القدس كما عرفتها

القدس كما عرفتها

هذا جميل من المرحوم الدكتور نقولا زيادة مؤرخنا وشيخنا الجليل أن يكتب بهذا الأسلوب الرائع عن مدينة القدس، لقد كنا ننتظر محاضراته بفارغ الصبر لما فيها من الفوائد الجمّة، وكنا نطالع مؤلفاته القيمة باستمرار. وبخصوص موضوع القدس الذي طالعناه لمؤرخنا بمجلة «العربي» بتاريخ 1 يونيو 2006 في العدد (571) بعنوان «القدس كما عرفتها».

«وهو يكتب عن مدينته التي ضاعت منه وأضعناها نحن»، ولست أعرف إلى متى سيستمر ذلك؟ كيف لا والقدس مسقط رأسي وفي حارة المغاربة بالذات المجاورة للمسجد الأقصى وفي آخر ساحة حائط البراق، قرب زاوية المغاربة. وكنا ونحن طلاب في قسم المعلمين بمعهد إدارة الأعمال، بيت حنينا (دار المعلمين). وفي العام 1965 وكمثل مؤرخنا نذهب في رحلاتنا أثناء الإجازات المدرسية، وقد زرنا أريحا والبحر الميت وطولكرم ومعهد خضوري الزراعي، ورام الله ومعهد المعلمين، وكنا نقطع المسافة بين بلدة بيت حنينا والقدس سيرًا على الأقدام لنزور سور القدس وبواباته، ولنصلي في  المسجد الأقصى.

ويتساءل مؤرخنا عن مصير مدرسة شنللر بمدينة الناصرة، لقد صارت هذه المدرسة بعد عام 1948 مصحًا للمرضى. ثم معسكرًا للجيش، حيث امتلكها اليهود كقسم من التعويضات الألمانية لهم. وبخصوص مدرسة شنللر بمدينة القدس، فقد أسسها يوحنا لودفيغ شنللر عام 1860، وسميت باسم «دار الأيتام السورية» لأنها كانت تضم أيتامًا من فلسطين وسائر ولايات الشام، والهدف من تأسيسها وضع قدم للألمان في المنطقة كباقي الدول الأوربية، فمثلاً الجمعية الخيرية الروسية الفلسطينية الأرثوذكسية أنشأت المدرسة الروسية بمدينة الناصرة عام 1882، والروس هم أول من أنشأ المباني في خارج  سور القدس عام 1856 كمبنى المسكوبية، وبمدرسة شنللر يتلقى الطلاب دروسًا في الصناعات التالية: النجارة، والحدادة، والخياطة، والطباعة، والخزف، والفخار، والأحذية، والموسيقى، وبالمدرسة مصنع للبلاط والطوب، وبها فرع للتعليم الابتدائي، وأضيف إليها بقرية بيرسالم (غربي مدينة الرحلة) فرع زراعي عام 1906، وأضيف القسم الثانوي عام 1910 وهنالك فرع للتبشير، وتأسس نادي خريجي دار الأيتام السورية عام 1932. وأضيف لها فرع لتدريب المعلمين عام 1948، لقد احتلتها القوات البريطانية عام 1939، ونقل فريق من الأيتام إلى مدينة بيت لحم، وفريق آخر نقل إلى مدينة الناصرة في شمالي فلسطين، وقد أعيد فتح مدارسها عام 1941، واستولى عليها اليهود عام 1948، وصادروا الأراضي والمباني العديدة التابعة للمدرسة وضمّوها إلى ممتلكاتهم كقسم من التعويضات الألمانية لليهود، ويقال إن الجمعية الخيرية الألمانية اضطرت إلى بيعها تحت التهديد اليهودي.

وعند حديثه يقول: «ووصلنا باب النبي داود، ثم سرنا داخل المدينة..» وهذه المنطقة اسمها حارة الشرف، ثم عُرفت باسم «حارة اليهود»، وقد استأجر اليهود بيوتها من أهل القدس (دلالة على التسامح الإسلامي)، حيث إن 90% من بيوتها أصلاً  تعود لعائلات مقدسية، ومنازلها من الأوقاف الذّرية التي يعود ريعها للمسلمين. كما أن المقبرة اليهودية خارج سور القدس والقريبة من شارع أريحا، فجميع أراضيها من الأوقاف الإسلامية الموجهة لليهود (دلالة على التسامح الإسلامي)، استأجر اليهود مئات عدة من الدونمات لدفن أمواتهم، ولكن وفي العام 1999 منع اليهود أي تعديل في رصيف طريق أريحا وعرضه يعادل مترًا واحدًا تقريبًا بحجة أن هذا الرصيف قريب من مقبرة اليهود.

باب المغاربة

ثم يقول مؤرخنا: «وبعد اتجاه شمالي وصلنا إلى باب في الجهة الشرقية من السور..» (لم يذكر اسم هذا الباب...)، هذا هو باب المغاربة ومنه يدخل إلى حارة المغاربة المجاورة لحائط البراق، ويسمى أيضا باب حارة المغاربة وباب سلوان حيث يخرج منه السكان إلى بلدة سلوان المجاورة، وهي بلدة كبيرة وعامرة الآن، وحارة المغاربة إحدى حارات القدس، وهي كبيرة المساحة وموقوفة على المغاربة ومسكنهم بها حتى 5 (يونيو) 1967، وتعود أصولهم إلى الجزائر وتونس والمغرب، إضافة لعائلة واحدة أصلها من موريتانيا (شنقيط)، رحلت إلى المغرب بعد ذلك واستقر أفرادها عند أقاربهم بالدار البيضاء.

وبالنسبة لزيارة غليوم الثاني إمبراطور ألمانيا لمدينة القدس يوم 29 أكتوبر 1898، وبمعيته قرينته الإمبراطورة ، رأت الحكومة العثمانية أن باب الخليل في سور القدس ضيق ولا يكون كافيًا لمرور الجماهير، فثغرت السور لإنشاء طريق لمرور الناس هناك، وحسب رواية أخرى، وبما أنه لا يسمح بدخول زائر إلى القدس راكبًا جواده، نشأت مشكلة عويصة لدى السلطات العثمانية في عهد السلطان عبدالحميد الثاني، فاقترح عليه رئيس وزرائه فتح قسم من سور القدس الذي يقع بين باب الخليل وقلعة القدس، ويبلغ طوله أقل من عشرة أمتار، فهدم هذا القسم من السور، فاجتازه الإمبراطور من هذا المكان راكبًا جواده، وفي عهد الانتداب البريطاني استعمل هذا القسم لدخول السيارات إلى داخل سور القدس.

وبخصوص الشيخ القسّام، كتب مؤرخنا اسمه عبدالعزيز، واسمه الصحيح عز الدين القسام، («العربي» تعتذر لهذا الخطأ المطبعي في الاسم فمؤرخنا الراحل لايمكن أن يخطئ في اسم القسام) وهو من مواليد بلدة جبلة السورية جنوب اللاذقية عام 1882، وتخرج في الأزهر، وجاهد ضد الاحتلال الفرنسي في بلاده فحكم عليه بالإعدام، وهاجر إلى مدينة حيفا عام 1921، وناضل نضالاً شرسًا ضد الانتداب البريطاني في فلسطين حتى استشهاده في أحراش بلدة يعبد قرب مدينة جنين يوم 19 نوفمبر 1935، حيث بقي صامدًا مع 11 مجاهداً من رفاقه عندما طوّقتهم القوات البريطانية، وقد بلغ عدد جنودها 400 جندي تدعمهم الطائرات، وانتهت المعركة باستشهاد خمسة مجاهدين وأسر البقية. وعند تجواله قرب الباب الجديد، يوضح أنه أطلق عليه اسم باب عبدالحميد (السلطان العثماني) حيث جرى افتتاحه عام 1887، ولكن الحاكم العسكري الإنجليزي للقدس عام 1917 اختار له اسم الباب الجديد بالاتفاق مع السكان.

ويحدّثنا عن باب أو شارع خان الزيت، وهو أجمل أسواق القدس العتيقة، وعُرف بذلك نسبة لخان الزيت الذي كان يقع في داخل السوق، ويبدو أنه سار في شارع سوق خان الزيت ليصل إلى ساحة كنيسة القيامة، ولو سرنا في الطريق التالي وهو الطريق الأقدم والأشهر لوصلنا إلى حارة الواد، وإلى ساحة المسجد الأقصى، وطريق الواد، أو سوق باب الواد، وكان في عهد اليبوسيين بُناة القدس يسمى وادي صنّاع الجبن أي وادي التروبيون (دلالة على عروبة القدس).

وعن التأرجح الذي لاحظه مؤرخنا في القيادة الوطنية بعد الاحتلال البريطاني لفلسطين، وما بعدها بمرحلة المهادنة التي حصلت، لقد حدثت ثورات عدة ضد الاحتلال البغيض، وكان الحاج أمين الحسيني يميل في بداية الأمر إلى الجهود السياسية  لحصول عرب فلسطين على حقوقهم حيث لم يكن عرب فلسطين مستعدين بعد لخوض الكفاح المسلح، وكان من رأيه أن يتجنب الوطنيون الوقوع في أيدي الإنجليز لأن القبض عليهم واعتقالهم سيحرم الحركة الوطنية من جهودهم وأعمالهم وينزل الضرر بالقضية. لقد اعتقل الإنجليز الحاج أمين الحسيني عام 1919، وحاولوا اعتقاله ثانية عام 1920 فما كان منه إلا أن هرب إلى مدينة الكرك في الأردن، وحُكم عليه بالسجن خمسة عشر عامًا غيابيًا. وقد أوصت اللجنة الملكية فيما بعد بقرار بتقسيم فلسطين عام 1927، فأصدر المفتي الحاج أمين الحسيني بيانًا شديدًا ضد التقسيم، وقررت اللجنة العربية العليا محاربة مشروع التقسيم، وعن خروج الحاج أمين، فقد كان يميل إلى مغادرة القدس بعد أن حاصر الجنود المسجد الأقصى للقبض عليه، وهم من الهند، وكان جمهور غفير من المجاهدين ومعهم أسلحتهم، قد هرعوا لحماية المفتي والدفاع عن الأقصى، وهرع القرويون إلى أسلحتهم استعدادًا للقتال، ولكن المفتي كان يخشى أن يقع اصطدام بين الشعب والجند الهنود (وهم مسلمون) وأن تراق الدماء في ساحة بيت الله، فقرر مغادرة فلسطين، فخرج من بيته، بزي بدوي عربي فجر 12 أكتوبر 1937 (وليس عام 1939)، لقد كان المفتي يعتبر قضية فلسطين قضية العرب كلهم وقضية العالم الإسلامي، وأن الظلم مرتعه وخيم، وأن الاستعمار سيتلاشى ويضمحل لامحالة، وشواهد التاريخ كثيرة.

خليل عبدالكريم
عمّان - الأردن