واحة العربي

واحة العربي

الحوت
عملاق المحيطات

الغائص في الحكايات القديمة والحديثة

فتنت فترة - في وقت مبكر- بماري جرجس - أو غيره من قديسي النصارى الذي واجه التنين ذا النيران المشتعلة المتأججة من فكه المرعب، كان يركب حصانا أبيض وقد التوى بجسده للخلف ليخترق رمحه جسد التنين، فأكاد أحس بأوار اللهب يشع من اللوحة، غير أن الفتنة - فتنتي - تراجعت - وبسرعة مذهلة لتتركز حول حكاية سيدنا يونس، الذي فر من قومه إلى مركب مشحون، ثم لم يلبث أن سقط منه في البحر فالتقمه الحوت، ولأنه صبر على بلائه فنجاه الله ليظل بطن الحوت له ملاذا ومقاما، ثم نبذه على شاطئ بالعراء وهو سقيم، ليعود فيكمل رسالته. كانت حكاية يونس والحوت أكثر (درامية) وشدا لأنظار أبناء الفقراء المسالمين، إلا أن الأمر سار فيما هو أخطر، فقد فشلت في تصور شكل الحوت. المكان الذي نشأت فيه على بضع ترعات وجداول على نهر النيل يمكنه أن يقدم لي سمكة طولها متر، أو ذراع، على أحسن الفروض، والكتب التي بأيدينا ترص على صفحات العلوم أنواع السمك القروي النيلي الذي يصلح أن ينام في صينية تصلح بدورها للدخول إلى بلاطة الفرن، دون زيادة. ولا يظهر أثر كبير للحوت في الحكايات الشعبية كما تظهر فيها العفاريت والغيلان.

بعد كل ذلك بسنوات داهمني هذا الروائي الأمريكي الفذ (ملفيل)، في روايته المتفردة: موبي ديك، كان (إهاب) بطل الرواية بحارا متخصصا في قيادة سفن صيد الحيتان في المنطقة الشمالية من الدنيا - وهي التي تقع بين جرينلاند وأطراف كندا والولايات المتحدة الأمريكية - وكان هذا القبطان أعرج بسبب مداهمة حوت لسفينته ثم مهاجمة الحوت له شخصيا مما أودى بساقه، ومن يومها وأصحاب السفن لا يرتاحون لهذا القبطان بسبب تراخيه عن صيد الحيتان مقابل البحث عن الحوت الشرير الذي دمر حياته، ولذا فقد كان يخرج في رحلات الصيد إلى آفاق المحيطات على السفن المتعبة التي لا تساوي ثمنا كبيرا (التي مضى عمرها الافتراضي)، وخلال ذلك كان الروائي ملفيل يفتح فصولا مستقلة ليصف صيد الحيتان، وإخراج الزيت، وفصل الغدد التي بها العنبر الشهير لقد كانت الرواية دائرة معارف عن الحوت، حتى كدت أنجح في تصوره، هذا التصور الذي استكملته بعد ذلك من السينما (عن نفس الرواية) ثم أفلام والت ديزني - الطبيعية أو الكارتون، فأحسست حينئذ بمدى ضخامة الحوت، الذي يعد أضخم المخلوقات في العصر القائم - بحرية أو جوية أو برية.

ولذا فإن الحوت يتمتع باهتمام عند عالم الحيوان العربي : الدميري، وفي مجال الإدراك الشعبي حين رمز لكل قادر على التضخم المادي بالحوت، وانتشرت صيغة الجمع - حيتان - على فصيلة من لا ضمير لهم من ذوي الثراء والجشع في العالم الثالث - (ظهرت هذه الصفة في عصر الرئيس أنور السادات في مصر)، ثم انزاحت هذه الصفة إلى ذوي الجشع والجهل، لكن اللفظ - الحوت - لم يسحب أثره المروع في خانة التصور الشعبي بصفته يرمز للمجهول الغادر، نرى ذلك بوضوح في صياغة أحجبة العداء والغدر بالأعداء والتي يربطها (الحجاب) في رقبة قرموط سمك كبير ويعيده للماء، لماذا قرموط السمك : لأنه قادر على الاستمرار حيا بعد صيده بساعات تصلح لأداء ربط الحجاب، ولأن شكله الانزلاقي يجعلنا نتصور أنه سوف يلتقي الحوت آخر النهار.

ولا أعرف علاقة القدماء الموغلين في فجر التاريخ - كالفراعنة - بالحوت، إلا أن كثيرين يرجعون رحلة السندباد - سواء التي فيها يطير به طائر الرخ أو التي فيها يقع مرهقا على جزيرة يكتشف أنها حيوان متحرك - والرحلة الحديثة الإنجليزية لروبنسون كروزوللروائي دانييل ديغو، الرحلة الأسبق التي دونها وليم داميير كلها تعود لرحلات الفراعنة في المحيطات - الهندي بالذات.

 

محمد مستجاب

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات