إلي أن نلتقي

الوداعات

أحب أحد الشعراء جارية مغنية. وعندما أراد أن يستعد للسفر ذهب إليها مودعا وقال لها: أريد هذا الخاتم الذي في أصبعك كي أذكرك به. فقالت له: إنه ذهب وأخاف أن تذهب. خذ هذا العود، لعلك تعود.

لحى الله أيام الوداعات والتذكارات الصغيرة. حين تفتح كتابا قديما، أو تعبث في ركن مهمل أو تفتح خزانة صدئة فتفاجأ بها وهي خارجة إليك من عمق الزمن. قد تكون زهرة جافة اشرأبت أوراقها وبهت اللون وذهب العطر ولكنها مازالت تحمل أثرا من لحظة الحب. رعشة مفاجئة في القلب، كأنها نوبة صحيان قصيرة. وقد تكون رسالة قديمة، كتبت بالقلم الرصاص، علامة الحب والإخلاص، حروف من النشوة والألم، محاولة أن نرتفع بالكلمات إلى مستوى الأحاسيس المتدفقة في داخلنا. وقد تكون خصلة من الشعر، مطوية مثل خاتم صغير، يشع من وهجها الداكن عطر مازال بقايا. أو ربما كان مجرد رؤية هذه الخصلة هو الذي جعل العطر يفوح من جديد. تذكارات.. تذكارات.. خرز ملون، نصفا تذكرتى سينما، صورة عليها حمرة باهتة. تذكارات تافهة، حفظت بعيدا عن الأعين، واختفت في طبقات النسيان. ولكنها برزت فجأة فهل يعود زمنها حقا؟ ..

ترى.. ما الذي يدفعنا جميعا للاحتفاظ بهذه التذكارات؟

أهى حاولة منا لاقتناص تلك اللحظة من الزمن وتجميدها. أم أنها المعرفة اليقينية في أعماق كل منا أن كل قصص الحب لا تدوم طويلا. ولن يبقى منها إلا ذكريات الوداع. أم أنها محاولة تلخيص كل هذه التجربة الكبيرة في رمز صغير، مثلما تختزل الطقوس الدينية في أيقونة وحيدة تكون بديلا لعشرات التفاصيل..

ولكن التذكارات ليست دائما تذكارات حب. هناك تذكارات الفراق القاسية. مثل الاحتفاظ برماد الموتى. وهناك تذكارات العنف اللاإنساني مثلما يفعل القتلة المتعددو الجرائم حين يحتفظون بأثر من كل جريمة يرتكبونها. وعادة ما تؤدي هذه التذكارات الى وقوعهم في قبضة الشرطة. كأنما يحتفظون لأنفسهم بأسباب هلاكهم الأخير..

كان "جوته" يقول: "قل للحظة العابرة تمهلي قليلا فما أجملك".. ولكن اللحظة لا تتمهل، ولا تتجمد، ولا ترجع أيضا. وربما لو أعيد نفس الزمن ما اخترناه لأننا جربنا مرارة النهاية. ولا نود أن نعاود التجربة مرة أخرى. وهكذا تظل التذكارات علامات أميال صامتة لكل محطات الوداع التي عشناها. كل وداع يأخذ قطعة من العمر ويمضي بلا عودة.

وما أظن شاعرنا العربي حتى إذا أخذ العود.. سوف يعود.