية تجليات بنية كبرى، كامنة، هي الأدبية في حالة الأدب، والشعرية في حال الشعر، والقصّيّة في حالة القص... إلخ. ويختتم الكتاب بالجزء الثالث الذي كان عن جماعة «تل كل» Tel Quel وما بعد البنيوية، ويلفت الانتباه - في هذا القسم - النظرة السلبية التي نظر بها كلر إلى هذه الجماعة الطليعية المنفلتة من المدار المغلق للأنساق البنيوية، خصوصًا جاك دريدا وجوليا كرستيفا اللذين يتشابهان في رفض النسق المقفل للبنية التي تشبه السجن، وتجيء خاتمة الكتاب، في النهاية، مركزة على البنيوية والخصائص النوعية للأدب.

وقد كان كتاب كلر، في ذاته، نموذجًا بنيويًا لتطبيق المنهج البنيوي على الدراسات المنتسبة إلى الحركة البنيوية التي أقامت الدنيا ولم تقعدها منذ منتصف الخمسينيات التي صدر فيها كتاب كلود ليفي شتراوس «المدارات الحزينة» الذي كان بداية الموجة التي اكتسحت كل ما قبلها، وفرضت نفسها لعقدين من الزمان على الأقٍل. وترجع بنيوية كتاب كلر إلى أنه نظر إلى الكتابات البنيوية بوصفها بنية دالة، قام بتفكيكها إلى عناصرها التكوينية، وأعاد بناءها بما يؤكد دلالة مقصودة، تنبى على التعاطف، حتى لو كان مضمرًا، لا على الحياد.

ولذلك، لم يكن من الغريب أن يهاجم الدعاة الحماسيون للتفكيك - من مثل كرستوفر نوريس - كتاب كلر مع غروب شمس البنيوية، وأن يجعلوا من الكتاب بناء لنسق، يعزل بنية الحركة - موضوعه الذي أصبح انعكاسًا له، وشبيهًا به - عن التاريخ الذي أدّى إلى صعودها كما أدى إلى هبوطها، وذلك حينما تغيّرت شروطه وأوضاع علاقاته. وقد أدركت، لاحقًا على الأقل، أن كتاب كلر كان على النقيض، موقفًا ومنهجًا، من كتاب إدوارد سعيد (1935 - 2003) «بدايات: المقصد والمنهج»، فقد كان سعيد يؤكد ارتباط الكتابة بزمان ومكان متعينين، فالبداية التي قصد إليها كتاب «بدايات» هي اختيار الكتابة في زمن بعينه بعلاقات مكانية بعينها، وهدف لا ينفصل في تعيُّنه، وذلك من منظور يرى أن الكتابة فعل حر، يحدد الكثير مما يأتي بعده، أو تُفضي البداية إليه. ويعني ذلك أن الابتداء - فضلاً عن كونه فعلاً حرًا في العالم وموقفًا منه - هو إطار للعقل ونوع من العمل والاتجاه والوعي، فهو كيفية جذرية تصل ما بين الممارسة والتطبيق، أو بين القصد والمنهج، لكن من حيث كون لحظة الابتداء، مشروطة بنسبيتها المناقضة للإطلاق أو الإحاطة أو النهايات المسبقة، ويلزم عن ذلك أن الابتداء، منهجيًا، هو إعادة بناء المعرفة وتنشيطها في وعي الناقد، ليس بوصفها نتيجة منجزة سلفًا، أو دائرة مغلقة على بنية قائمة في فراغ، وإنما بوصفها فعلا يظل في حاجة إلى الكشف، لابد من القيام به مهمة أو بحثًا. أما كتاب جوناثان كلر الذي كان بنيويا على طريقته، فقد قصد إلى الكشف عن علاقات العناصر التكوينية للبنيوية، وذلك من حيث هي بنية في ذاتها، فكان باحثًا عن النسق وعلاقاته ومكوناته التي أطلق عليها مصطلح الشعرية. وكانت النتيجة أنه جعل البنيوية نظامًا، معزولاً عن التاريخ، وعن معنى الفعل في العالم التاريخي الذي تولّدت فيه، وفي مواجهته، من حيث منظور المهتمين بأنها إعلان عن «موت الإنسان».

مابعد الاستشراق

ومع الأسف لم أكن قد قرأت كتاب إدوارد سعيد في ذلك الوقت، فلم ألتفت إليه - مثل كثيرين غيري - إلا بعد الهزة المعرفية التي أحدثها كتاب «الاستشراق». ولما كنت لم أرَ هذه الهزة بعد، أو أتأثر بها، فقد أغواني كتاب كلر، كما أغوتني البنيوية نفسها. ولم أكتف بقراءته واستيعابه، بل ترجمت الكثير من فصوله، وظللت محتفظًا بالترجمة التي شغلتني مشاغل الحياة القاهرية عن إكمالها، إلى أن سبقني السيد إمام إلى ترجمة الكتاب كاملاً وإخراجه إلى العربية من خلال دار «شرقيات» القاهرية سنة 2000، ولكني، وهذا هو المهم، طالعت العدد الثالث (المجلد السادس) من مجلة «علامات فارقة» (دياكرتكس) الذي كان موضوعه الأساسي كتاب «بدايات». وكان ذلك في سياق زيارة سعيد لجامعة وسكنسن، وحديث الجميع عنه، وتأثر بعض زملائي بآرائه. وأظن أن زميلة عزيزة هي التي أهدتني عدد المجلة الذي صدر في خريف 1976، متضمنًا حوارًا كاشفًا مع إدوارد سعيد، بعد دراسات عن كتابه بأقلام ج. هيلز ميلر، وهايدن وايت، وجوزيف رديل، ويوجينو دوناتو، ولم يكن هؤلاء جميعًا من نجوم البنيوية أو المتعاطفين معها، وإنما كانوا من المشاركين لإدوارد سعيد في الإيمان بالتصدي للتورطات الأيديولوجية للنقد الأكاديمي، والوعي التاريخي الذي أعلى من شأنه هايدن وايت الذي أصبح - بعد سنوات - من أبرز كُتّاب النزعة التاريخية الجديدة، وهي نزعة لم تختلف في توجهاتها عن الإيمان بالدور الاجتماعي للنقد، وهو الدور الذي أكده كتاب إدوارد سعيد الذي بدا لي - بعد ذلك - أن كتابه «بدايات» كان الخطوة التمهيدية، منهجيًا، لكتاب «الاستشراق»، خصوصًا من حيث تحدي الأيديولوجيات السائدة وتفكيكها. ولذلك نال كتاب «بدايات» احترام الكثيرين، وخصصت له أهم مجلة نقدية عددًا خاصًا، واستحق الكتاب الجائزة الأولى التي مُنحت باسم ليونيل تريلنج (1905 - 1975)، وهو واحد من نجوم اليسار في النقد الأدبي الأمريكي، صاحب كتاب «الخيال الحر» (1950) و«الذات المعارضة» (1955).

ومن المفارقات الدالة أن ليونيل تريلنج توفي في العام الذي صدر فيه كتاب إدوارد سعيد وجوناثان كلر. وكان طبيعيًا أن ينحاز الذين أرادوا تكريمه بإنشاء جائزة باسمه إلى إدوارد سعيد المنتسب إلى فصائل اليسار الأمريكي، وذلك في الاتجاه المضاد لأولئك الذين احتفلوا بكتاب كلر ومنحوه التقدير الذي يتكافأ والمكانة التي احتلها في سياقات المد البنيوي المناقض للفكر اليساري في الولايات المتحدة وفي الأفق الذي آزر فيه هذا المد الذين تعودوا على النظر إلى الأعمال الأدبية بوصفها «كيانات» مستقلة في ذاتها، تنطوي على «حال وجود» مكتف بنفسه، وكان هؤلاء من بقايا أو أتباع أو طلاب «النقد الجديد» الذي ازدهر طوال الثلاثينيات والأربعينيات، بعد جهود رواد العشرينيات من أمثال ت. إس. إليوت (1888 - 1965) وآي.إيه. ريتشاردز (1839 - 1979)، وكانت نتيجة ذلك التشابه الذي يمكن ملاحظته ما بين عدد من المنطلقات البنيوية وبعض منطلقات «النقد الجديد» الذي ظل مؤكدًا ضرورة الدراسة الأدبية المحايثة، أو الداخلية، للعمل الأدبي الذي لا يتميز إلا بأدبيته التي ينبغي أن تكون الشغل الشاغل للناقد. ولم يكن «النقد الجديد» بعيدًا عن فكرة البنية التي كانت متضمنة فيه بمعنى أو غيره، ولذلك لم يكن من الغريب، في مدى هذا التشابه، أن يرد بعض النقاد الأمريكيون الإنجاز البنيوي الفرنسي إلى السياق الأنجلو أمريكي، على طريقة هذه «بضاعتنا رُدّت إلينا»، ومثال ذلك ما كتبه جيفري هارتمان تحت عنوان: «البنيوية: المغامرة الأنجلو أمريكية»، وذلك في العدد الخاص الذي أصدرته مجلة جامعة ييل «دراسات فرنسية» عن البنيوية سنة 1966، وكانت خلاصة مقال هارتمان أن العالم الأنجلو أمريكي ما كان يمكن أن ينتظر الفرنسيين ليكتشفوا له البنيوية التي هي جهد عالمي، أسهمت فيه العواصم المختلفة التي تجمع ما بين جنيف - سويسرا التي ينتسب إليها دي سوسير، ونيويورك وكمبريدج - ماساشوستش اللتين عمل فيهما، ياكوبسون. ومضى هارتمان في تعداد ما رآه أصولاً للبنيوية في التقاليد الأنجلو أمريكية بوجه خاص، ساعيًا إلى ما يمكن أن نطلق عليه نزعة «أمركة» البنيوية.

ولم تكن دلالة مثل هذه الدراسة بعيدة عن التأثير الطاغي للبنيوية التي توقع لها هارتمان أنها ستصبح حركة الزمن الآتي في الدراسات النقدية، وأنها سوف تخلف تأثيرًا أصيلاً ودائمًا، وسواء قبلنا أطروحة هارتمان أو لم نقبلها، في سياقاتها الدالة التي كانت لها امتداداتها، فإن البنيوية الفرنسية تحولت إلى حضور طاغ في الحياة الثقافية الأمريكية، ووصلت إلى ذروة صعودها الذي لا يمكن أن يتبعه سوى انحدارها، مع سنة 1977 على طريقة: «لكل شيء إذا ما تم نقصان». وأنا أستخدم صفة الذروة عامدًا، في هذا السياق، ذلك لأنه منذ أوائل السبعينيات، كانت الحركة الفرنسية المضادة للبنيوية في رأي البعض، أو المتطورة عنها في رأي البعض الآخر، أخذت في التشكل، وتظهر آثارها مع تحول كتابات رولان بارت نفسه، وتخليه عن فكرة النسق التي فرضت نفسها عليه إلى سنة 1967 - حين أصدر: «نسق الموضة» - فبدأ انجذابه إلى مراح الدوال المتمردة على الأنساق المغلقة، ابتداء من سنة 1970 التي أصدر فيها «إمبراطورية العلامات» و«صاد وفورييه ولويولا» و«S/Z» ومنها إلى «لذة النص» سنة 1973 و«بارت عن بارت» سنة 1975، وهي كتب يتدرج فيها منظور التفكيك الذي كان جاك دريدا (1930 - 2004) قطب فلسفته الأكبر.

وكان دريدا قد أصدر بالفرنسية إلى ذلك الوقت، سنة 1977، أهم كتبه المتلاحقة: «إدموند هوسرل وأصل الهندسة» (1967) و«عن الكتابة» (1967) و«الكتابة والاختلاف» (1967) و«أساليب نيتشه» (1972) و«انتثار» (1972) و«أوضاع» (1972) و«هوامش الفلسفة» (1972) و«جلاس» (1974). وكان حضوره الأول اللافت، في الولايات المتحدة، في المؤتمر الذي أقامته جامعة جونز هوبكنز سنة 1966، حيث تحول، بعد انتهاء المؤتمر، إلى أهم شخصية مؤثرة، في اتجاه التمرد على النموذج البنيوي الذي بدأ أنصاره يتخلون عنه، وقد حدث ذلك في المسار الصاعد الذي أحدثت فيه الترجمات الإنجليزية لكتب دريدا تأثيرها، ابتداء من «علم الكتابة» (جراماتولوجي) الذي ترجمته جاياتري سبيفاك إلى الإنجليزية، وقد ترجمته إلى العربية منى طلبة وأنور مغيث، ونشره المشروع القومي للترجمة العام الماضي، 2006.

وأضف إلى ذلك كتابه «الكتابة والاختلاف» الذي ترجمه آلان باس إلى الإنجليزية في عام 1976.

من البنيوية إلى التفكيك

وكانت ترجمة سبيفاك كتاب «الجراماتولوجي» مع تقديمه بدراسة مسهبة سنة 1974، وصدور طبعته الثانية سنة 1976، بشارة مختلفة، تنقض البنيوية من منظور فلسفة التفكيك أو النقض بلا فارق كبير، ولم أكن أعرف - في ذلك الوقت - أن جاك دريدا أخذ يحل ضيفًا على جامعة ييل، وأن عددًا من النقاد الأمريكيين تحلقوا حوله، وتشكلت منهم «جماعة ييل» التي تحمست للتفكيك وتبنته في دراساتها التطبيقية. وكان أبرزهم بول دي مان (1919 - 1983) الذي أصدر «العمى والبصيرة» سنة 1971، وهارولد بلوم الذي أصدر كتابه عن توماس هاردي سنة 1970، وجيفري هارتمان الذي كان من أوائل الذين وضعوا «البنيوية الفرنسية» موضع المساءلة في الولايات المتحدة، خصوصًا في مقاله الذي ردّها إلى تقاليد أنجلو أمريكية سابقة، وقد ظهرت تحيزاته التفكيكية في كتابه «ما وراء الشكلية» (1970) و«قدر القراءة» (1975). وأضيف إلى هولاء ج.هيللز ميللر الذي أكمل «جماعة ييل» الذين حاولوا الاندفاع مع موجة التفكيك الأمريكية التي أسهموا في صنعها، وذلك في سياق تسويق دريدا الذي تحول إلى صناعة أمريكية بفضلهم، بمعنى أن شهرته الأمريكية أسهمت في تقديمه إلى العالم الأنجلو أمريكي أولاً، والعالم كله ثانيًا، وجعلت له أتباعًا وحواريين في كل مكان.

ولم أكتشف إلا فيما بعد أن سنة 1966 كانت بداية الانتقال من البنيوية إلى التفكيك، وفي الوقت نفسه إفساح الطريق لتيارات موازية أو معارضة لتأخذ موضعها الذي تستحقه في تحولات مشهد النقد الأدبي الأمريكي. وأن المسافة الفاصلة بين ربيع 1958 (مؤتمر جامعة إنديانا الذي كان ياكوبسون نجمه بلا منازع) وأكتوبر 1966 (مؤتمر جامعة جونز هوبكنز الذي كان دريدا نجمه المقابل) هي المسافة الزمنية التي استمر بعدها صعود المدّ البنيوي الأمريكي بقوة الدفع الذاتي التي أوصلته إلى ما رأيته عليه سنة 1977، والفارق بين التاريخين الأول والثاني، كما قلت منذ قليل، هو الفارق بين هيمنة النموذج اللغوي على النقد الأدبي وهيمنة النموذج الفلسفي، في المدى الذي شهد تعددًا نقديًا لافتًا بين اتجاهات لم تخلُ علاقاتها من الصراع. هكذا، وجدت نفسي في مواجهة البنيوية اللغوية الشكلية من ناحية، والبنيوية التوليدية من ناحية مقابلة، وبين بقايا «النقد الجديد» الآفل، مقابل التفكيك الصاعد، وبين ذلك كله ونقاد اليسار الأمريكي الليبرالي الذين تأثر بهم إدوارد سعيد، واحتفوا به، وبالطبع، كان تركيزي في القراءة على البنيويتين المتصارعتين اللتين ظلتا في صدارة الاهتمام في حوارات الزملاء وقراءات الطلاب في جامعة وسكنسن، وذلك في الوقت الذي باعدت عمليات الاستقبال التي أصبحت طرفًا فيها ما بيني والكتب المغايرة إلى خارج المركز، وذلك بما لم يلفت انتباهي الكافي إليها في فعل الإدراك. ولذلك، لم أتعمق بالقدر الكافي فيما ظل خارج الجدال البنيوي، وإن كنت أتابع وأحاول الإفادة والتعلم - في حرصي على استكمال تفاصيل المشهد - من التيارات والمجالات المعرفية اللازمة التي شعرت بحاجتي إليها في استكمال ما فاتني في القاهرة، أما داخل الدائرة المركزية التي يتنازعها القطبان المتعارضان من البنيوية اللغوية الشكلية والبنيوية التوليدية، فقد حاولت التوسط، أو الجمع على الأقل، بين كتابات تودورف ورولان بارت من ناحية وكتابات لوسيان جولدمان ونظرائه، أو أقرانه، في النقد الأدبي الماركسي من ناحية مقابلة، ولكن المشهد لم يكن مقصورًا على هذه التعارضات التي لم يكتمل إدراكي لتناقضها إلا في مرحلة لاحقة.

 

جابر عصفور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات