الوضع الإنساني في عصر التكنولوجيا د. أحمد أبو زيد

الوضع الإنساني في عصر التكنولوجيا د. أحمد أبو زيد

العالم يتغير، والتكنولوجيا تتقدم. ولكن هل حدث تغيّر في ماهية الإنسان ومقوماته الأساسية؟ هل أعطته ما يطمح إليه؟ أم زرعت في نفسه الريبة ونزعت منه اليقين؟

أفلح المجتمع الإنساني في تحقيق طفرات واسعة جداً في السنوات الأخيرة في مجال التقدم التكنولوجي، مما ساعد على تغيير بل وإعادة تشكيل كثير من مظاهر الحياة على سطح الأرض، وإحداث تحولات سريعة ومفاجئة قد يترتب عليها اختفاء بعض المظاهر المألوفة لعجزها عن التجاوب مع تلك التطورات والتكيف وفق متطلباتها بالسرعة الملائمة، وإثبات قدرتها على الصمود والاستمرار في الوجود والبقاء. إلا أن كل هذه التغيرات المتسارعة لم تؤد إلى حدوث تحولات أو تعديلات جذرية في ماهية الإنسان ومقوماته الأساسية، وإن أفلحت في إثارة كثير من مشاعر الشك والارتياب المشوب بالتشاؤم حول الأفكار المتوارثة من ناحية، وحول الوضع الإنساني بوجه عام إزاء هذه التغيرات من الناحية الأخرى.

والمشكلة التي تواجه الإنسان المعاصر هي كيف يستطيع التعامل مع دراما التغير التكنولوجي وتعديل رؤيته إلى العالم الجديد السريع التغير وتحديد وإدراك وضعه الخاص في هذا العالم بل وفي الكون بأسره. ذلك أن أهم مايميز المجتمع المعاصر هو سيطرة التكنولوجيا، بحيث يبدو الإنسان كما لو كان عبدا خاضعا لها تماما ومسلوب الإرادة أمام سطوتها. وليس المقصود من التكنولوجيا هنا الآلات والأجهزة وما شاكلها من المنجزات المادية التي حققها التقدم العالمي الحديث، وإنما المقصود في المحل الأول هو التكنولوجيا باعتبارها أسلوبا للتفكير والسلوك والعلاقات الاجتماعية، وقوة هائلة أفلحت في أن تسبغ نوعا من الدقة والكفاءة على العقل الإنساني بشكل غير مسبوق في نظرته إلى العالم وتناوله شئون الحياة اليومية. فالتكنولوجيا تمثل نوعا من التوجه الذهني إزاء مشكلات الحياة والفرد والمجتمع، خاصة أن لها القدرة على تطوير نفسها وتوسيع مجالات استخدامها بما يتفق ومستجدات الحياة والأوضاع الجديدة التي نشأت نتيجة للتقدم التكنولوجي ذاته، مما يكاد يجعل الإنسان المعاصر مجرد ألعوبة في يد هذه التكنولوجيات الجديدة والدائمة التغير. فلقد بدأت التكنولوجيا الحديثة تخرج - إن لم يكن قد خرجت تماما بالفعل - عن سيطرة البشر، بل وأصبحت تفرض عليهم واقعا جديدا يتعين معه أن يبحث الإنسان عن وضعه الحقيقي فيه، وتحديد شروط ومتطلبات هذا الوضع.

ومشكلة الوضع الإنساني التي كانت دائما محل اهتمام ومعالجة عدد كبير من رجال الأدب والروائيين والفلاسفة وعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيا وغيرهم، تدور في جوهرها حول البحث عن معنى الحياة وتعرف الجهود التي يبذلها الإنسان لتحرير نفسه من القيود التي تكبل انطلاقه الحر لتحقيق ذاته، والتعامل مع التحديات التي تواجهه في الحياة اليومية وتمنعه من رؤية العالم من زاويته هو الخاصة، والرغبة في التخلص من الأوضاع التي لاتتفق مع هذه الرؤية حتى وإن كانت هذه الأوضاع على قدر كبير من الرسوخ، بحيث أصبحت تؤلف مسلمات مفروغا من أمرها، مثل العنف والحروب وحملات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، والهيمنة على أقدار البشر وما إلى ذلك. وتعبر (هاناه آرنت Hannah Arendt) عن هذه الحقيقة في كتابها الشهير والقديم نسبيا (ظهر عام 1958) والذي يحمل عنوان الوضع الإنساني، أو الحالة الإنسانية Human Condition The حين حددت المشكلة الأساسية في المفارقة الواضحة، بين أنه في الوقت الذي يزداد فيه شعور الإنسان بالقوة لاعتماده على الكشوف التكنولوجية والبحث العلمي، تتضاءل قدراته على التحكم في نتائج أفعاله، مما يعني تراجع وتقلص دوره في حياة المجتمع كما تتضاءل حريته السياسية، وهذه مأساة الإنسان في المجتمع التكنولوجي المعاصر.

مشكلة الوضع الإنساني

وبقول آخر: تشمل مشكلة الوضع الإنساني أو الحالة الإنسانية كل التجربة المستمدة من الطبيعة البشرية ومن حياة الفرد، والأسلوب أو الطريقة التي يتعامل بها مع أحداث العالم، وتفاعله مع هذه الأحداث، والمشاعر والانفعالات المرتبطة بوجوده وكيانه وذكرياته عن الماضي، ونظرته إلى العالم ورؤيته للمستقبل وإدراكه للحقيقة النهائية وهي أنه كائن زائل مصيره الموت. فالموت هو آخر المطاف، وهذا يفرض السؤال المهم عن معنى الحياة ومعنى الوجود الإنساني.

وقد يختلف المفكرون والكتاب حول معنى الحياة، وذلك في ضوء تجربتهم الذاتية، فالبعض يستمد المعنى من ذكرياتهم الخاصة وحدها دون أن يعطوا كثيرا من الاعتبار للحاضر (اللامعقول)، بينما يرى البعض الآخر أن تجربتهم الواقعية الحالية هي التي تعطي المعنى لهذه الحياة، وليس للماضي ولا لأي شيء آخر أهمية تذكر في هذا المجال، في الوقت الذي يذهب فريق ثالث إلى أن ما يعطي الحياة معنى هو الانشغال بالبحث عن حلول لمشكلات هذا الحاضر الذي يتحول باستمرار إلى مستقبل يتعين على إنسان اليوم مواجهته والتصدي لتحدياته. والواقع أن كلمة «الوضع الإنساني» كثيرا ما تستخدم في مجال الشك والتشاؤم، والإشارة إلى واقع الحياة المؤلم ومعاناة معظم الناس في حياتهم اليومية بوقائعها، التي كثيرا ما تتناقض مع المبادئ الأخلاقية التي يؤمنون بها، والتعارض بين مظاهر التقدم المادي الذي تحققه التكنولوجيا الحديثة الدائمة التطور كثيرا وبين هذه المبادئ، ولذا فقد يكون من الصعب الارتقاء بالوضع الإنساني المأساوي والتخلص من الشك في جدوى الحضارة التكنولوجية المعاصرة. وكثيرا ما يرتبط مفهوم الوضع الإنساني في الذهن بأفكار ومفاهيم العبث والعدمية وما إليها من المفاهيم السلبية. ويكفي أن نشير هنا إلى المفكر الروائي الفرنسي الكبير أندريه مالرو وروايته الشهيرة، وإلى تركيزه على مأساوية الوضع الإنساني، وكيف أن الإنسان لايعرف سوى حقيقة واحدة وهي أن مصيره الموت.

والالتزام بقضية معينة والارتباط بها ارتباطا وثيقا لا فكاك منه هو أحد أبعاد مفهوم الوضع الإنساني ومحدداته الرئيسة. ويقتضي هذا الالتزام أن يكرس المرء حياته وتفكيره للدفاع عن هذه القضية، لدرجة أنه قد يدفع حياته ثمنا لذلك. وقد عولج هذا «الموضوع - المشكلة» في عدد كبير من الأعمال الأدبية، كما عرضت له السينما في عدد من الأفلام. لعل من أهمها تلك الثلاثية الفيلمية التي أخرجها في السنوات الأخيرة من القرن الماضي ماساكي كوباياشي Masaki Kobayashi تحت عنوان «الوضع الإنساني». وتدور أحداث الثلاثية حول المسار الفيزيقي والأخلاقي لشخص ياباني من المؤمنين بالسلام، والرافضين لفكرة الحرب مع أنه كان يعمل أثناء الحرب العالمية الثانية حارسا لأحد معتقلات الأسرى الصينيين، ولقي أثناء ذلك كثيرا من المتاعب بسبب أفكاره السلمية. فقد أرسل رغم مبادئه إلى جبهة القتال، حتى وقع أسيرا في أيدي القوات الروسية وتحمل كثيرا من الآلام والمعاناة الروحية والأخلاقية من جراء تمزقه النفسي، الناشئ عن التعارض بين واقعه وواجبه كمواطن ياباني يدين بالولاء لوطنه ويحارب من أجله، ويتحمل في سبيله وطأة الحرب وفظائعها ووحشيتها من ناحية، وبين مبادئه الأخلاقية والإنسانية التي تأبى عليه المشاركة في الحرب والقتل. وقد عانى أثناء ذلك من قسوة الشكوك التي كانت تحيط به من كل جانب، إذ لم يفلح في كسب ثقة الأسرى الصينيين الذين لم يفهموا طبيعة وحقيقة وصدق مشاعره نحوهم لأنه ياباني ينتمي إلى صفوف الأعداء،كما كانت حكومته تنظر إلى سلوكه على أنه نوع من الخيانة الوطنية والتواطؤ مع العدو الصيني. ومثل هذا النوع من الصراع النفسي الناجم عن الالتزام يعتبر في رأى الكثيرين أحد ملامح الوضع الإنساني في عالم مضطرب وسريع التغير والتحول، وتسوده المتناقضات التي تؤدي إلى التمزق والتشتت بين مختلف المشاعر والمتطلبات الشخصية والاجتماعية والوطنية، والمبادئ والقيم الإنسانية السامية.

ويجد الإنسان المعاصر نفسه الآن في مفترق طرق كثيرة لايعرف تماما أيها يسلك، ولا إلى أين تقوده، ولا يكاد يعثر لنفسه على قضية محددة وواضحة تستحق أن يكرس نفسه وجهوده للتمسك بها والدفاع عنها بثقة وإيمان في عدالتها، فقداختلت المبادئ والقيم بفعل التغيرات التكنولوجية. وإذا كان الكثيرون من المفكرين يرون أن الحداثة هي (الاتجاه)، الذي يحكم العالم الآن، فإن هذا الاتجاه يتعرض لكثير من الهجوم والنقد والاعتراض بل والرفض. كذلك إذا كانت الحداثة ترتبط في رأي البعض بفكرة التقدم، وبقوة وسيطرة العلم والتكنولوجيا، فإن هناك من يرى أن هذا التقدم سوف يؤدي إلى الهلاك لأنه يحمل كثيرا من المخاطر التي قد تقضي على الحضارة الإنسانية برمتها، بل وعلى الإنسان نفسه كما قد يحدث عند الالتجاء إلى أسلحة الدمار الشامل، ومع ذلك فإن من الصعب إنكار سيطرة التكنولوجيا على أقدار البشر في العصر الحديث، أو حتى التهوين من شأن الدور الذي تلعبه في ذلك، بحيث لم يعد الإنسان يعتبر هو المحك الذي تقاس عليه الأشياء، فقد أصبح هو نفسه سجينا لعمليات التغير المستمرة بفعل التقدم التكنولوجي، كما أصبح تحقيق (إنسانية) الإنسان رهين المفارقات العديدة الصارخة، الناجمة عن تلك التغيرات التي تؤثر بالضرورة في ملامح ومظاهر الوجود البشري.

والمؤكد, على أي حال, هو أن التقدم التكنولوجي أصبح أمرا لامفر منه ويجب التسليم به وإن كانت هناك محاذير ضد الاستسلام الكامل له. والأكثر خطورة فيما يتعلق بالوضع الإنساني إزاء هذا الزحف التكنولوجي، هو أن كل تكنولوجيا جديدة تؤدي إلى ظهور مشكلات جديدة، يحتاج حلها إلى ابتكار عمليات تقنية جديدة ملائمة وهكذا, بينما يبدو الإنسان عاجزا أمام هذا الفيض من التغيرات المتلاحقة. فالتقدم التكنولوجي يحل مشاكل لكي يخلق مشاكل من نوع جديد، تحتاج إلى تكنولوجيات جديدة للتغلب على انعدام التوازن الناجم عن الكشف الجديد، وهكذا.

مبدع للتكنولوجيا أو تابع لها

ولا يخلو هذا الوضع الحالي من المفارقة. إذ بينما كانت الإنجازات التكنولوجية تعتبر دليلا ومؤشرا على قدرة الإنسان على التفكير العلمي المستقل والخلاق، وعلى ملكة الإبداع والابتكار، وتسخير تلك الإبداعات التكنولوجية لتحقيق أغراضه ومطالبه الخاصة، من خلال التحكم في الطبيعة وتطويعها للإرادة الإنسانية، إذ بالتكنولوجيا الحديثة تخرج - وتنطلق بسرعة هائلة في شتى الاتجاهات والمجالات، كما لو كان لها (منطقها) المستقل والخاص بها، بحيث بات الإنسان يلهث من الجري لملاحقة التطورات والمستجدات التكنولوجية وتطويع سلوكه وعلاقاته اليومية، بل وتفكيره واستعداداته وقدراته الذهنية، للتوافق مع إمكاناتها الهائلة التي ترسم له إلى حد كبير المسارات التي يتعين عليه السير فيها حتى لتحقيق ذلك التوافق أو التلاؤم المنشود. وبعد أن كان الكثيرون حتى وقت قريب ينظرون بعين الإعجاب الممزوج بكثير من الشك والارتياب إلى جهود الإنسان ونجاحاته في تسخير التكنولوجيا لتحقيق رغباته ومصالحه مع الخوف في الوقت ذاته من ازدياد سطوته إلى الحد الذي يهدد الوجود البشري، بل وكثير من أشكال الحياة على سطح الأرض، أصبحت الآن تشفق على الإنسانية وعلى الحياة برمتها من سطوة التكنولوجيا وانطلاقها بغير هوادة، وإلى تراجع دور الإنسان الذي أصبح تابعا بعد أن كان متبوعا، وهذه هي قمة مأساة الوضع الإنساني المعاصر، ولو أن الكثيرين لايكادون يشعرون بفداحة هذا الوضع لانبهارهم بالإنجازات التكنولوجية، التي تخفي وراءها عجز الإنسان وسلبيته وفشله في الاحتفاظ بالريادة وحرية اختيار الطريق، وإرادة التحكم في المصير، وكلها عناصر أساسية مكونة لجوهر الوجود (الإنساني).

والواقع أن الإنسان المعاصر يعيش الآن في عالم تكنولوجي يسيطرعليه فيه الشعور بالاغتراب عن الذات إذ يجد الفرد نفسه موزعا بين اتجاهات مختلفة، وتيارات متضاربة، بحيث لا يكاد يستبين لنفسه طريقا يسلكه بإرادته الحرة الطليقة، بل إنه لم يعد يدرك طبيعة كيانه أو عالمه الداخلي. وهو «وضع يكتنفه الظلام» على ما يقول جيريمي جريفث Jeremy Griffith في نشرة صدرت عن Foundation for Humanity's Adulthood تحت عنوان Crisis Point in the Human Journey فالإنسان المعاصر يعيش في وهم كبير، إذ يتصور أنه يدرك كل ما يدور حوله بينما هو غائب في حقيقة الأمر عن إدراك ماهية وكنه الأشياء، بما فيها كنه ذاته نتيجة ذلك الانبهار بالتقدم التكنولوجي، الذي يصرفه عن التفتيش في أعماقه الداخلية، لمعرفة حقيقة أبعاد وضعه الإنساني في هذا العالم، واختيار الطريق الذي يوحي به تكوينه الداخلي الخاص. فهناك فضاء ومساحة واسعة خالية تفصل بين العالم التكنولوجي الخارجي السطحي، والعالم الداخلي العميق. والمهم لفهم الوضع الإنساني هو إدراك أبعاد ذلك العمق الداخلي الذي يعطي المعنى ويحدد الهدف من الحياة، ويرسم الطريق الموصل لذلك الهدف. ولذا نجد أن التساؤل الذي يشغل بال الكثيرين يدور حول حقيقة واقع الإنسان الآن وفي المستقبل، وكيف يمكن له أن يحتفظ بإنسانيته في عصر تحكمه التكنولوجيا وتتحكم فيه، لدرجة أن أصبح الإنسان يحاول إعادة تشكيل تكوينه عن طريق البيونوجيا الجزيئية. ولكن هل تفلح التكنولوجيا فعلا في إعادة صياغة الإنسانية حسب شروطها ومتطلباتها الخاصة؟ وما نوع البشر الذين سوف يعيشون ويزدهرون في هذا العالم التكنولوجي السريع التغير، الذي لايكاد يشبهه أي شيء حدث في الماضي، إذ تتفتح كل يوم مجالات وآفاق جديدة تتطلب من البشر إعادة النظرفي مسار حياتهم والتخطيط لها من جديد بشكل مستمر، حتى لا تتجاوزهم الأحداث، خاصة في هذا الزمن الذي يتميز بتدفق المعلومات الغزيرة من كل أنحاء العالم، وإمكان التأثر بها بحيث تتراجع ملامح الوضع الإنساني أمام الهجمة الإعلامية والمعلوماتية، وقدرة التكنولوجيات الجديدة والمتطورة على توفير مسارات ومبادئ وقيم جديدة، لم يكن للمجتمع الإنساني عهد بها من قبل، ووقوع الإنسان فريسة التعارض بل والتناقض بين ماتفرضه التكنولوجيات الحديثة من هيمنة تيارات العولمة التي تعمل على إزالة الحواجز الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بين شعوب العالم، والرغبة في احتفاظ تلك الشعوب بذاتياتها وهوياتها الثقافية المتمايزة التي تمد الفرد بالمبادئ والقيم والمثل العليا، التي يرتكز عليها وضعه في المجتمع، والذي يتمسك به أشد التمسك، لأنه هو جوهر وجوده كإنسان مع اعتزازه الشديد بهذه الإنسانية.

وواضح من هذا كله نوع الصعوبة التي تواجه الباحثين الآن في محاولاتهم تحديد المعالم الرئيسية المميزة للوضع الإنساني في العالم المعاصر، الذي يخضع فيه كل شيء لتأثيرات التكنولوجيا المتغيرة مما يجعل ما كان يعتبر - حتى عهد قريب - من ثوابت الوجود الإنساني يتراجع إلى موضع هامشي، وينطبق ذلك على القيم التي كان يتمسك بها الفرد والمجتمع على السواء، بحيث أصبح الشك في كل شيء سمة غالبة في تفكير الكثيرين، وبحيث نجد من الكتاب والمفكرين من ينكر أهمية دور الماضي بكل قيمه وتراثه وتاريخه وإنجازاته وعلاقاته الإنسانية العميقة كأساس لتحديد الوضع الإنساني، بل وقد يعتبر ذلك عبئا على الإنسان المعاصر، ينبغي التخلص منه، حتى يمكنه الانطلاق نحو مستقبل جديد ومختلف، ولا يكاد يمت بشيء للماضي أو الحاضر.

خلع الماضي

وقد تكون حالة الكاتب الروائي الإيراني الأصل إصفندياري Esfandiary مثالا طيبا لتصور البعض لمقومات الوضع الإنساني في هذا العالم المتغير، الذي لايكاد يستقر على حال لفترة طويلة من الزمن، نتيجة للتطورات التكنولوجية المتسارعة التي تجرف أمامها كل شيء، والفشل في تحديد هذه المقومات بشكل واضح. فلقد أسقط إصفندياري اسمه الحقيقي (التقليدي) من الاستخدام تماما، واستبدل به (اسما) جديدا يتلاءم مع تفكير العصر التكنولوجي وهو 2030 -FM، وذلك لكي يؤكد إيمانه وثقته في المستقبل من ناحية، وأن الأسماء التقليدية محملة بالماضي، سواء في ذلك ماضي الشخص أو سلالته ونسبه وعرقه، كما تكشف عن جنسيته ودينه، وهو الأمر الذي لايتفق تماما مع وضع الإنسان في العالم المعاصر المتغير. وكما يقول هو نفسه: «إنني لست، ماكنت عليه منذ عشر سنوات وبالتأكيد لست ما سوف أكون عليه بعد عشرين سنة، وأن اسم 2030 يعكس اعتقادي بأن الفترة حول عام 2030 ستكون فترة مثيرة وغامضة. إذ سوف تختفي كل دلائل وعلامات ومظاهر التقدم في السن، وسيكون أمام كل فرد فرصة رائعة لأن يحيا إلى الأبد. إن 2030 حلم وهدف في آن واحد».

وواضح أن إصفندياري يختلف في نظرته إلى الوضع الإنساني عن الروائي الفرنسي الشهير ألبير كامي Camus الذي ينظر إلى ذلك الوضع من زاوية التشاؤم ويرى أن الوضع الإنساني هو العبث بعينه، بينما ينظر إصفندياري من منظور متفائل مليء بالأمل لأنه يؤمن بالإنسان إيمانا وثيقا وعميقا ويرى أن التقدم التكنولوجي سيؤدي إلى زيادة الاحتكاك بين الثقافات وإلى تحرير الجنس البشري من كل أسباب ومظاهر التعاسة والبؤس الحاليين، وأنه حين يتاح له الوقت الكافي فسوف يفلح في التخلص من مأساته الكبرى، وهي الموت، وليس ثمة ما يؤيد هذا الرأي الذي ينتهي إصفندياري إليه، كما أن التقدم التكنولوجي نفسه يثير كثيرا من الشكوك حول نتائجه الأخيرة، ونوع التغيير الذي سوف يحدثه في الوضع الإنساني في المستقبل. وسوف يظل الفكر مشغولا وحائرا بين شتى الاتجاهات، حول تحديد الملامح الأساسية للوضع الإنساني في عالم الغد، الذي تحيط به كل الاحتمالات والمفاجآت، والذي لا يكاد يثبت على شيء.

 

أحمد أبو زيد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات