ذات سماء بعيدة

ذات سماء بعيدة

بيدين خاليتين من «الثآليل» ونفس طريقة المشي التي نزلت بها «نبع الملح» قبل خمسة عشر عاماً، عند الظهيرة، يوم الثلاثاء، عقب زخةٍ واهية من المطر، وصلت البلدة من الجهة الجنوبية التي فرت منها بصحبة عاشق لا ينتمي لملتها. فحزمت أمرها بعد طول تردد وقررت العودة إلى حيث سيكون قتلها المعلن على أكمل وجه.

أقفرت الشوارع، سحبت النسوة أطفالهن إلى داخل البيوت، صعد الكبار إلى أسطحة المنازل، ولف الانتظار والترقب فضاء المكان.

كم هي جريئة؟ رددت إحدى النسوة:

هذه وقاحة وليست جرأة، ردت جارتها:

سبحان الذي خلقها صارت أكثر جمالا

مزمار الحي لا يطرب...؟ ونفخ سيجارته مسمرا عيناه على جسدها

اجتازت دروب القرية باتجاه دار أهلها القديمة، الدار التي أضحت خرابا بعد أن هجرها أخوتها ليستقروا على تخوم البلدة معزولين مع عارهم.

يقولون: إنه رماها مثل الكلبة بعد ما شبع منها....

الله يستر علينا؟

حرام عليهم..

يحرم جلدها عن عضمها...

تجمَّعَ أخوتها في منزل أكبرهم؟

- ردد أكبرهم لاهثا

- وصلتْ.....؟

لم يرد أي منهم، لكنهم جميعا شرعوا بشحذ وسن ِّ أمواس الحلاقة والسكاكين،.. بهدوء يعبق برائحة الدم، الدم وحده ما يحتاجونه الآن لتطهير جرح الشرف. ثلاث سنوات من العار اليومي، لم يستقبلوا ضيفا، لم يُرفع لهم صوت،لم يُدع َ أحدهم لمجلس، ثلاث سنوات ونيف من ازدراد المهانة اليومية وتنكيس الرأس، كانوا مخترقين في الصميم معرضين لذل لا ينجلي إلا بالدم، ومما زاد الأمور سوءًا احتقارهم للرجل الذي فرت معه، فهو من غير ملّتهم، يعمل مهرجاً بائسا بوجه ٍأقرب للأنوثة، استطاع أن يغرر بهم ويجعلهم يرخون أبوازهم إعجابا بمواهبه التافهة ويخطف أختهم الوحيدة ويرميهم بالعزلة القاهرة.

حلفوا- بعد انتشار خبر فرارها بصحبة «خرندعي» - ألا توقد لهم نار ٌ، أو ينزل عندهم ضيف، لا يكون لهم رأي، ولا تحلق لأحدهم لحية حتى تجزُّ رقبتها.

قسمٌ مرعب، انضووا تحته بعناد مكابر، قسمٌ هائل جعل بعض عقلاء البلد، يرجونهم مرة بعد مرة أن يخففوا من غلوائه دون جدوى.

فاستمرت حياتهم طوال السنوات الثلاث الماضية تزداد عزلة، ولحاهم بالاستطالة حتى غدت أيامهم وأشكالهم متشابهة لدرجة الرثاء.

لم يترك زوجها وسيلة لثنيها عن قرارها القاتل بالعودة، بالودِّ والتوسل، بالتهديد والوعيد، كانت كل المحاولات تنتهي إلى جملة واحدة تقولها بكل هدوء وثقة:

- لازم أرجع

يحار يضرب رأسه في الحيط، ينشج، يشلخ ثيابه، يرتمي متوسلا تحت قدميها...

- لازم أرجع..

يهزها من كتفيها يضغط على يديها تنغرز أظفاره في جلدها...

- لازم أرجع...

- طيب خذيني على «قدْ عقلي»...وأعطيني سببًا.

- لازم أرجع....

ما لم تستطع شرحه للرجل الذي أحبها بجنون، إنها تريد إعطاءه فرصة ليحيا دون خوف، وعزز قناعتها بقرارها القاتل اكتشافها لعجزها عن الإنجاب، ومن جهة أخرى كانت أخبار آلام أخوتها وعزلتهم تَصلها، فأضحت تُقتل كلَّ يوم ألف مرة، فلا مناص من العودة ليسترد الجميع سيرورة حياتهم.

حضنت زوجها، وبكت في تلك الليلة بحرقة لا مثيل لها، ومع الفجر غادرت البيت دون أن يشعر بها أحد، تركت الرجل الذي يتقن ابتكار الحكايات، والزغولة في القلوب الباردة، وعشر مهن عجيبة، الرجل الذي يصنع الدهشة من أدوات تافهة، يبيع المناديل المعطرة بالحظوظ، والأعشاب المغيرة للأحوال، ويعزف على العود، ويرتجل القصائد، ويفسر الأحلام، ويكتب وصفات للحب، ويطهو حلوى للعشق..

يوم التقت به أدركت أن قدرها خارج حدود السطوات، وأبعد مما تظن، ويوم قبَّلها على بيادر القش، قررت أن تجتاز معه الحدود الهشة بين النداهة الغامضة والسطوات القاتلة..

ففرت معه فجرا، ركضا حتى الطريق العام واستقلا جرارا زراعيا، وابتلعهما الوعر، حتى وصلا إلى «مطوخ الزعاترة» بسط لها عباءته فوق الأرض المبللة، اصطاد «ترغلتين» بمقلاع، وأضرم نارا هدأت ارتعاشها، قرَّبها من صدره فخلع عنها الثياب المبللة، والمخاوف المميتة، فتبدد الصمت الموحش بضجيج الجسدين المسترسلين في عناق صاخب.

انتهوا من ترتيب أدواتهم خرجوا باتجاه الدار القديمة، كانت تتقدم نحوهـــم بعد أن انتهت من زيارتها مشت واثقة جميلة، بكبرياء يعرفونه جيدا حتى غدت المسافة بينها وبينهم تسمح بأن يتأملوها بعمق،

أبطأوا الخطو، حتى توقفوا مشكلين نصف دائرة، تقدمت ووقفت كنقطة النون، أحاطوا بها، كانت لحاهم قد ظللت ملامحهم، لكنها عرفت كل واحد من عينيه..

صمت لزج، يقطعه صفير ريح باردة بدأت تهب من الشمال.

كان يود أن يقول لها «اشتقتلك»

فقال: بصوت حزين شارخ

«وِلِـك ليش»

لم تمطر السماء، غير أنها بدأت تتلبد بالغيوم دخل النصل ممزقا قميصها، مخمودا وسط الصدرالذي بات يعلو ويهبط بسرعة،ويخرج قشعريرة لبست الجسد المتهاوي، بعينيها الجاحظتين رأت الغيوم المتلبدة، وهي تنفك سريعا تصبح نتف ثلج (أوراقا مدرسية...رفاقا قدامى... أخوة يحملونها من يد إلى أخرى..... يضحكون على شقوها.... ينقلونها من كتف إلى كتف..... أب ٌ بعينين حنونتين.... أم بضحكة سماوية....... شجرة التوت في الدار القديمة.. أرانب الحقل....)

أفلت سكينه و تراجع ليسمح للخناجر الثلاثة أن تطعنها في الرقبة، والظهر وأعلى الخصر...

لمحت«نبع الملح» وهي تتهاوى غيرت الذاكرة مسارها السريع

(أشواك الشلافين...نبتة دم الغزال...عصارة القريص..لم تنفع الثآليل المتناثرة على باطن الكف... صوت شملكان وهو يوصيها.... خذي فص ملح... لا تكلمي أحدا لا تنظري للخلف.... لا تردي السلام حتى نبع الملح... ارمي الفصين في الماء ورددي........ أذب يا نبع ثآليل يدي كما يذاب الملح في الماء........ أذب يا نبع ثآليل يدي كما يذاب الملح في الماء.......)

طعنها السكين الخامس في الرغامة أسفل العنق ابتل ريقها بالملوحة، وجسدها باللزوجة ورأسها عجّ بالذكريات التي بدأت تكر كرا سريعا.

(غدير الصوف.... ليالي الهروب...جرس المدرسة... دروب البلدة.أصوات مشكاة اللبن. «قراءة الكتب الحكمة ومجروية القيامة....

...عيد الصليب.... اختفاء الثآليل.....البقرة التي سقطت بالجرف..... رحلات العكوب.....طعم ساندويش الشورما.......زيارة المقامات...وجه زوجها الحلو....

همست..

أذب يا نبع ثآليل يدي.

شج البطن من الخاصرة إلى الخاصرة، جثت على ركبتيها وانغرزت يداها في الوحل الحار عادت الذكريات:

(رائحة الورد صباح أربعة «البراقطة».. الركض المتواصل لقطف أكثر الورود نضارة..» الدحنون الأحمر قطاش الدجاج «الأقحوان... الحلندوق» النعناع البري...أكليل الجبل....لسان الثور..

تنقعها جميعا في إناء من فخار، وتضعه تحت نجوم ليلية ربيعة.. وفي صباح الأربعاء «تتبرقط» بماء الورد البارد...

ثلاثاء المذراة لا تكنس البيت في الثلاثاء الأول من نيسان، كي لا يغزوه النمل... حكايات قديمة... عرائس ومكائد.. تمائم وخطوط لتغير مسارات الأقدار..)

أذب يا نبع ثآليل يدي...

ركا ركبته على ظهرها شدها من شعرها تشنجت الرقبة وبحركة خاطفة فصل الرأس عن الجسد....

أخرجوا أمواس الحلاقة، بللوا وجوههم بدمها، وكشطوا أكداس الشعر فوق جثتها الهامدة، لم ينبسوا بحرف، وقفوا يتأملون المشهد، بينما السماء بدأت ترسل رذاذا خفيفا، شعروا بالخدر ينمّل وجوههم الحليقة، وأن ثقلا أزيل عنها، ثقلا يسري مع الدم ليستقر في مكان آخر داخل صدورهم، ثقل بدأ وكأنه يشبه صوتًا ما، لا يريد أي منهم أن يسمعه لكنهم أغمضوا عيونهم حابسين دموعا راحت تطفر غصبا عنهم، عندما هبت الريح لتذرو الشعر الذي يغطيها، فانسحبوا مسرعين، لتتلقاهم زغاريد النساء الملعلعة تحت زخات السماء المتلبدة تماما بالغيوم.

 

فادي عزام