التضحية بالمشروع الخاص

التضحية بالمشروع الخاص

سنوات طويلة من العمل الثقافي العام أمضاها الأديب سمير سرحان خادمًا نجيبًا للكتاب ومبدعيه، بعد أن تحوّل عن كتابة مشروعه الأدبي والنقدي إلى مسار دعم الثقافة العربية عبر مشاريع جماهيرية، تخللتها ومضات يتناولها أحد رفاقه.

نجمان في سماء الحياة الثقافية المصرية والعربية المعاصرة، هما سمير سرحان وجابر عصفور، خرجا من الجامعة، ومن العمل الأكاديمي، ليمارسا العمل الثقافي العام، ويلتحما بهموم المثقفين وأشواقهم ومطامحهم، ويعانيا من انشطار دائم بين الولاء للسلطة - مُمثّلة في وزير الثقافة وغيره من أصحاب مراكز القوة - والإخلاص لفكرهما المستقل، ونزعتهما التنويرية، والتمثيل الحقيقي لحرية الفكر وأنوار العقل.

كان سمير سرحان هو الأسبق في خوض هذا المعترك، من خلال موقعين شديدي الأهمية في حياتنا الثقافية، تأثيرًا وفاعليًا، هما هيئة الثقافة الجماهيرية (التي أصبحت الآن هيئة قصور الثقافة) - وكانت التسمية الأولى أكثر دلالة وأعمق حسًا ومعنى - والهيئة المصرية العامة للكتاب - وبدأ الارتطام بالقاعدة العريضة من المثقفين والمفكرين والكتّاب والمبدعين، الحقيقيين وغير الحقيقيين، المقتحمين للموائد بغير استحقاق، والعازفين عن العرض والتقدم بالطلب، يمنعهم الحياء ويحول بينهم وبين العديد من فرص الحياة، وساعد تكوين سمير سرحان الفني، وطفولته الرائعة وقلبه المرهف، وحسّه الذّكي، ساعد هذا كله في صنع ثقوب كثيرة في الثوب الجميل، والخضوع لمجاملات وضغوط من اتجاهات متعددة ومختلفة، ومراعاة أشياء لم يكن يراها ولا يُحِسّ بها سواه. ولولا أن ما حققه سمير سرحان - من خلال المشاريع الثقافية الكبرى التي ارتبطت باسمه، وبخاصة مشروع القراءة للجميع ومكتبة الأسرة - من إيجابيات هائلة، ونجاحه الفذ في استعادة عادة القراءة لدى أجيال عدة من أبناء الشعب المصري والشعوب العربية، بفضل ما أتاحه للملايين في كل مكان من كنوز ما سبق نشره، وما نفد ولم يعد متاحًا، والجديد الذي لابد من متابعته وملاحقته، وما يتوهج به الفكر الإنساني والعالمي من موروث ثقافي وإبداعي قديم وحديث ومعاصر، وبخاصة في أن يصبح معرض القاهرة الدولي للكتاب، تظاهرة ثقافية عظمى، وعرسًا للثقافة والمثقفين، وهايد بارك - مصرية وعربية - تشهد أخطر الآراء والأفكار وأجرأها، وتعيد إلى الجماهير وجوهًا شديدة التميّز والتأثير، لم يكن متاحًا لها النفاذ إلى هذه الجماهير من خلال وسائل الإعلام الرسمية، ولا لكتاباتها التداول والانتشار، فضلاً عن الالتفات الذكي إلى كل مستويات التلقي والإبداع الثقافي عند أجياله العديدة، وخلق مساحات واسعة لأصوات الأجيال الجديدة، الغاضبة والمستوفزة والرافضة وغير الداجنة، لتعلن عن نفسها وتؤكد حضورها في حرية ودون خوف أو ملاحقة. هذه الإنجازات والإيجابيات، لا يمكن أن يقارن بها أو يقف في طريقها ما يلوكه البعض من سلبيات سمير، باعتباره واحدًا من قادة العمل الثقافي العام، يعمل بمال الدولة - ومن هنا تجيء التبعة والمسئولية، عندما يرددون كلاماً عن بعض المجاملات هنا وهناك، واعطاء فرصة لغير المستحقين، والخضوع كثيرًا للسلطان الطاغي لرؤساء مجالس الإدارة والتحرير السابقين في الصحافة المصرية، عندما كان كثير من كتبهم يُتوّج دائمًا بالفوز بجائزة معرض الكتاب السنوية، والتكريم من رئيس الدولة، بينما شهود الحفل من المثقفين الحقيقيين يتندرون ويسخرون ويعلنون أن هذه الكتب لا يمكن أن تعيش لأكثر من يوم واحد، وأن الضغوط التي مارسها أصحابها هي التي جعلت من هذه الكتب كتبًا فائزة، متصدرة للمشهد الثقافي كله. لكن هذا لا يطعن في شرف سمير سرحان، ولا في نزاهته، ولا في تكوينه الثقافي والمعرفي، واستحقاقه لمواقعه في مؤسسات العمل الثقافي وهيئاته.

نجم آخر

على الجانب الآخر، كان هناك جابر عصفور، الذي ترك الجامعة إلى العمل الثقافي العام بعد سمير سرحان بسنوات عدة. لكن طبيعة الموقع الذي أتيح لجابر أن يمارس من خلاله مشروعه التنويري، وطبيعة جابر عصفور نفسه، الذي حرص على عدم التخلي عن الأكاديمية فيه، لا بمعنى الحرص على أن يمارس الأستاذية والعمل الجامعي من خلال المحاضرات والدراسات والإشراف على الرسائل، ولكن أيضًا بالإضافة إلى هذا - بمعنى التكوين الأكاديمي فيه، والذي يتطلب صلابة قوام، وحرصًا على المنهج، وتمسّكا بالنزوع العقلاني، وحرصًا على حماية شخصه وموقعه من ضغوط العمل العام، ما أمكنه ذلك.

صحيح أن سمير سرحان - بدوره - لم يهجر الجامعة ولا العمل الأكاديمي تمامًا، وكان حريصًا بدوره على أن يكون له جدول محاضرات وأبحاث وإشراف في قسم اللغة الإنجليزية بآداب القاهرة، لكن الطابع الأكاديمي له وفيه، كان ينداح عامًا بعد عام، وكان هو يبتعد عنه بالغرق في هموم العمل العام وشواغله، وأحيانًا فيما يتيحه من علاقات اجتماعية وفنية، الأمر الذي جعل جابر عصفور ناجحًا في القبض على هذا الملمح، وتعزيزه بما يصدره بين الحين والحين من دراسات معمّقة، هي حصيلة كتاباته الجادّة المسئولة هنا وهناك، وبقيت صلته بالقلم، أكثر حيوية وتوهّجا، لأن العمل العام، والصدام في معركة التنوير جعل كتاباته أكثر سخونة، واشتعالاً بضراوة هذه المعركة، وحدود المسئولية التي تطوّقه كاتبًا ومفكرًا بارزًا، ويتحرك من خلالها المجلس الأعلى للثقافة في مصر.

وصحيح أيضًا أن سنوات العمل الثقافي العام، لم تحل بين سمير سرحان وبعض تجليات قلمه في الكتابة. فقد بدأ يمارس كتابة المقالة، وسرعان ما تحوّلت مقالاته إلى صيغة تجمع بين فنون السرد والدراما، وهي الفنون التي عُرف بها سمير سرحان في زمن توهجه، مؤلفًا مسرحيًا، وكاتب قصة، ومترجمًا وناقدًا. أصبحت المقالة هي المتنفّس الوحيد الذي يفصح من خلاله عن الجذوات المتبقية من خميرته الإبداعية القابعة في وجدانه وفي جيناته. وهو يدرك - عامًا بعد عام - أن مشروعه الخاص في الإبداع يتوارى شيئًا فشيئًا، ليفسح المجال وقتًا وجهدًا وانغماسًا وإخلاصًا للمشروع الثقافي العام لبلده ولكل العرب.

غرق مشروع

إنه يدرك - وهو ينزف في داخله - كم ضحّى بمشروعه الشخصي الذي أهّله له تكوينه والأصل فيه هو الفنان لا الموظف، والمبدع لا الناشر والموزّع، والعجز عن التحقق وعن الوفاء بمتطلبات المشروع الخاص، يبدأ صغيرًا وغير مفزع، خاصة عندما ينجح صاحبه في التدبير والتأويل والاستجابة لدواعي التأجيل والتسويف. ثم يصبح التأجيل الدائم هو القاعدة وهو القرار العاجل والآجل. ويكتشف سمير سرحان، بعد عشرين عامًا قضاها على رأس الهيئة المصرية للكتاب، أنه نجح في تحقيق المشروع العام الذي تطلبّه المجتمع، بينما سُرق من مشروعه الخاص الذي كان مؤهلاً لإنجازه، حالمًا بتحقيقه، مراهنًا عليه، بتعليمه وتثقيفه وذكائه وحيويته. أدرك مثلاً كم كان يفسح لصديق عمره ورفيق مشواره الدكتور محمد عناني - عميد المترجمين من الإنجليزية إلى العربية في مصر - من مساحة تتسع لتحقيق مشروعه في ترجمة الأعمال الكاملة لشكسبير وغيرها من الأعمال الكبرى الأساسية والمؤثرة، وفي ترجمة أعمال مختارة من الإبداع المصري والعربي المعاصر إلى الإنجليزية في الوقت نفسه، بينما يدرك هو - أي سمير سرحان - أنه بحكم الوضع والمسئولية والوظيفة، عاجز عن أن يكون مجليّا في السباق، لقد كبا حصانه وتوقف عن مجاراة الخيول الرابحة منذ زمن طويل، فلم تبق إلا الحسرة التي يمكن أن ينفذ منها «فيروس عدم التحقق» إلى صميمه، بينما يخفيه هو وراء أحضانه المفتوحة دومًا لأصدقائه وخصومه، وابتسامته دائمة الإشراق والحفاوة والمودة لكل المثقفين الهاجمين عليه والمقتحمين له في الزمان والمكان، وفرحه الطفولي النبيل بإنجازات الآخرين، ونجاحاتهم، ومشاريعهم، وطموحاتهم التي ستبقى في الذاكرة، لأنها تجسّدت في إنجازات حقيقية، مطبوعة ومنشورة، مقارنة بإنجازاته في الوظيفة، التي ستتوارى مع مغادرته لباب الهيئة المصرية العامة للكتاب لآخر مرة، فلا يجد وسام الدولة في انتظاره، لقاء الجهد الهائل والاستثنائي الذي قام به خادمًا للثقافة، وسفيرًا لها، ومخططًا لعشرات المشاريع ومُنفّذا لها، واستشاريًا وناصحًا ومُوجهًا وراء الكثير من القرارات والتوجهات، التي لا يكاد يذكر دوره فيها الآن أحد.

من المؤكد أنّ اصطفاق باب هيئة الكتاب وراء سمير سرحان لآخر مرة، كان بمنزلة اللحظة التراجيدية - التي تمثل ذروة الأحداث - والتي يتكشف فيها لعيني البطل المقهور أن ما وراءه وما أمامه ضياع كامل وفقْد مطلق. عشرون عامًا متصلة - لم يتح مثلها لأي مسئول ثقافي آخر رأس هذه الهيئة وقبع خلف أبوابها - كانت بحساباته هو صعودًا إلى قمة هرم العطاء والإنجاز والتضحية بالذات وبالمشروع الإبداعي الخاص، لكنها - من وجهة نظر الدولة لم تكن أكثر من سنوات وظيفية، أتيح لصاحبها خلال نعمة المدّ بعد المعاش لثلاث سنوات إضافية، فما الذي يريده أبعد من ذلك؟ الواقع أنه كان يريد الكثير، لا لنفسه كما هو دأبه وعادته، ولكن لمشروعه العام المستمر، بعد أن وعد بأن يكون مسئولاً عن مهرجان القراءة للجميع، وعن مكتبة الأسرة - التي هي غرس يديه وعرق جبينه - بعيدًا عن قوانين الدولة الوظيفية، وفي صيغة أكثر تحررًا من القيود البيروقراطية والروتينية، تتيح له انطلاقًا أوسع، ومدى أبعد، خصوصًا أن الوعد ارتبط بجعل المشروع - على يديه هو بالذات - مشروعًا عربيًا، غير مقصور على مصر، مستفيدًا - أي المشروع - من خبرة سمير سرحان ومعرفته الواسعة بالعالم العربي. وسرعان ما وجد نفسه على الهامش، بل هامش الهامش، ووجد من كان يعلّمهم ويوجّههم ويدربهم، يوجهون إليه النصح والمشورة في أول الأمر، ثم يكشفون له عن وجوههم الحقيقية - في سفورها البشع - وهم يشيرون عليه بأن يبتعد، ويقنع بمكتب مستشار لا يُستشار، وهل في بلادنا يُستشار أحد؟

ربما كشفت هذه السطور عن السّر في تغلغل فيروس النهاية، في صدر سمير سرحان، وعجزه عن المقاومة، وتهاوي قلاعه الصامدة. عند اكتشافه مرارة المقولة التي رددها إبراهيم عبدالقادر المازني من قبل: باطل الأباطيل، الكل باطل. وعند ارتطامه بحقيقة الوجوه التي كان يفسح لها من قلبه ومن عقله طيلة سنواته المزدهرة، فإذا بها تنكّرٌ وجحودٌ وتآمر وعقوق.

وجه آخر مشرق

أعود إلى ما استطاع سمير سرحان - في سنواته الأخيرة - أن يقتنصه من وقته وجينات إبداعه، من خلال عدد كبير من المقالات، كانت في صورة يوميات أو أسبوعيات نطالعها على الصفحة الأخيرة من «أخبار اليوم»، ثم انتقلت هذه الكتابات إلى صفحة «الأهرام» الثقافية. هذه المقالات التي أطالب أسرته والمعنيين بتراثه بأن يجمعوها، ويصنفوها، ويتيحوا لقارئه أن يتأمل تكاملها وتعدد آفاقها، ولغة سمير سرحان في الكتابة - لجمهور صحفي غير أكاديمي - وخلاصة الفكر والرحلة الثريّة الحافلة، والعودة إلى الذكريات والكنوز القديمة المختزنة في ذاكرة الطفل والصبيّ والشاب وطالب البعثة. فضلا عن كشفها - مجتمعة - عن علامات دالات، ومحطات شديدة الأهمية، في مشروع سمير سرحان الإبداعي في المسرح والقصة، ومشروعه في الترجمة، ومشروعه في النقد، وهي المشاريع التي ذابت، وتبدّد كثير منها، في حُميّا إخلاصه وتفانيه في المشروع الثقافي العام.

وسمير سرحان في حالة اكتشافه لوسيلة الإنقاذ الوحيدة: المقالة، يُذكّرنا بعلمين ومبدعين كبيرين راحلين، سبقاه إلى هذا الحل هما يحيى حقي ويوسف إدريس. عندما أدرك يحيى حقي أن مهمته الإبداعية قد شارفت ذروتها، وجد في كتابة المقالة خلاصه الفني. ولأنه يحيى حقي، فقد نجح في أن يجعل من مقالاته لوحات قلمية، شديدة الجاذبية، والسّحْر، بفضل ما سكبه فيها من قدرته القصصية وفنونه الحوارية ولغته شديدة الإحكام والتركيز والتكثيف، والتي تُحلّق إلى الذروة الأدبية والبيانية - عندما يريد - وتتبسّط لتجاور النماذج المهمشة في المجتمع والحياة، وتتحدث بلسانهم وتعبّر عن خوالجهم ومكنوناتهم عندما يريد.

وأصبحت لغة يحيى حقي، وطريقته في الكتابة، بعد أن جمعت هذه المقالات في كتب شديدة الغنى والجمال، مغرية بأن يعكف عليها باحث رشيد، يوجهه مشرف رشيد، للخروج عن المسار التقليدي والميّت لكثير من الأبحاث الجامعية في الماجستير والدكتوراه، والتي تعكف على موضوعات تكررت مرات موتها وتعفنها، أو فليعكف على هذه المقالات التي تُجسّد فن اللوحة القلمية عند يحيى حقي، باحث موهوب، لا علاقة له بالبحث الجامعي، ولا تخنقه تقاليده وشروطه، وحرص أصحابه على الجمع والاستقصاء، أكثر من حرصهم على الرؤية والخروج بضوء جديد.

الموقف نفسه واجهه، بشجاعة وجَلَد - يوسف إدريس، عندما أحسّ أن ما يريده من المسرح والقصة القصيرة لم يعد يواتيه. ولأن المبدع العظيم لا يرضى لنفسه بأن يقع في التكرار، أو العزف على تيمات ومقولات وموضوعات سبق أن واجهها وعبّر عنها، فقد وجد في مقالته الأسبوعية - على صدر صفحته في الأهرام - طيلة سنوات، خلاصه من مأزقه الإبداعي. وسرعان ما أصبحت مقالات يوسف إدريس حديث الناس، والشاغل الأساسي في حياتنا الثقافية، خصوصًا وهي تُبحر ضد السائد والمستقر والثابت، وتزلزل اليقين الذي تجمد بالجهل والخوف والمداراة. وأفاد يوسف إدريس - كما أفاد يحيى حقي من قبله - وسمير سرحان من بعدهما معًا، أفاد من موهبته القصصية والدرامية - التي جسدتها قصصة القصيرة البديعة ومسرحياته (خاصة: الفرافير) في جعل مقالاته تنبض بالحياة، والجدل، والحوار، والتشخيص، والإفصاح عن المسكوت عنه لمن يقرؤها قراءة أعمق، والقياس على ما يأتي به من نماذج وشخصيات وقرائن. وهكذا أدخل يوسف إدريس في دائرة الكتابة الصحفية، مقالاً من طراز فريد. لا أظن أحدًا جاراه فيه، ولا هو اقترب من أحد غيره، محاكيًا أو مُتشبهًا. هو وليد نفسه وذاته وكيانه وفنه وطريقته في الكتابة. اللغة نفسها التي بثها في كيمياء قصصه القصيرة، فصيحةً وشعبيةً، بشرط أن تكون فنية في الحالين، الجسارة والاقتحام والمواجهة نفسها التي احتشد بها عالمه المسرحيّ، تتجسّد من جديد في مقالاته، وتجد امتداداتها الحية في النماذج والقضايا والأقنعة والإشارات التي تزدحم بها كتاباته في «الأهرام». ولقد جمع يوسف إدريس بعضها أو كثيرًا منها - في حياته - وأصدرها في كتب رائعة، وبقي منها قدر يستحق أن يجمع وينشر ليأخذ مكانه ومكانته في تراث يوسف إدريس الإبداعي، خصوصًا أن نظرة يوسف إدريس نفسه إلى بعض هذه المقالات باعتبارها قصصًا لا مقالات، وكان يرد ساخرًا على من يسأله عن توقفه عن كتابة القصة قائلا: هذه المقالات هي قصص في معناها المتطور والجديد، لكنكم لا تقرأون ولا تفهمون!

لابد من الاعتراف بأني وكثيرين من أبناء جيلي، إن لم يكن جميعهم، مدينون لسمير سرحان بالكثير، هذا رجل انتسب إلينا وانتسبنا إليه، فجعل من مشاريعنا على يديه، جزءًا من مشروعه العام. ووجدت أعمالنا الشعرية وكتاباتنا الأدبية فرصتها الراقية في النشر والوصول إلى الناس، بعد أن تعثّر بعضها وبعضنا، بين أيدي ناشرين من القطاع الخاص، لا تربطهم أدنى علاقة بالثقافة أو بالمعرفة في معناها العام. الكتاب عندهم لابد أن يكون جريمة أو فضيحة أو خروجًا على القيم، حتى يتم قبوله، لأنه - بهذه المواصفات - سيدر أرباحًا هائلة، ويكون حديث الناس. وكأنهم يقولون للكتّاب والمبدعين: ابحثوا عن فضائح، وهاتوا ما كتبتموه. أين هذا من الأسلوب الراقي النبيل، والوعي الجادّ، والإنسانية الغامرة، التي كان يلقانا بها سمير سرحان، ويهشّ وجهه ويمتلئ بالفرح، كما لو أن أعمالنا أعماله هو، ومواليدنا مواليده. وهو الذي يكتم علّته التي بدأ فيروسها يعمل في داخله - علّه عدم التحقق وعدم القدرة على إنجاز مشروعه الإبداعي - وكيف كنا نُحسّ - في كل مناسبة ثقافية - خصوصًا عند التحضير لعرسه الثقافي متمثلاً في معرض القاهرة الدولي للكتاب، بندواته وقضاياه وأمسياته الشعرية نُحسّ قدرته على تمثل بانوراما الحياة الثقافية العربيّة بكاملها، والقامات البارزة في هذه الحياة فكريًا وثقافيًا وإبداعيًا، والتمييز بينها في القيمة والأثر والتوجّه، لا يغيب عنه قطر عربي واحد، ولا يلتبس لديه موقف أو برهان، وهو نفسه - المثقف العربي الشامل - الذي جعل من هذا الشمول والاتساع والوعي مصباحًا هاديًا في كل اختياراته وتوجهاته وقراراته، وثروة ضخمة تسعفه بالاختيار، ومعاودة الاختيار بعد التعذر أو الاعتذار، والإبحار بسفينة الثقافة العربية إلى حيث يتطلع أصحابها ويأملون.

لابد أن يمضي زمان طويل، حتى نجد في مكان الدوحة السامقة التي هوت، نبْتةً جديدة، مُبشّرة، تكون رهانًا للزمان القادم.

 

فاروق شوشة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




سمير سرحان وبرفقته الشاعر أدونيس والناقدة اعتدال عثمان في معرض الكتاب في القاهرة