أرقام محمود المراغي

أرقام

الخليج: التحدي والاستجابة

ثلاث سنوات من عمر الخليج العربي.. ذلك هو موضوع التقرير الذي صدر في منتصف عام 1995، واصفا بالأرقام ما جرى في أعوام (92، 93، 94). الأرقام حول التجارة الخارجية، لكن الدلالة تمتد لما هو أبعد من ذلك.. تمتد للسياسة، والجغرافيا، والاقتصاد. تراجعت صادرات دول مجلس التعاون الخليجي - كما تقول منظمة الخليج للاستشارات الصناعية - وكان التراجع مطردا. كانت الصادرات عام 92 : (95.6) مليار دولار، فأصبحت (94.4) ثم (89.6) مليار دولار في العامين التاليين.

الانخفاض طبيعي، فانخفاض أسعار النفط يترك بصماته بالضرورة.. والانكماش العالمي الذي ساد لعدة سنوات يعني استهلاكا أقل من النفط.

قلت حصيلة النفط، وهو أمر مستمر منذ الثمانينيات، وبعد أن انتهت الحقبة النفطية التي اقترب فيها سعر البرميل من أربعين دولارا. الانخفاض كان متوقعا، والتوقع أصبح متحققا. الجديد، هو ما حدث في الجانب الآخر من التجارة الخارجية لدول مجلس التعاون الخليجي.. أعني الواردات. تقول الأرقام إنه في عام 94 - وهو آخر أعوام المقارنة - بلغت نسبة الانخفاض في الواردات ثلاثة أضعاف نسبة الانخفاض في الصادرات. انخفضت الأخيرة بنسبة (5%).. وانخفض الاستيراد بنسبة 14%.. أي أنه بينما استمر الطلب مرتفعا نسبيا على صادرات الخليج، أمكن التحكم في الاستيراد وبدرجة أعلى، وعلى غير ما كان متوقعا. خلال السبعينيات توقع البنك الدولي في تقرير له أن تنتهي الثورة التنمو ية التي صاحبت ارتفاع أسعار النفط، وأن يعود هيكل الطلب في الخليج إلى الانكماش بعد تحقيق درجة عالية من التشبع في مشروعات الخدمات والبنية الأساسية، وبالفعل شهدت دول الخليج خططا طموحا خلال السبعينيات، فجرى التوسع في المرافق والخدمات وتحولت أكثر من دولة إلى ما تسمى دولة الرفاهية، وزادت التزامات الحكومات تجاه المواطنين.. لكن توقع البنك الدولي لم يتحقق بهذه السرعة فيحدث التشبع، وينكمش الطلب على كل ما هو أجنبي ووارد الخارج.. من سلع أو عمالة أجنبية.

كانت عوائد النفط كافية لأن تستمر عجلة البناء والتوسع الاقتصادي برغم أي شيء.

ولكن، وفي وقت لاحق، ومع انخفاض أسعار النفط بدأت التوقعات في التحقق.. وباتت المعضلة كيف يمكن الانكماش بعد توسع ؟.. كيف تستطيع الدول أن تقوم بتخفيض نفقاتها العامة.. وإذا كان ذلك ممكنا في مجال الاستثمار الجديد، فهل يمكن أن يتم في مجال آخر مثل الأجور ودخول العاملين ومصروفات تسيير الدولة ؟

السؤال ظل قائما في الثمانينيات.. لكن أصبح أكثر إلحاحا في التسعينيات حين وقعت حرب الخليج الثانية وبدأت بلدان المنطقة في زيادة نفقات الدفاع والتسليح وبما جعل الموازنات العامة أمام تحد حقيقي: إيرادات أقل، ونفقات أكثر. شهدت أكثر من دولة عجزا على المستوى القومي بين الدخل والاستهلاك العام.. وشهدت أكثر من دولة عجزا على مستوى ميزانية الدولة فلجأت إلى الاقتراض مع خطوات لترشيد الإنفاق وتدبير موارد جديدة. كانت هناك بالضرورة سياسة مالية مختلفة، لكن المؤشر كان: أي أثر يحدثه ذلك في مجمل الاستهلاك ومجمل الاستثمار ومجمل التجارة الخارجية ؟.. إلى أي حد تتحقق المرونة فتستجيب اقتصاديات الخليج للظروف الطارئة التي بدأت بحرب النفط، وانتهت بحرب العراق ؟ و.. لأن التجارة الخارجية هي مرآة الاقتصاد.. هي طرفه الأخير الذي ينبئنا عن أحوال الإنتاج والاستهلاك والفائض أو العجز على المستوى القومي، لأن الأمر كذلك فقد باتت أرقام الصادرات والواردات ذات دلالة كبيرة. الأرقام الأخيرة - وحتى عام 94 - تشير إلى أن طبيعة الاقتصاد الخليجي، برغم التسهيلات المتبادلة، لم تستطع أن تقفز بحجم التجارة بين دول الخليج.وفيما يسميه رجال الاقتصاد "التجارة البينية".. فظلت الصادرات الخليجية المتجهة للخليج في حدود (6.5%) من مجمل صادرات دول مجلس التعاون.. بينما زادت الواردات على تلك النسبة بدرجة ضئيلة.. والسبب واضح وهو أن الإنتاج الرئيسي - وهو النفط ومنتجاته - لا يصلح سلعة تبادلية بين دول المجموعة، فكلها منتج لنفس الشيء !

ذات السبب - وهو نمط الإنتاج واعتماد الاقتصاد على نشاط رئيسي واحد - كان هو المؤشر في التعامل مع الآخرين. اليابان تأتي على رأس قائمة المستوردين، وتحتل وحدها (24.1%) من صادرات المنطقة عام 94، وتليها السوق الأوربية بنسبة (12.3%).. ثم الولايات المتحدة بنسبة (11.3%). وهكذا حكم النفط كل شيء فجاءت اليابان أولا، والتي يتوقع أن يزيد اعتمادها على نفط الخليج بعد تحول الصين ودول آسيوية أخرى من مصدر إلى مستورد للنفط.

ثم، وبعد اليابان تأتي أوربا. كثاني أكبر مستهلك لنفط الخليج.. ثم الولايات المتحدة التي تملك مصادر أكبر من الطاقة والاعتماد على الذات. في الاستيراد، اختلف الأمر. فتحكمت طبيعة الواردات، وجغرافيا الأسواق.. فأتت أوربا على رأس القائمة. وبنسبة عالية تقترب من ثلث واردات الخليج.. و.. تلتها الولايات المتحدة (13.3%).. ثم اليابان (11.1%).

ثلاثة عملاء رئيسيون، ثم يأتي ما تسميه التقارير"بقية دول العالم" التي يرتفع نصيبها في الاستيراد من الخليج إلى (46.7) عام 94 .. بينما يهبط ذلك النصيب عندما يشتري الخليج احتياجاته من الخارج فيكتفي بشراء 36% من هذه الاحتياجات.. من دول أخرى، غير السوق الأو ربية، واليابانية، والأمريكية.

ملاحظات أساسية

هنا يمكن أن نلاحظ: أولا، إن تراجع عوائد النفط مستمر طيلة السنوات الثلاث ( 92، 93، 94 ).

ثانيا، وبالرغم من ذلك فإن انخفاض الصادرات يتم بنسبة أقل من انخفاض الواردات.. والميزان لصالح الخليج فقد بلغت صادرات المنطقة - عام 94 - (89.5) مليار دولار.. بينما بلغت وارداته (64.8) مليار. الفائض كبير، ومع ذلك فإن تخفيض الواردات مستمر، وبما يعني أن سياسات جديدة قد جرى اتباعها وساعدت على تحقيق مرونة الطلب، فتم تخفيضه دون آلام كبيرة. ربما ساعد على ذلك انكماش الاستثمارات الحكومية الجديدة، وربما ساعد في بعض البلدان انخفاض الاستهلاك والرغبة في الشراء، بسبب تراجع أعداد الوافدين، أو بسبب القلق والميل للادخار والاستعداد لأي طوارئ. ميزانية الأسرة اختلفت أولوياتها، فانعكس ذلك على ميزانية الدولة وميزانها التجاري. بطبيعة الحال، فإن ميزان المدفوعات قد يكون شيئا مختلفا، لأن الفائض التجاري قد يتجه لسداد التزامات غير منظومة مثل الديون والقروض والأقساط والفوائد.

و.. تبقى الملاحظة الثالثة وهي أن العلاقات الاقتصادية الخارجية لا تسير بالضرورة بالتوازي مع العلاقات السياسية والأمنية. لقد احتلت الولايات المتحدة الأمريكية المكان الأول في العلاقات السياسية والأمنية مع دول الخليج في التسعينيات لكنها لم تحتل نفس المكان في المبادلات التجارية والتي قد تشمل أيضا: معدات الدفاع. الاقتصاد يحكمه النفط.. وتحكمه الجغرافيا، ومن هنا تحتل كل من اليابان وأوربا ذلك المكان المتميز. ولكن، وفي كل الأحوال فإن علينا أن نقول: إن شركاء ثلاثة لدول الخليج.. متنافسون أشد التنافس، متعاونون أشد التعاون.. وإن الخليج - وعلى غير المتوقع - استطاع أن يعيد النظر في حجم إنفاقه وأولويات هذا الإنفاق. الأزمات صنعت الكثير، لكن الاستجابة كانت قائمة 0 يقول المؤرخ العالمي توينبي إن ما يصنع التاريخ هو التحدي والاستجابة. وقد كان ما جرى في الخليج أخيرا نوعا من الاستجابة الضرورية، ولكن.. ماذا عن المستقبل.. واستراتيجياته؟ تلك هي القضية.

 

محمود المراغي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات