القراصنة على شاشة السينما سحر السطو ومقاومة القانون

القراصنة على شاشة السينما سحر السطو ومقاومة القانون

قبل السينما ملأت روايات القراصنة حياتنا بالفضول والدهشة. كان عالمهم مليئًا بالسحر والغموض. وجاءت السينما لتعيد تجسيد هذه الروايات.

مَن منا يذكر كاتبًا اسمه رفائيل ساباتيني؟.. خلت إنه إحدى الشخصيات الوهمية، التي ابتدعها المترجمون، فأضفوا عليه المزيد من الغموض الذي تعرفه عن القراصنة وحيواتهم المليئة بالمغامرات، وقد دفعني الفضول إلى البحث عنه في الموسوعات الأدبية، وموسوعات الأعلام، فلم أعثر له على أي أثر، مما زاد من الحيرة، هل كان هناك بالفعل أديب إنجليزي يسمى رفائيل ساباتيني، ذلك الذي ملأت رواياته سلاسل الروايات العالمية القديمة، وروايات الجيب.

وجاءت الدهشة من بحث في مواقع شبكات المعلومات، أن هناك كاتبًا عاش بين عامي 1875 - 1950، ألف الروايات التي أحببناها، في السلاسل المذكورة، خاصة، روايات القراصنة، هذا العالم الذي كاد الجيل الجديد أن ينساه تمامًا، لولا أن هبط عليها مرة ثانية في الصيف الفائت من خلال فيلم «قراصنة الكاريبي: صدر رجل ميت» من إخراج جورفيرنيسكي، هذا الفيلم الذي لم يتم الانتهاء حتى الآن من تصوير الجزء الثالث منه.

إنه عالم لم يبدع فيه بالقوة نفسها قدر ما فعل ساباتيني، لكن لماذا اختفى اسم هذا الروائي من الموسوعات الكبرى، وهل ما كتبه يقل أهمية عما كتب في مجال الرواية البوليسية، ورواية التجسس، بحيث تم تجاهله إلى هذا الحد، وهل عالم لصوص البحر، الذي جعل كاتبًا مثل جون شتاينبك يستوحي منه روايته الرائعة الأولى «الكأس الذهبية» وروبرت لويس ستيفنسون في «جزيرة الكنز».

أي أن كاتبًا متميزًا مثل شتاينبك، وأن مخرجًا متميزًا مثل ريتشارد فلايشر، يمكنهما أن يصنعا من عالم القراصنة عملاً فنيًا يظل في الذاكرة للأبد، بل لا ينكر أحد من أحب وقرأ روايات مثل: «الكابتن بلود» و«سكارموش» أن ساباتيني كان كاتبًا له سحره، وقد كانت رواياته متسمة بالواقعية، وخلت تمامًا من الفانتازيا، التي بهرتنا في ثنائية «قراصنة الكاريبي».

ساباتيني، المولود في القرن التاسع عشر، هو واحد من أدباء البحر، وقد تفوق عليه أدباء آخرون كتبوا في هذا العالم، ومنهم جوزيف كونراد، وهرمان ملفيل، وأرنست هيمنجواي، ربما لأن رواياته تدخل في إطار المغامرات، ولأن أبطاله من الباحثين عن المغامرة، ولد في إيطاليا، ومات في سويسرا، كتب أكثر من ثلاثين رواية، وقد بيعت رواياته في حياته بأرقام خيالية، مثل «صقر البحر» عام 1915، وهي قصة عن حياة أحد القراصنة، ثم «أرمادا وقراصنة الساحل البربري»، ثم «سكارموش» عام 1921 حول الثورة الفرنسية، ثم «الكابتن بلود» عام 1922. وهي التي تحوّلت إلى سلسلة أفلام قام ببطولتها أيرول فلين، ثم ابنه شون فلين فيما بعد. ومن أعماله الأخرى «فارس الحانة، و«سيف الإسلام»، وهي رواية لم نسمع عنها من قبل، وأغلب الظن أن المترجمين لم يعثروا عليها، وله أيضًا «جلد الأسد»، و«حياة سيزار بورجيا»، وأغلبها عن القراصنة، لصوص البحار.

إذا كان ألكسندر ديماس قد شغف بعالم الفرسان، وبرع في كتابة روايته البحرية «الكونت دي مونت كريستو»، فإن الكاتب الفرنسي أكثر شهرة، ووجودًا في التاريخ الأدبي من ساباتيني، لكن لدينا سؤالاً يفرض نفسه: لماذا كل هذا الشغف بحياة القراصنة؟

قانون القوة

إنهم لصوص البحر، حيث قانون القوة يفرض نفسه على المسافرين الأبرياء، الذين يحملون الحقائب الثمينة، الذين اتخذوا راية سوداء للإعلان عن وجودهم، تتوسطها علامة الموت: الجمجمة، وعظمتان طويلتان، لساق الإنسان، بما يعني أن ظهور سفنهم مقرون بالموت، والسلب والنهب، والسبايا، وقصص حب، واغتصاب، وتكوين ثروات.

ولعل الراية السوداء هي العلامة التجارية المميزة لهؤلاء اللصوص، فقطاّع الطرق في الصحراء، لم يتخذوا لأنفسهم رايات، وخاطفو الطائرات ليست لهم شارات مميزة.

هناك مفردات لغوية تصوّر هذا العالم باختصار شديد: عصبة العين السوداء، بما يعني فقأها في إحدى المعارك السابقة، مدافع وسيوف، وعصبة رأس ملفوفة بطريقة معينة، سنة ذهبية تعني أن السنة الأصلية فقدت في معركة سابقة، وجوه جافة، جامدة، أو ضحكات شريرة تكشف عن أسنان غير منتظمة، وصليل سيوف، وطلقات مدافع، خاسرون، ورابحون، مهاجمون، وهاربون، إنهم القراصنة.

الآن، هم رجال من التاريخ يمثلون سيادة البحر، وفي السينما اختلفت صورة القرصان، بين الكتابة والصورة، فإما أن يكون القرصان شريرًا، مغامرًا، لصًا عابرًا، صيادًا للفريسة، وفي هذه الحال، فلابد من ظهور الكابتن بلود (الكابتن دم) كي يتصدى لهم، ويحاربهم أينما كانوا إلى أن يحقق النصر. وإما أن يكون القرصان من طراز مورجان، وهو لص بحر، ظريف، أشبه بروبن هود، يسرق من الأغنياء كي يعول الفقراء.

وأسماء الأفلام التي عرضت على الناس طوال القرن العشرين تنحصر في اللون الأسود، مثل «البجعة السوداء»، معروف أن البجعة ذات بياض خاص، و«راية القرصان السوداء»، ثم «القرصان الأسود»، و«شبح القرصان الأسود»، أما اللون الثاني، فهو لون الدم عند «القرصان الأحمر»، و«قراصنة بحر الدماء»، و.....

وهناك مجموعة من السمات يمكن أن نوجزها، تجمع بين هذه الأفلام، التي ملأت القرن العشرين، وهاهي تعود بقوة مع العقد الأول من القرن الجديد:

  • أغلب هذه الأفلام مأخوذ من روايات شعبية، من طراز الروايات، التي كتبها ساباتيني، مثل «صقر البحر»، عام 1940، و«الكابتن بلود» عام 1935، وهما من إخراج مايكل كيرنز، أما أشهر الأفلام الأخرى فهناك «القرصان الأحمر» عام 1952، عن رواية لرولاند كيني. و«رياح جامايكا العالية» عام 1964 عن رواية لريتشارد هيوز، أما أغلب الأفلام الأخرى فهي مكتوبة خصيصًا للسينما، دون أن تكون لها أصول أدبية، مثل «قراصنة تارتوجا»، و«قراصنة الكاريبي»، و«قراصنة طرابلس»، و«القراصنة»، وهو الفيلم الذي أخرجه رومان بولانسكي، ويعتبر أحد آخر الأفلام المهمة في هذا النوع من الأفلام.
  • المكان الرئيسي الذي تدور فيه هذه الأحداث، هو الموانئ، أو البحار القريبة منها، فمن الموانئ تبحر السفن المليئة بالعابرين، أو المغامرين، أو الباحثين عن هجرة إلى بلاد أخرى، لذا، فإن الرحيل هو الفعل الأساسي في هذه الموانئ، والعابرون يحملون عادة ما يثير شهية لصوص البحر للسرقة والاختطاف، وفي الغالب ما تكون الموانئ صغيرة، أما البحار، فهي عالية، وبعيدة، خالية من وجود قوة أو سلطان، والمنتصر فيها هو الأقوى، والمجهز بالسلاح، ولديه قدرة على مجابهة الموت. لكن الأحداث الرئيسية تدور في السفن، سواء سفن القراصنة، أو التي سوف يهاجمها لصوص البحر، ويتم التصوير الداخلي في مقصورة السفينة. وهي غالبًا سفن صغيرة، يعيش البحارة فوق السطح، وعلى الصواري، وهذه السفن تتحرك بقوة البخار، ولديها أشرعة قوية، والرجال مفتولو العضلات، غير حليقي اللحى والشوارب، متجهمون دومًا، يحملون مسدساتهم في جراب خاص.

كما أن الجزر هي المرفأ المقابل للموانى، يهرب إليها القراصنة، أو تجنح عندها السفن، مثل الجزيرة الموجودة في فيلم «قراصنة الكاريبي»، والكاريبي بشكل خاص موجود في أفلام كثيرة، منها «رياح جامايكا العالية»، و«قراصنة تارتوجا»، أما الجزر فموجودة في «قراصنة بحر الدماء» إخراج جون جلينج عام 1961.

متوحشون أم ظرفاء؟

  • القراصنة في الغالب رجال، جامدو الوجوه، متوحشون، لصوص، لا يعرفون الرحمة، وفي بعض الأحيان هم بمنزلة اللص الظريف، وقد أسندت أدوار القراصنة إلى كبار نجوم السينما الصامتة، وتبارى نجوم السينما الأمريكية في أداء هذه الشخصيات، كل بطريقته مثل المغامر دوجلاس فربانكس، أما أيرول فلين، خفيف الظل، وهو يؤدي دور «كابتن بلود» عام 1935 إخراج مايكل كيرتز، فقد صار الطبيب الشاب مدانًا بمساندة الثوار، فهرب ليصبح قرصانًا في بحر الكاريبي، أما تايرون باور في «البجعة السوداء» عام 1942 إخراج هنري كينج عن رواية لساباتيني، فهو مورجان، القرصان الذي صار حاكمًا لجامايكا، الذي عليه أن يناصر صديقًا له ضد قرصان آخر، إنه قرصان عاشق، ويرافق خطيبته (مرين أوهارا) في السفينة نفسها، التي يقلها للهجوم على القراصنة الآخرين، أما أشهر القراصنة على الإطلاق، فهو بيرت لانكستر، الذي اشتهر بخفة ظله، وحركاته في المطاردات في فيلم «القرصان الأحمر» إخراج روبرت سيدوماك عام 1952، فالقرصان هنا ليس لصًا، بل هو ثائر ضد طاغية، والرجال الذين يطاردونه هم رجال السلطان.

ومن أشهر الممثلين الذين أعجبوا بهذا النوع من الأفلام أنتوني كوين، ففي عام 1958 قام بإخراج فيلم «القرصان» في تجربته الوحيدة في الإخراج، وأدى الدور بول براينر، والفيلم عن القرصان مورجان، وهو أقرب في أحداثه إلى رواية «الكأس الذهبية» لشتاينبك، ومورجان بشكل عام هو قرصان صاحب موقف، وثائر، كما أنه عاشق متيم، لكنه قرصان، أما الفيلم الثاني في علاقة كوين مع القرصنة فهو دور شافيز في فيلم «رياح عالية في جامايكا» إخراج ألكسندر ماكندريتش عام 1964، وفيه قام بدور قرصان متوحش، عليه حماية طفلة صغيرة، تغير من وحشيته، ويصبح مواطنًا صالحًا، وفي عام 1968، عاد كوين إلى عالم القرصنة في فيلم «بيرول القرصان» إخراج تيرنس يونج عن رواية لجوزيف كونراد، وهو عن قرصان قديم يمكنه بيد واحدة أن يحرّك دفة أي سفينة تتجه إلى الأمام، وهو لا يتوقف عن مقابلة خصومه، واستثمار الذهب الذي يملكه أحد لقراصنة.

أشهر الممثلين الذين عملوا في هذه الأفلام هم لكس باركر في «ابن القرصان الأحمر»، وستيف ريفز في «مورجان» عام 1961، وجين كيلي في الفيلم الغنائي «القرصان» عام 1948، إخراج فانسانت مينيللي، وكروين ماتيوز في «قراصنة بحر الدماء»، إخراج جون جيلنج عام 1961، ووالتر ماتاو في «قراصنة»، إخراج رومان بولانسكي عام 1986.

وعلى سبيل التغيير، فإن هناك قرصانات، أي المؤنث من قرصان، وذلك في أفلام كانت المرأة هي التي تقود عمليات القراصنة، ولعل الإيطالية جيانا ماريا كنالي هي الأشهر في الستينيات، بفيلمها «سيدة البحار السبعة»، وفي التسعينيات، قدمت جينا دافيز دور القرصانة المغامرة في فيلم «سفاح الجزيرة» أمام الممثل ماتيو موندين عام 1995، وهذه القرصانة ترتدي زي الرجال، وتقاتل، وتعشق، وتركب المخاطر، وبالرغم من هذا، فهي حسناء بشكل ملحوظ، والذين يتذكرون جيانا ماريا كنالي يعرفون مدى ما كانت تتمتع به عيناها من سحر، ولعل سهام عينيها أقوى بكثير من حد السيف الذي تغرسه في صدور خصومها، فترديهم قتلى.

  • القرصان هو الشخصية الرئيسية في هذا النوع من الأفلام، وهناك اختلاف واضح بين أفلام البحارة والمستكشفين، وأفلام القراصنة، وهو أيضًا الفارق الواضح بين روايات البحر، التي كتبها ملفيل وكونراد، وروايات المغامرات التي كتبها ساباتيني وأقرانه، ففي النوع الأول من الروايات، لا يوجد قراصنة، ولكن هناك بحارة عملهم الإبحار، والانتقال بين المواني، ولم يحدث أن شاهدنا أيًا من القراصنة في الروايات، أو الأفلام المأخوذة عنها، من طراز «بيللي بد»، و«موبي ديك» عن قليل، أو في روايات «لورد جيم»، و«قلب الظلمات»، و«القرصان بيرول» للبريطاني جوزيف كونراد، ولم نعرف أن القراصنة تصدوا للمستكشفين الكبار، لذا، لم نرهم في أفلام مأخوذة عن كريستوفر كولمبس، وفاسكو داجاما، وأيضًا في رواية «ثورة على السفينة بونتي» تأليف تشارلز نوردهوف التي تحولت إلى ثلاثة أفلام ضخمة الإنتاج في أعوام 1934، 1959، 1981 من بطولة كلارك جيبل، ومارلون براندو، وميل جيبسون، وهي الرواية الأشهر عن البحر.

بحار الخوف

كما أن الروايات التي كتبها بيتر بنشلي منذ منتصف السبعينيات، والتي تحولت إلى أفلام شهيرة قد شهدت نوعًا آخر من القراصنة التي تثير الخوف في البحر، مثل أسماك القرش، أو المخلوقات المتوحشة، ومن هذه الروايات «الفك»، و«الأعماق»، و«حسناء جزيرة كورتيز»، و«الجزيرة».

أي أن أفلام القراصنة قد حولت البحار والمحيطات إلى مجهول، مليء بالخوف، والترقب، ليس من الرياح العاتية، والأعاصير والعواصف، بل من البشر، اللصوص، الذين يظهرون راياتهم السوداء فجأة، فيتحول المكان إلى خراب ودمار.

أفلام البحر التي أشرنا إليها، كانت مصدر جذب لكبار المخرجين أن يعملوا بها، فهي أفلام ذات قيمة فنية، ومن أهم المخرجين الذين أحبوا هذه الأفلام جون هيوستن الذي قدم «موبي ديك»، وجون سترجس الذي قدم «العجوز والبحر» عام 1956، وريتشارد ثورب الذي أخرج فيلمًا بالغ الروعة باسم «كل الإخوة الشجعان» بطولة روبرت تايلور وستيوارت جانجر عام 1954، حول صيد الحيتان، وصراع الإخوة على السلطة فوق إحدى السفن، كما أن ريتشارد فلايشر قد شغف دومًا بالبحر، وهو الذي أخرج رواية «عشرون ألف فرسخ تحت البحر» عام 1954، وأيضًا «دكتور دوليتل» عام 1968، وهما من أفلام البحر.

أما أفلام القراصنة، فإن المخرجين الذين عملوا بها لم يكن لديهم الإمكانات نفسها، والأهمية للمخرجين السابقين، إنهم صنّاع أفلام حركة، وهم أيضًا من الذين عملوا في أفلام الغرب (الوسترن) والأفلام البوليسية، وعلى رأسهم روبرت سيدوماك، وجون جيلينج.

أي أن أسماء قليلة للغاية، قد أعطت لأفلام القراصنة أهمية.

مثلما قامت السينما الأمريكية بإنتاج أفلام شكّلت ظاهرة عن الغرب الأمريكي، فإن بريطانيا، ومعها السينما الأمريكية، هي صاحبة أكبر رصيد في الأفلام التي تصور القراصنة، فبريطانيا استضافت الكاتب البولندي يوسف كونراد، ومنحته النطق الإنجليزي لاسمه «جوزيف»، وصار أشهر أدبائها، وهو بحار تحول إلى الكتابة، لذا، فإن الأدباء البريطانيين، ومعهم بعض الأمريكيين مثل ملفيل، وبنشلي، هم الذين كتبوا عن القراصنة.

لذا، فإن البريطانيين، ومعهم الأمريكيون، كانوا وراء هذه الأفلام، ولم يحدث أن رأينا أفلامًا من هذه النوعية تنتجها بلاد أخرى، حتى تلك التي كانت يومًا ما من سيدات البحار، خاصة إسبانيا والبرتغال، ولا يمكن استثناء إيطاليا، لأنها قامت بأمركة الكثير من نوعيات أفلامها، تأثرًا بالنجاح التجاري للسينما الأمريكية، في أفلام الوسترن، الذي عرف باسم الوسترن الإسباجيتي، وفي بداية الستينيات تم عمل أفلام قراصنة إسباجيتي، قام ببطولتها نجوم من أصل أمريكي، مثل ستيف ريفز، وهي أفلام رخيصة التكاليف، لا يكاد يعرف أحد عنها شيئًا الآن.

ثلاثة أفلام كبرى فقط تم إنتاجها طوال عشرين عامًا في السينما الأمريكية حول القراصنة، الأول هو «قراصنة» لرومان بولانسكي عام 1986، و«سفاح الجزيرة» إخراج ريني هارلن عام 1995، ثم الجزء الأول من «قراصنة الكاريبي» عام 2004 للمخرج جور فيربنسكي، والحقيقة أن العروض الأولى من هذا الفيلم، قوبلت بحذر شديد للغاية، وفوجئ المتفرجون بأن الفيلم قد احتوى على كل المشهيات الموجودة في السينما التجارية، خاصة أنه أول فيلم فانتازي عن عالم القراصنة، وتأتي الفنتازيا هنا أننا أمام أشباح تسكن السفن، وأعماق البحار، ورجال خالدين لا يعرفون الموت، ومغامرات بين مخلدين، وقصص حب وأداء متميز لنجم متنوع هو جوني ديب.

وقد نال الفيلم إعجابًا ملحوظًا، وحقق إيرادات في عرضه الذي استمر أشهرًا عدة، وسرعان ما راح المخرج جور فيربنسكي يعمل في الجزء الثاني من الفيلم، ومعه الطاقم نفسه من الممثلين الذين كانوا أحد أسباب نجاح الفيلم الأول، وعلى رأسهم أورلاندو بلوم، وكيا ناتيلي، وجيفري راش. مع استخدام كل الظواهر التي كانت سبب نجاح أفلام أخرى منها التنين الذي لف نفسه حول السفن، والبشر مرارًا، وهو الأمر الذي سبق مشاهدته في فيلمي «أناكوندا» وذلك بالإضافة إلى المخلوقات المشوهة المقبولة.

الفيلمان من إنتاج شركة والت ديزني، مما يعني أن خبراء تصنيع هذه الأفلام يقدمونها لكل الأعمار، خاصة الأطفال والشباب الذين يحبون هذا النوع من الأجواء، والمخلوقات المشوهة، إضافة إلى الأبطال القديرين، الذين يتسمون بحقارة، ودناءة، ممزوجتين بلطف، ومهارة، وعلى رأسهم القرصان جاك سبارو الذي يقدمه الفيلم، كبطل أسطوري بلا منازع، وبدا هذا واضحًا في حديث كل من له علاقة، أو معرفة بالقرصان، عنه قبل ظهوره وذلك على طريقة «الاستعراض» في تقديم الشخصية الرئيسية في المسرح.

صدر رجل ميت

الفيلم الجديد يحمل عنوان «صدر رجل ميت» بعد أن كان الفيلم الأول يحمل عنوانًا فرعيًا هو: «لعنة اللؤلؤة السوداء»، أما الصدر المقصود، فهو موجود حيًا في صندوق، وللصندوق مفتاح على طريقة «الصندوق يا حميدة لكن مفتاحه معايا».

فالرجل الميت الذي تبحث كل الأطراف المتصارعة عن صدره الموجود في الصندوق، هو قرصان يدعى ديفي جونز، وقد سبق أن عاون سبارو في القضاء على تنين عملاق، فصار سبارو شخصًا خالدًا وتولى قيادة سفينة تعرف باسم «اللؤلؤة السوداء»، أي أن سبارو سوف يظل أسيرًا بروحه، للقرصان الميت، ومن هنا تأتي طرافة الصراع، فهناك أطراف عديدة تحاول العثور على الصندوق، لاستخدامه في أهدافها، أولهم سبارو الذي يود استعادة الصندوق، لاسترداد حريته، وهناك قراصنة، ومخلوقات فانتازية، وحكام، كلهم لهم مصلحة في العثور على الصندوق.

قد لا تكون الحدوتة جذابة، لكن لا شك أنها غير مألوفة خاصة أن الفيلم يغلفها في إطار من الفانتازيا والمطاردات، ولاشك أن كل شيء يبدو جديدًا، وغير مألوف أمام أعيننا، خاصة المطاردات التي تدور بين طرفي الهاوية، وأيضًا مجموعة البحارة المحبوسين داخل شبكة واحدة، يصعدون الجبل معًا، ويهربون معا، ثم يسقطون بالشبكة في الماء ويلوذون بالفرار، وأيضًا المطاردة التي بين ثلاثة خصوم يتبارزن بهدف الحصول على الصندوق، فوق عجلة ضخمة تتحرك فوق المزارع، قريبًا من شاطئ البحر، وهي مطاردات لم يسبق لمحترفي مشاهدة الأفلام أن شاهدوا مثيلاتها، وبالتالي فإن الفيلم قادر على توليد الدهشة لدى الجميع.

وهذه المشاهد المبتكرة المدهشة هي عماد الفيلم، وهي موجودة بين مشاهد الحوارات التي تجعلنا في انتظارها دومًا.

وأهمية الفيلم، بعد المطاردات، في أنه جمع بين أنواع عدة، بين التخيّل والواقع، فهناك أكلة لحوم البشر، رأيناهم في أفلام عديدة منها فيلم «الدكتور دوليتل» لريتشارد فلايشر عام 1948، إنهم يقدسون الأشياء الغريبة، ومثلما كان هؤلاء البدائيون يؤمنون بأن من يتسبب في تفجير البركان له ألف جلدة، ومن يقوم بإعادة الجزيرة إلى أمها يستحق ألف تحية، ففي «قراصنة الكاريبي» يقدس هؤلاء البدائيون شخص جاك سبارو، لذا، فإنهم يقومون بالقبض على تيرنر، الذي يهرب مع القرصان، ويعود الاثنان إلى السفينة «اللؤلؤة السوداء»، مما يضاعف من مساحة المطاردات.

نحن في حالة بحث عن مفتاح الصندوق، وهناك أطراف عديدة تشترك في المطاردات، ابتداء من أكلة لحوم البشر، وديفي جونز، هو مخلوق نصفه من سمك الحبار والنصف الآخر آدمي، وقد تحركت أطراف وجهه الحبارية بطرافة وإتقان ملحوظين. إذن، فالمطاردات لا تتوقف، وتتسم بالجدة، والإيقاع السريع، وسط مفردات سبق أن ذكرناها عن أفلام القراصنة، موجودة هنا جميعها: كنز يجب العثور عليه، أطراف تسعى للحصول على الكنز، سفينة امتلأت هذه المرة بالأشباح، رجل ظل غارقًا في الأعماق لشهور عدة، فلما صعد إلى السطح رأيناه مشوهًا، قصص حب قائمة على المصلحة تربط بين إليزابيث وخطيبها أحيانًا، ثم تنتقل الفتاة إلى القرصان تارة أخرى، سمكة حبار عملاقة تخرج من الأعماق، كي تلتف حول السفينة، تضرب بزوائدها الصواري والقراصنة، وتبتلع السفينة وتنزل بها إلى الأعماق، وقوف سبارو وحده ومعه سيف أشبه بالإبرة لهذا الحبار، كي يقفز في جوف الحبار، دون أن يكون هناك أي تفسير توراتي.

السؤال الآن، هل ستعود ظاهرة أفلام القراصنة - التي شهدت ذروتها طوال أربعة عقود على الأقل - مرة أخرى وذلك بعد نجاح فيلمي «قراصنة الكاريبي» ونحن في انتظار الثالث؟

لا أحد يمكن أن يتوقع ماذا يمكن أن يفعله المغامرون من المنتجين، لكن لا أتصور أن الظاهرة ستعود مرة أخرى، فكم حاولت هوليوود إحياء سينما الوسترن برصد ميزانيات ضخمة لأفلام يقوم ببطولتها نجوم كبار من طراز كيفن كوستنر، لكنها كانت أفلامًا و«تمضي»، وأعتقد أن نجاح أفلام القراصنة الجديدة كان سببها الأجواء الفانتازية، وعلى الرغم من أن المؤشرات تؤكد أن الظاهرة لن تزدهر كثيرًا، فإن التنبؤ يبدو فقيرًا، أمام الصدمات التي تسببها أفلام تجد طريقها لدور العرض، لا يمكن لأحد أن يتوقع أي نجاح، فإذا بها تفوق كل التخيل، وتصبح ظاهرة في حد ذاتها، لكنها على أي حال تحرك المياه الراكدة، بعيدًا عن ظواهر إعادة الأفلام القديمة، التي ملّ المشاهدون منها، وخاصة أنها تكون نسخًا باهتة من الأفلام القديمة، إلا أن «قراصنة الكاريبي» يقف على قدم المساواة مع فيلم من طراز «القرصان الأحمر» و«الشعلة والسهم» التي اعتمدت على النجم وحضوره أكثر من أي شيء آخر،وهكذا كان جوني ديب سببًا أساسيًا في نجاح أفلام القراصنة الجديدة.

سلامٌ على عينيك ماذا اجنتا من اللطف والتحنان والعطف والودِّ
إذا كان في لحظيك سيفٌ ومصرعٌ فمنكِ الذي يحيي ومنكِ الذي يردي
إذا جُرِّدا لم يفتكا عن تعمدٍ وإن أغمدا فالفتك أروع في الغمدِ


إبراهيم ناجي

 

محمود قاسم

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




من فيلم «القرصان» للمخرج المعروف رومان بولانسكي





 





آخر أفلام القراصنة وأكثرها نجاحا «قراصنة بحر الكاريبي» الذي أغرى المنتجين بصنع الجزء الثاني منه بطولة جون ديب تحت عنوان «صدر رجل ميت»





سفينة القراصنة بأشرعتها الكبيرة كما ظهرت في فيلم «كابتن رو» وهي أشرعة تتيح لها سرعة أكبر في الانقضاض على سفن الخصوم





لقطة أخرى من فيلم «قراصنة بحر الكاريبي»