«سمر كلمات» والمغامرة الروائية

«سمر كلمات» والمغامرة الروائية

في هذه الرواية تعانق سيرة النص، بشكل أو بآخر، سيرة الكاتب، وينتج عنها سيرة روائية وهي علامة من علامات الحداثة في الرواية العربية.

أعلنت الرواية الأولى لطالب الرفاعي (ظل الشمس - 1998) عن انتسابها بقوة إلى الحداثة الروائية العربية، وبخاصة بما غامرت به من التجريب. وإذا كانت رواية الرفاعي الثانية (رائحة البحر - 2002) قد أعقبت ذلك الإعلان بلحظة (ضرورية؟) للهدوء والتأمل، فقد مضى الكاتب في روايته الجديدة (سمر كلمات - 2006) أكبر طموحًا، ومكنة في مغامرته الإبداعية. وهذا ما يتبدى بقوة منذ العتبة الأولى للنص: العنوان - فمفردة (سمر) من العنوان هي اسم الشخصية، التي يبدو للوهلة الأولى، وللذائقة التقليدية، أن الرواية تتمحور حولها. غير أن شخصيات أخرى، منها الكاتب نفسه، ستنازع سمر التمحور، وتعرّي خديعة البطولة الروائية، فإذا بسؤال القراءة يتوحد بسؤال الكتابة، وإذا بالشخصية الروائية تنهض كائنًا كلاميًا - أو كائنًا ورقيا كما يؤثر آخرون القول - بقدر ما تتخلق جسدًا من لحم ودم. أما السر، فليس غير الروح التي تسري في هذا الجسد، وفي ذلك الكائن الكلامي (الورقي) فتوحدّهما. وهكذا تتفاعل مفردتا العنوان، ويخفق جناحاه، لينادي بطيرانه درّة التراث السردي العربي والإنساني (ألف ليلة وليلة) بعنوانها المجهول في طبعة كلكتا: «أسمار الليالي للعرب مما يتضمن الفكاهة ويورث الطرب»، سواء أقصد الكاتب ذلك أم لم يقصده. فالأسّ هو النداء / الطيران، هو لعب المخيلة والحكاية. ولعل لي أن أضيف هنا أن مثل هذا النداء / الطيران هو ما عنون روايتي (سمر الليالي - 2000).

السيرة النصية

في سيرورة الحداثة الروائية العربية، مما تقفّى السلف الغربي أو جدده، تواتر التجريب فيما أوثر تسميته بالسيرة النصية، مما يعني أن تفكر الرواية بذاتها، والانبناء (اللعب) أمام القارئ، وهو ما سمّته باتريس وو بـ «الميتارواية»، وسمّته ليندا هتشيون بـ«السردية النرسيسية»:

فمنذ الفصل الأول الذي ترويه سمر، تتحدث عن طالب الذي يعارض آراء صديقها سليمان، ويرى أن «المرأة مستباحة في مجتمعاتنا لمجرد كونها امرأة»، معارضًا - كسمر - ما يذهب إليه سليمان من أن الإنسان يصنع ظرفه وحياته. وتتحدث سمر أيضًا عن أنها أخبرت طالب بأن إحدى صديقاتها تريد الزواج من طليق أختها، فيعارض هذه العلاقة، وما كانت سمر تعني إلا نفسها كما سنرى. وحين نتساءل عن علاقة طالب بريم، يجيبها سليمان: «دعيه وأسراره وتكتّمه»، سنقرأ ونعرف كل شيء لاحقًا». فسليمان يعلم أن صديقه منذ الدراسة الثانوية يكتب رواية، ويؤكد لسمر أن صديقتها ريم ستكون إحدى بطلات هذه الرواية. وكان طالب قد أعلن لصديقه أنه سيكتب يومًا قصته وسمر، فاشترط سليمان أن يقول طالب الحقيقة كاملة. ولكن أي حقيقة هذه؟ الحقيقة السيرية أم الحقيقة الفنية؟

في تعقيب طالب على ما اشترطه سليمان، يعلن المسافة بين السيرة والرواية، بين الوقائعي والمتخيل، إذ يقول: «للفن حقيقته الخاصة». وستظل الرواية تلعب لعبة الطيران بين طرفي هذه الثنائية، ليميل جناح حينًا إلى طرف، ويرمح جناح حينًا بطرف. فهاهو طالب يكشف لسمر أنها ستكون بطلة الرواية، وسيكون لها وحدها ثلاثة فصول، وسيكون اسمها الروائي سمر. وهاهي سمر تتساءل عمّا سيكتبه طالب: «رجل أرمل وامرأة مطلقة عاشا سنوات من العشرة والحياة. ذرتا رمل تجاورتا في هذا الكون الشاسع. كم في هذا العالم من قصص تشبه قصتنا؟».

إذا كان الفصل الأول الذي تولّته سمر قد أعلن عن ابتداء لعبة الميتارواية (أو لعبة السيرة النصية أو لعبة السيرة الروائية)، فاللعبة ستنشط في الفصل الثاني الذي يتولاه الكاتب. ومن ذلك أنه في مرحلة التخطيط والإعداد للرواية، حدد الحكاية الرئيسة، ورسم الشخصيات الأساسية: سمر وسليمان وجاسم وعبير ودلال، فأعدّ ورقة بملامح ودور كل منها «لكن شيئًا ما ظلّ يشوّش عليّ كلما جلست للكتابة».

تلك هي لحظة المخاض، التي يعانيها المبدعون والمبدعات، والتي تتجلى خوفًا وقلقًا يلازمان طالب - كما نقرأ - في بداية كل كتابة جديدة. لكن اللحظة تتجدد مادام الكاتب يكتب. وهاهو طالب نفسه يكابد ذلك حين شرع بكتابة الفصل الأول من روايته، وسمع سمر تذكر صديقتها ريم: «شخصية لم أكن قد خططت من قبل لها، شخصية جديدة راحت تتخلق أمامي».

ليس من مخطط ناجز لرواية. فالكتابة تجعل المخطط الأول ثانيًا فخامسًا، أو ثالثًا أو عاشرًا، وهي لا تفتأ تحذف وتضيف وتعدّل. لذلك يستنطق طالب سمر عن ريم، وتشغله هذه القارئة المحترفة بالإنجليزية، المتزوجة والأم لثلاثة أطفال، المتحدرة من أسرة ثرية لأم إنجليزية وأب كويتي، والتي ستتردد سمر طويلاً في أن تصلها بطالب، حتى إذا أعارتها رواية له، وأعجبت المرأة بالرواية، شلّ التفكير فيها هذا الكاتب عن كتابة أي مشهد في الرواية الجديدة. لقد عصفت به الفكرة، التي رأفت له في البداية: «كاتب روائي يعجب بإحدى شخصيات روايته ويسعى للارتباط بها».

إنها لعبة العلاقة بين الكاتب وإحدى شخصيات روايته، لعبة العلاقة بين المبدع وكائن ممن أبدع. وهي العلاقة التي تتأسس في نرسيس، ولذلك سمّت ليندا هتشيون اللعبة في الرواية بالسردية النرسيسية. ولأن من كتب (سمر كلمات) يعني ذلك وهو يكتب روايته، فهو يعاود قراءة أعمال أرنستو ساباتو كي لينظر في علاقته بأبطال رواياته. وقد يكون قرأ أيضًا علاقة حليم بركات أو غالب هلسا أو خليل النعيمي بأبطال رواياتهم، وقد لا يكون، فالمهم أنه مسكون بهذه العلاقة، كما يعبر لسمر حين تسأله في الفصل عما يريده من ريم، وعن علاقتها بالرواية التي يكتبها. وسمر تقرأ مسودات ما يكتبه طالب، وتعرف أن ريم شخصية روائية. لكنها تخشى أن تعتبر الرواية سيرة ذاتية، فالكويت صغيرة، وبالتالي ستكون فضيحة لكأن الكاتب كان يرى رأي العين ما سيلي بعد صدور (سمر كلمات)!

يتولى الكاتب أيضًا الفصل السادس، فيكون للعبة السيرة النصية مسرحها الأكبر مما لها في الفصول، التي تتولاها شخصيات أخرى. وهنا تروح اللعبة تتركّز في شخصية ريم. فالكاتب الذي يكرر أنه رسم مخططًا للأحداث الرئيسة في الرواية، تقلقه ريم، فيتساءل: «هل سعيي المحموم وراء ريم سيفسد علاقتي ببطلة روايتي، وهل سينعكس ذلك على سير الرواية؟». وحين ترفض سمر مساعدته للوصول إلى ريم فيتساءل: «هل أضحي برواية في سبيل علاقة مخبأة في ظهر الغيب؟».

كما يتفاقم التوتر ويفجّر الأسئلة: «أي كتابة هذه التي تجرّ صاحبها لهلاكه؟ - «ماذا تخبئ لي قصة أستشعر دبيبها يعشش فوق رأسي؟. والكاتب سبق له أن كتب عن نساء كثيرات، لكنها المرة الأولى، التي يتعلق فيها بإحدى شخصياته، أي يقيم معها علاقة. ولئن كانت سمر تسير وفق ما شاء لها، سواء بعلاقتها مع زوج أختها جاسم أو مع صديقها سليمان، فقد بات يخشى أن تتمرد عليه مثل ريم. وينقلب به ذلك كله أي منقلب، فنراه يقرر أن يكمل الليلة الفصل الذي يخصّ ريم، فتعانده الكتابة، فيتفجر: «أنا من اخترع ريم على لسان سمر، وأنا من سيمحوها... لن يكون لسمر صديقة اسمها ريم، ولن تكون ريم. أخترع شخصية أخرى، وأنهي الأمر».

لكأن ريم تنبثق من بين السطور، وتبتسم مشفقة ومتحدية. ففي صراع من يكتب مع الشخصية الروائية، ليس لها إلا أن تنتصر، وليس له إلا أن يستسلم، إلا إذا كانت ستحيا في الرواية كسيحة ومتخشبة، بينما يُعجز استبداد الكاتب بالشخصية عن الإبداع.

لقد انتصرت ريم، فانتصرت الرواية، لتغدو هزيمة الكاتب أمام الشخصية الروائية انتصارًا. وجاء إنجاز ذلك بسرية الكتابة ابتداء من الفصل السادس، حيث تكشف ريم أنها كانت تحلم طوال عمرها بكتابة رواية، فيدعوها طالب إلى أن يكتبا معًا، وهذا هو جوهر دعوته لها إلى العلاقة منذ اللقاء الأول، حين بدا مستباحًا بأفكار كثيرة ومتعثرًا، ورأى روايته حتى اللحظة مجرد حكاية وشخصيات.

تسأل ريم الكاتب عمن اختار أسماء الشخصيات، فيخبرها أنه هو من سمّى، ماعدا اسم سليمان، إذ اختارته فرح ابنة الكاتب الذي يتابع أنه تخيل مكانًا افتراضيًا مناسبًا لشقة سليمان في منطقة (بنيد القار)، وأن زمن أحداث الرواية هو عشرون دقيقة تقريبًا، وأن فصول الرواية تدور متزامنة - في الغالب - في طرقات الكويت. وبتواتر لقاءات طالب وريم صباحًا في «الماكدونالدز»، يخططان معًا لتفاصيل المشاهد، ويشرع هو بالكتابة فرحًا بوجودها إلى جانبه، بينما تتابع هي نهوض الكتابة، واكتناز جوانبها بالحكاية غير أن الكاتب سرعان ما ينقص ما قد يكون تحقق من الاقتناع بوقائعية ما تقدم، أو بصدق السيرة فيه. فعلى أهبة اللقاء الحاسم الذي خططت له ريم لتقضي ليلة بطولها مع عاشقها، يعاوده القلق ويتساءل «ولكن ماذا لو وصلت ولم أجد أحدًا؟»، ثم يقرّ بأنه تعرف على ريم بين السطور، وبين السطور عرفته، فهل «كان جميع ما دار - تخطيطًا ورسمًا وحلمًا في رأسي؟ أم كان فصلاً من رواية؟». وسيكون إذن لريم أن تتساءل في الفصل التاسع عمن هو طالب الرفاعي الحقيقي: هذا الذي تعرفه أم ذاك الذي تقرأ له؟ ومن منهما صديقها؟ بل إن ريم تتساءل عمّا إن كان في عالمها شخص حقيقي اسمه طالب، وبالتالي: هل يكون كل ما عاشته مع طالب من نسجها على هامش قراءاتها لكاتب استمالتها عوالمه؟

هذا، ومع اقتراب الرواية من نهايتها، يلحّ الكاتب على أن يجلو اللعبة، فيسأل ريم عمّا إن كانت تمانع في أن تكون إحدى شخصيات الرواية، فتحمل اسمها نفسه، وتكون صديقة لسمر، وإذ تجيب ريم أنها لم تعرف يومًا فتاة اسمها سمر، ولا صداقات لها مع نساء كويتيات، يخاطبها: «أنت تتكلمين عن واقعك الحياتي، وأنا أتكلم عن واقع الرواية»، وينفي أن تكون له صلة بحياتها الواقعية، ويقرر أنه سيرسمها على الورقة شخصية أخرى... فأين هو الواقعي، وأين هو المتخيّل؟ أين هو السيري، وأين هو اللعب؟ أين هي الحقيقة الفنية؟

السيرة الروائية

يتضاعف إنجاز الرواية للجواب على تلك التساؤلات ما تسوقه الرواية من سيرة كاتبها. وأول ذلك أن سمر تزوره في مكتبه الصغير في جريدة الفنون، حيث يعمل طالب الرفاعي كما هو معروف. لكن الأهم ما سيلي في الفصل الثاني، حيث تظهر زوجة الكاتب (شروق) تحوم كعادتها حول زوجها الذي ينشد التفرغ «الرواية تحتاج إلى تفرّغ»، ويمضّه الجمع بين الوظيفة الحكومية والكتابة. وفيما يحدّث به الكاتب زوجته، يصف مكابدته لكتابة روايته الجديدة، ولعسر البداية دومًا، كما يحدّثها عن شخصيات الرواية، وعلاقته بكل منها: «عليّ أن أتخيل الأبطال بصورهم وأصواتهم ونظراتهم وحتى روائحهم، ومن ثم عليّ أن أصادقهم، أعيش معهم في الأمكنة، التي تجري فيها أحداث الرواية، وأحيا لحظاتهم بكل أوجاعها». ويردف الكاتب أنه منذ البداية يبحر مع الشخصيات على سفينة الرواية، ويصير واحدًا منها: «نلتقي ونتحدث ونصغي لبعضنا البعض، ونختلف، وقد يموت أحدنا فنحزن عليه ونبكي، وقد نحتفل بعيد ميلاد آخر ونرقص». وقد يتساءل امرؤ عما إن كان بعض ذلك أو كله من قبيل المكر الذي يداور السيري. لكن طالب الرفاعي يبدو غير آبه وهو يقبل على «تجربة جديدة» مع ريم، وحسبه أن يتساءل عمّا إن كان بحاجة إلى علاقة إنسانية جديدة. وسوف يتساءل بحرقة أكبر في الفصل السادس عمّا تقدمه علاقة ثانية لرجل متزوج، بينما تنبت بين الأسطر قصة حب لرجل يبدو مستقرًا في بيته، ومع زوجته وأولاده. ولا يفوت الكاتب أن يصل ذلك بالسؤال عن اختلاف الجنسين، وعن السر الدفين في حمى التجاسد مع الآخر. لكن الأهم هو أن الكاتب يخبر زوجته بعلاقته مع إحدى بطلات روايته الجديدة، فتقول: «فكرة فنتازية، اكتب، وبعد القراءة، سأخبرك برأيي». وهكذا تنقض شروق الصورة التي روّجها كتّاب كثيرون عن زوجاتهم كغيورات ومنغّصات، بالأحرى كمعوقات للإبداع الذكوري العتيد. أما صورة شروق المشرقة، فتعزز بما يبدو أنه ينقضها أو يخلخلها، في الفصل الخامس الذي تتولاه صديقتها عبير. فشروق تشكو لصديقتها ضيقها بما يحل بطبع طالب حين يبدأ بكتابة رواية جديدة، وتعلن أن الرجل لا يهمه شيء، وأنه لا يفكر إلا في نفسه ومتعته. كما تحدث شروق صديقتها بإعجاب طالب بإحدى شخصيات روايته الجديدة، ودخوله بـ «علاقة روائية» معها. وبينما تفصّل في اقتران بطلة الرواية سمر بزوج أختها السابق، تبدو غفلة عبير عن ذلك غير مقنعة، وتبدو استعادتها للغفلة غير مقنعة أيضًا، فعبير هي شقيقة سمر!!

يبدو حضور شروق تجسيدًا أكبر للسيري في الرواية، لكنه ليس الوحيد، فالمكان يفجر ذكريات الكاتب، ومنها أجمل سنوات الطفولة، التي عاشها في منطقة الشرق، ومسجد المناعي حيث كان والده يصلي، ومبنى سكن الممرضات الذي دارت خلفه أحداث إحدى المجموعات القصصية لإسماعيل فهد إسماعيل، ومطعم فودركرز الذي يذكّر طالب بهاني الراهب: «في هذا المطعم كتب روايته (رسمت خطاً في الرمال). كان متأكدًا أنها ستصنع مجده كروائي ولكنها لم...». وبالطبع ثمة من يختلفون مع هذا الرأي، وأنا منهم، ولكن الأهم هنا هو الصدق السيري الذي لا يتعزز فقط بالجهير والمعلن، بل بالمضمر أيضًا، ابتداء بصورة طالب كشخصية روائية يتسلل متنكرًا من بيته إلى موعد ريم، وليس انتهاء بالامتلاك الذكوري للمرأة كما يصوغه هذا السؤال في الطريق إلى موعد ريم: «كيف الوصول والاستحواذ على امرأة يمتلكها رجل آخر؟».

لعبة الزمان والمكان

تبدأ رواية (سمر كلمات) بهذه العبارة: «الحادية عشرة وخمس دقائق»، ثم تتوالى بدايات الفصول، فعبارة «الساعة جاوزت الحادية عشرة بقليل»، يبدأ الفصل الثاني والخامس والثامن والتاسع. وبعبارة «الحادية عشرة وعشر دقائق» يبدأ الفصل الثالث والفصل السابع. أما الفصول الأخرى، فتوقيت البداية فيها هو الحادية عشرة وثلاث عشرة دقيقة للفصل الرابع، والحادية عشرة وأربع عشرة دقيقة للفصل السادس، والحادية عشرة وعشرون دقيقة للفصل العاشر والأخير. والتحديد الصارم للزمن، يبدأ إذن سبعة فصول، مقابل ثلاثة تنيط التحديد بكلمة (جاوزت)، وقد تقدمت على تحديد الزمن هذه العبارة في الفصل السادس وحده. «الإشارة الضوئية تتحول إلى اللون الأحمر»، كما ختمت بعض الفصول، وكما توالت في بطون الفصول مع تبديل اللون بين الأصفر والأخضر والأحمر، لتغدو إشارات المرور الضوئية مكانًا وزمانًا في آن، وليكون هذا (الزمكان) الإيقاع الأكبر للرواية، يفتح الفصول وينظم الحركات.

عشرون دقيقة هو إذن الزمن الروائي الذي يطوي في طياته حيوات الشخصيات وسنيّ الأحداث. وفي هذا التحديد والتنظيم يتابع طالب الرفاعي تلك اللعبة الروائية، التي تعاورها تاريخ الرواية في مواجهتها لتحدي الزمن. فمن رواية كان زمنها يومًا إلى أخرى كان زمنها ساعات. وحسبي أن أذكر هنا بالعنوان الفرعي لرواية حنا مينه (فوق الجبل تحت الثلج - 1990) وهو: «رواية الدقائق الأولى من عام 1990».

في دقائق (سمر كلمات) العشرين رسمت الرواية الفضاء الكويتي بشوارعه وبيوته وأحيائه ومطاعمه ومعالمه الكبرى القائمة والدالة، لكأن الرواية رواية (مكان) بامتياز. وإذا كان كل فصل يتعلق بشخصية بعينها وهي تتقرى دقائقها الروائية ومكانها الروائي والحدثين المركزيين (زواج سمر من طليق أختها وكتابة طالب للرواية). فقد انبنت الفصول جميعًا على ما يحفره المكان في الذاكرة، مما جعل الرواية تتوسل الاسترجاع غالبًا، وعبره تُضاء الشخصيات الأخرى، وتستكمل أحداث أو تجدّ.

الأصوات والسيرة المجتمعية

جوابًا على سؤال ريم للكاتب عن موضوع روايته المزمعة، يقول إنه «العلاقة بين الرجل والمرأة. رواية أصوات». وقد سبق أن رأينا كيف تتولى هذه الشخصية أو تلك هذا الفصل أو ذاك، فكانت الحصيلة أن فازت سمر بثلاثة فصول (الأول والرابع والعاشر) كما وعدها طالب، وفاز هو بفصلين (الثاني والسادس)، وفي الفصل الخامس لعبير، والثالث لجاسم، السابع لدلال، والتاسع لريم، والثامن لسليمان.

بلعبة الأصوات تؤكد (سمر كلمات) نسبها الحداثي، على الرغم من حضور الكاتب نفسه، بخلاف ما تتطلبه رواية الأصوات من اختفاء كلمة المؤلف وكلمة الراوي لصالح الحوار الداخلي والخارجي. ولعل ما نصر (سمر كلمات) في مواجهة هذا التحدي قد كان باعتمادها على الحوار بما يتطلبه من الفروق الفرعية، ومن التعددية اللغوية، وليس كوسيلة لمسرحة الأحداث أو لإخفاء الروائي.

لقد ربط بعض النقاد - مثل سعيد يقطين ويمنى العيد على خطا باختين - بين رواية الأصوات، وما تعنيه من تطور وجهة النظر وتعدد البؤر والرؤى السردية، وبين الوضعية الحضارية والسياسية. وثمة من ذهب إلى أن الراوي المتسيّد والعليم يرادف الديكتاتورية، التي تعني الصوت الواحد، وتنفي تعدد الأصوات. لكن رواية الأصوات تنقض ذلك، منذ دستويفسكي في العهد القيصري الروسي إلى التجربة الحداثية الروائية العربية، ابتداء برواية نجيب محفوظ (ميرامار - 1967) فرواية جبرا إبراهيم جبرا (السفينة - 1970) فروايتي (ثلج الصيف 1973) ومن بعد روايات يوسف القعيد (يحدث في مصر الآن) وخيري شلبي (السنيورة) وفتحي غانم (الرجل الذي فقد ظله)... وصولاً إلى رواية علوية صبح (دنيا) العام 2006.

في رواية الأصوات تتوزع الشخصيات سردية الحدث المركزي أو الأحداث المركزية، وهذا ما تحقق في (سمر كلمات) بامتياز: من زواج سمر الأول وطلاقها إلى علاقتها بسليمان، إلى انتهاء زواج عبير وجاسم بالطلاق، إلى زواج سمر من جاسم. وكذلك كان الأمر بصدد كتابة طالب للرواية. وبتفاعل هذه الأصوات كتبت الرواية شطرًا من سيرة مجتمعها. فالجدة تشرح لسمر أن البيسري هو من يعمل في أي حرفة، بخلاف شقيقه الأصيل الذي لا يعمل أجيرًا حتى عند أهله. وقد ماتت الجدة بعد شهرين من زواج سمر من البيسري وليد، كأنما ماتت وفاء لهذا التمايز الذي انتصرت عليه سمر، ليس فقط بعنادها، بل بما لذوي وليد من جاه ومال. وهذا هو زوج ألطاف الأجمل بين شقيقاتها، يحرجه زواج سمر من البيسري، وهو الذي عاد من أمريكا بعد إكمال دراسته العليا بلحية سوداء، وعادت ألطاف معه بحجاب أسود يمتص نضارتها، وبعد سنوات من عملها جعلها تتركه، واستولى على معاشها التقاعدي. وسوف تتابع الرواية هذا الشطر من السيرة المجتمعية عبر شخصية سهى بنت عبير وجاسم. فالأم تخاف على ابنتها من الدروس التي تذهب إليها مع البنات إلى الجمعية.

بينما يسر جاسم بتحجب ابنته، ومثله زوج ألطاف، يُغضب عبير أن ابنتها لم تستأذنها في التحجب، بينما تتمنى البنت أن ترى الحجاب يستر أمها وأخواتها. لكن عبير تردع البنت عن التدخل في شئونها وبناتها، وتعلل الأمر بإهمال جاسم. وقد عرّت الرواية عبر علاقة جاسم وعبير عورات المؤسسة الزوجية التي لا توفّر أستاذة جامعية ولا ضابطًا كبيرًا مثلهما. وفي هذه التعرية الروائية للمجتمع تندغم التعرية النفسية لعطب علاقة الشقيقتين سمر وعبير، أو لنكوص جاسم عن تحرره، أو لما جرّه إخلال عبير بالتوازن بين متطلبات عملها وبين حياتها الشخصية. وسوف توالي الرواية هذه التعرية النفسية لشخصية سليمان، فيما أورثه انتحار زوجته أو في مرضها النفسي، وكذلك في علاقته بوالدته وهو وحيدها وبسمر، إذ يتنبه أخيرًا إلى أن سمر تشبه أمه في قصرها وسمرتها «وربما شيء من طبيعتها». وفي هذه اليقظة المتأخرة يريد سليمان سمر زوجة له، ولكن بعد فوات الأوان، فحق فيه تشخيص طالب لاستغلال حب سمر ولضغفها.

***

منذ روايته الأولى (ظل الشمس)، بدا جليًا كم هو ملحّ على الكاتب أن يلعب لعبة حضوره الصريح في الرواية، وهذا ما مضت به المغامرة أبعد في (سمر كلمات)، التي لعبت لعبة السيرة و / أو لعبة الأصوات، فتطابق فيها السارد والكاتب، أو كان الكاتب فيها صوتًا من أصوات. ومن اللافت أن الأصوات الجديدة في الرواية العربية تلحّ منذ عقد ونيّف على هذه التجربة التي بكّرت إليها منذ ربع قرن رواية عبدالحكيم قاسم (محاولة للخروج) وروايتي (المسلّة)، وكان فيها لأغلب ما كتبه غالب هلسا ومحمد شكري، تميّزه وامتيازه، مثلما كان لروايات (طائر الحوم) لحليم بركات و(الخلعاء) لخليل النعيمي و(الخشخاش) لسميحة خريس وسواها كثير. وقد يكون بقي في (سمر كلمات) ما ينغّص عليها، كالخطأ في اسم عبير مرة، وصوابه سمر (ص73) أو الخطأ في اسم سمر مرة، وصوابه دانة (ص213). لكن ذلك هيّن واستدراكه يسير في طبعة قادمة. أما الأهم فهو ما أنجزته هذه الرواية وهي تكتب فصلها من السيرة الاجتماعية كما تكتب سيرتها الفنية، فأي قراءة ستنسى من بعد عبير وسليمان ودانة؟ بل أي قراءة ستنسى من بعد سمر وريم وشروق و.. وطالب الرفاعي الشخصية الروائية، ثانيًا، والروائي أولاً وأخيرًا!.

ياحبيباً زرتُ يوماً أيكَهُ طائرَ الشوق أغنى ألمي
لك إبطاءُ الدلالِ المنعمِ وتجني القادرِ المحتكمِ
وحنيني لك يكويْ أعظمي والثواني جمرات في دمي
وأنا مرتقبٌ في موضعي مرهفُ السمعِ لوقعِ القدمِ


إبراهيم ناجي

 

نبيل سليمان 




طالب الرفاعي