جمال العربية

جمال العربية

البلبل
لشاعر اليمن: محمد محمود الزبيري

كانت اليمن ولا تزال أرض الشعر..

ومن اليمن خرجت بنت قحطان، لسانا للعرب، ووجها أصيلا من وجوه الضاد أكمله الوجه العدناني، وكان من تجليات الوجهين إبداع العرب الأول وفنهم الخالد: الشعر.

ومثلما تألقت التجليات الأولى لبنت قحطان في طلليات امرئ القيس وبكائياته، ووثبات وضاح اليمن وانطلاقاته، فقد تتابعت عراها الوثقى في أشعار الزبيري والشامي والبردوني والمقالح.

ولعل أبلغ تصوير لشخصية الزبيري وشاعريته هو ما يطالعنا من خلال المقدمة الضافية التي أنجزها الشاعر والمفكر اليمني الدكتور عبدالعزيز المقالح. فهو يرى أن الزبيري ليس شاعرا فحسب ولا هو مناضل فحسب، بل هو كذلك صحفي وزعيم وطني روائي وكاتب وشهيد. والمقالح يتأمل حياة الزبيري التي تقلبت به من شاعر إلى صحفي إلى وزير إلى مهاجر إلى زعيم سياسي، وكيف أنه كان في كل موقف منها ذلك الوطني الجسور والثائر الزاهد، حتى توجت هذه الحياة المتنوعة النضال بالشهادة، حين استقرت رصاصة غادرة في قلبه الكبير لتضع حدا لطموح شاعر كبير ولتحقق حلما قديما ظل يراود الشاعر وقد عبر عنه بقوله :

بحثت عن هبة أحبوك يا وطني فلم أجد لك إلا قلبي الدامي

ويستوقفه في سياق تأمله ذلك الحدس الملهم الذي جعل الزبيري يتنبأ بمصيره، والطريقة التي سوف تنتهي بها حياته.

هل يكفي الآن أن يقال - في مناسبة الحديث عن نص شعري جميل من إبداع ختام الأربعينيات ومطالع الخمسينيات في رحلته الشعرية - إنه الشاعر الذي مهد الطريق أمام شعراء اليمن من بعده، وإنه جعل الشعر في خدمة الوطن والإنسان بعد أن كان الشعر والوطن والإنسان في خدمة الحاكم الطاغية، وإليه يرجع الفضل في انتشار هذا القدر من شعر الوطنية في شعر اليمن الحديث؟

الطريف أن الزبيري الذي يمثل شعره - في معظمه - الكلاسيكية الشعرية العربية في عنايتها بجودة الصياغة ورصانة التعبير وجهارة التناول - شأنه شأن نظرائه ومجايليه من شعراء الوطن العربي أمثال : بدوي الجبل وعمر أبوريشة ومحمد مهدي الجواهري وعلي الجارم ومحمود غنيم ومحمد حسن عواد وزكي قنصل وإبراهيم طوقان وأحمد الصافي النجفي وخير الدين الزركلي وجميل صدقي الزهاوي وشفيق جبري وعبدالكريم الكرمي ونديم محمد وغيرهم - أفلتت منه بعض الصرخات الشعرية الرومانسية التي كانت صدى لهموم الغربة والتشرد والحنين والإحساس بالوحدة والضياع، نتيجة لمشاعر الإحباط واليأس التي كانت تواكب فشل كل تململ ثوري من أجل تغيير الوضع القائم والانقلاب عليه وعلى رموزه. هذه الومضات الرومانسية في شعره لم يخل منها أيضا شعر علي الجارم ومحمود غنيم والجواهري وعمر أبوريشة. وربما كانت ظاهرة دوران "البلبل" و"الطائر الذي يتطلع إلى الحرية والفكاك من الأسر" وشيوعها في شعر العديد من الشعراء العرب في مناخ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وحدوث نكبة فلسطين وسيطرة أجواء الإحباط والقنوط والفقد والضياع - وهو المناخ الذي يشكل تربة صالحة للبذرة الرومانسية المحبطة - ربما كانت هذه الظاهرة صالحة للتناول والتحليل باعتبارها ملمحا من ملامح الحركة الشعرية العربية في نصف القرن الأخير.

الطريف أيضا أن الزبيري لم يسكب خلاصة معاناته وهمه الوجودي والكوني في قصيدته عن "البلبل" فحسب، وإنما هو يتابع الحد الشعوري الرومانسي في قصيدة ثانية أسماها "حنين الطائر"، وهي بدورها تجسيد وتشخيص لحنينه وتشرده من خلال صورة الطائر الذي هاضت الأيام والمحن جناحيه وأغرقته في نثار من النواح والدموع حين يقول :

أمل غير متاح.. وفؤاد غير صاح
أنا طير، حطم المقدور عشي وجناحي
ورماني في نثار من دموعي ونواحي
وحطام من بقايا وطن غير صحاح

إلى أن يقول:

سدت الطرق إلى عشي من كل النواحي
ذهل الدهر عن الفجر وما الدهر بصاح
لم أجد لمعة نور في اغترابي وانتزاحي

وقصيدة "البلبل" التي أبدعها الزبيري - شاعر اليمن الكبير - لا تقتصر على مجرد الصورة الشعرية الوصفية - التي يختلط فيها الرمز بالإيحاء في معادلة الطائر/ الشاعر، أو الشاعر/ الطائر، وإنما هي تتسع لألوان من النقد الاجتماعي والتنفيس عن هموم الشاعر ومعاناته الحياتية شبه اليومية، من خلال كيد الوشاة وما يتناقله من يتجسسون من الخونة والعملاء وذيول الطغاة وأذنابهم، ودأبهم أبدا وشغله الشاغل ملاحقة الأحرار ومتابعة الوطنيين والأحرار الشرفاء في كل زمان ومكان - يقول الزبيري :

أفي عالم الطير لؤم الوشاة ومن يتجسس أو ينقل؟
وهل للبلابل دين يصد عن الحب أو آية تنزل؟

إن البنية الشعرية لهذا النص الجميل تبدو شديدة التماسك، قوية الأسر، مفعمة بالنفس الشعري المتدفق، والخبرة الشعرية العميقة، والموقف الذي يتجاوز التجربة والحالة في دلالاته وإيماءاته، معلنا عن شموخ شاعر وكبرياء مناضل وعظمة إنسان. وهي صفات ثلاث اجتمعت في الزبيري وتكاملت فيه، وكان - بحياته وشعره - تجسيدا فذا لها، ومرآة صدق شاهدة عليها، كما أن سلاسة التناول وأداءه الهامس - الخالي من الجلبة الصوتية والطنين اللفظي - أكسب القصيدة رهافة وقدرة على الانسياب في النفس والتواصل مع أدق خلجاتها تعاطفا ومشاركة، واستنفارا للمهمة وحثا على التجاوز. ومن هنا يجيء الموقف الشعري الذي يجسده الشاعر، انطلاقا من أسر الحالة إلى فضاء الشاعرية المطلق، وآفاقها الرحبة البعيدة.

وفي مجال المقارنة بين قصائد الشعراء الثلاثة : الجارم وأبوريشة والزبيري يسهل اكتشاف وجه التشابه بينهم في الحالة والموقف، وتتباين طرائقهم في التناول، ولغتهم في التعبير، وقدراتهم على التصوير. فبينما تمتلئ قصيدة الجارم بجو الغربة والاغتراب والعزف على وتر الوحدة وشجن البعاد، تنزع قصيدة أبوريشة إلى مواجهة الزمن والإحساس بوطأة العمر والضيق بالسجن الذي يتمثله الطير في القفص والشاعر في الوطن المستباح والعيش الذليل، بينما يدعو الزبيري - في قصيدته - إلى غناء الطبع الذي يتدفق شجيا حرا - حفل به الآخرون أم لم يحفلوا - وإلى إطراح الصنعة والتصنع، لأن الفن الجميل وليد الفطرة والسجية، لا التعمد والافتعال والزيف. فالغناء للنفس هو الغناء الأسمى، الذي لا ينتظر صاحبه من ورائه نفعا أو شهرة أو جاها، فليكن الشدو والغناء لذات الفن، لا للأحداث والخطوب مهما تعاظمت واشتدت. ولعل الزبيري هنا يمتح من دعوة جماعة الديوان في الشعر الحديث الذين رفعوا شعار "الشعر وجدان " باعتباره رد فعل قويا لشعر المناسبة الخارجية التي لا تحرك من وجدان الشاعر إلا قشرة خارجية هشة، لا ماء فيها ولا حرارة، لا صدق فيها ولا انفعال. ولعل هذا الموقف يقدم لنا تفسيرا لبعض آثار الزبيري الشعرية التي تكشف عن نزعة فيه إلى التجديد- بالمعنى المألوف والمتداول الآن - والرغبة في تغيير فضائه الشعري وتجاوزه، وإبداع صيغة شعرية مواكبة لبواكير الحركة الشعرية الجديدة التي بدأت أنغامها الأولى مع ختام الأربعينيات ومطالع الخمسينيات.

يقول الزبيري :

إني هنا
ومشاعري تطوي الحياة
وأنا وقلبي
نتحسس الأمل الكبير
في أن أفيق

والآن إلى قصيدة الزبيري : "البلبل"

بعثت الصبابة يا بلبل

كأنك خالقها الأول

غناؤك يملأ مجرى دمي

ويفعل في القلب ما يفعل

سكبت الحياة إلى مهجتي

كأنك فوق الربى منهل

ترتل فن الهوى والصبا

شجيا وإن كنت لا تعقل

وما الحب إلا جنون الحياة

وجانبها الغامض المشكل

غزتك إلى الوكر مأساته

ومسك من خطبه المعضل

فضاق بك الروض في رحبه

وأنت بأجوائه مرسل

نكبت بما نكب العاشقون

وحملت في الحب ما حملوا

هدوؤك في طيه مرجل

وريشك من تحته مشعل

خفيف على الغصن لكنما

فؤادك من لوعة مثقل

أنينك ينساب بين الغصون

كما انساب من نبعه الجدول

ويسري إلى القلب مسرى الحياة

وفيه من الوجد ما يقتل

حبيبك جارك بين الزهور

وبينكما دوحة تفصل

ولست بعيدا على ناظريه

فمالك من أجله تعول

جناحك فيك فلم لا تطير

إلى ما تحب وما تسأل

أفي عالم الطير لؤم الوشاة

ومن يتجسس أو ينقل

وهل للبلابل دين يصد

عن الحب أو آية تنزل ؟

ألا أيها البلبل العبقري

والصادح المدره الفيصل

تنفس فأنفاسك الخالدات

روح الرياض التي ترفل

جناحك آمن من ظلها

وريشك من زهرها أجمل

وأنت السعيد الوحيد الذي

حباك الزمان بما يبخل

غناؤك للطبع لم تكترث

أضاعوا فنونك أم سجلوا

وتنشد وحدك ما إن تحس

بمن يحتفي بك أو تحفل

وتأبى التصنع بين الجموع

وإن صفقوا لك أو هللوا

وتبكي لفنك لا للخطوب

وإن كان فيهن ما يذهل

تغني وترقص في دوحة

كأن أزاهيرها محفل

ترحب بالشمس قبل الشروق

كأن حماك لها موئل

توهمتها وقفت نفسها

لوكرك ضيفا به تنزل

كأنك حاتم في خدره

يحيي الضيوف ويستقبل

أتوه فقيرا وفي صدره

فؤاد وفي فمه مقول

 

فاروق شوشة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات