إلي أن نلتقي

إلى أن نلتقي

عنف وعنفوان

رفضته صديقته فأحاط نفسه بحزام ناسف ووقف في وسط الشارع ولم يكتف فقط بتفجير نفسه ولكنه فجر معه أيضا خمسة من المارة قادهم حظهم للسير في طريق العاشق التعس. خبر عادي من مدينة صينية اشتهرت بالهدوء وضبط النفس. فما رأيكم - دام فضلكم - فيما يحدث في بقية البلاد التي استشرى فيها العنف وانفلت من عقاله، فالفرد لم يعد يكتفي بقتل غريمه كما كان يحدث قديما، ولكنه يقتل هذا الغريم وأكبر عدد ممن يحيطون به. بل إن مقاتلي الرأي الآخر لا يوجهون ضرباتهم إلى أحد محدد بعينه ولكنهم يعتبرون كل فئات المجتمع غرماء لهم. لذا يضعون السيارات المفخخة وسط الشوارع المزدحمة بأعصاب باردة. ويحيطون أطراف المجمعات التجارية بالمتفجرات وتتصاعد في داخلهم نزعات الاستشهاد الزائفة حين يقتحمون بأجسادهم الأماكن الحصينة فيقتلون أنفسهم قبل أن يدمروا المكان ومن فيه. كل هذا يحدث في مجتمعات من المفترض أنها خالية من الحروب. أي أن ما يحدث هو جزء من أحداث الحياة اليومية. فما الذي جعل العنف أكثر عنفا؟

لم يكن العالم عادلا في يوم من الأيام. ولم تختف منه أسباب البؤس والاستغلال والتسلط والعنصرية والإجحاف والشره والأنانية. ولم تخل أي فترة من الذين يتمردون على النظم السائدة. لذلك فمن غير المجدي التعلل بضغط الظروف التي صنعها الفساد السياسي أو الأزمات الاقتصادية أو الانهيار الاجتماعي. فقد كانت هذه الأسباب موجودة بنفس الدرجة من الحدة دون أن يقابلها هذا العنفوان. ما هو المتغير الذي أضيف إلى عصرنا ولم يكن موجودا في العصور السابقة. هل هي التكنولوجيا، العنصر الوحيد الذي لم يتوقف عن التطور برغم تداعي الأفكار والثورات والإمبراطوريات. هل هي التي سهلت عمليات القتل الجماعي وجعلت استخدام الأسلحة والمتفجرات أكثر تحققا وأشد فتكا ؟. أو لأنها أشعلت كل تطلعات المحرومين الذين يعلمون في مواجهة المترفين الذين لا يعلمون. أم لأنها أقامت من نفسها سلطة فريدة في موازاة وربما في مواجهة السلطة الأخلاقية والروحية. أو أن سبب هذا العنفوان يعود إلى فقدان العديد من المؤسسات السطوة التي كانت تحد من جماح الإنسان بدءا من مؤسسة الأسرة التي تفككت نواوياتها، وفقد أبناؤها الانتماء إلى قيمها التقليدية، إلى المؤسسة التعليمية التي فقدت احتكار نقل العلم والمعرفة، وأصبح هناك من ينافسها في غرس القيم بطريقة أفدح تأثيرا، إلى مؤسسة الدولة التي فقدت هيبتها وتحولت في بعض الأحيان إلى محاربة مواطنيها بدلا من أن تكون قيما عليهم. أم أن السبب يكمن في ضعف الرادع الديني والروحي في وجه طغيان المادة وهيمنتها؟. ذلك الردع الذي جعل إحدى شخصيات "ديستوفسكي" تصرخ ملتاعة: "إذا لم يكن الله موجودا فكل شيء مباح" فهل يعني هذا أن الضمير المعاصر قد مات وأن على صناع العنف أن يؤكدوا ذلك بالمزيد من العنف؟!.

إن العلم الآن يحاول الدخول إلى هذه المنطقة الخطرة والغامضة من بنية الإنسان. فعلى سبيل المثال تبين أن سبب هذه الردات العنيفة من الفعل والجنوح يعود إلى زيادة إفراز هرمون "السيسترون" بدرجة عالية وبرغم أن المشكلة ليست بسيطة فإن العلماء يأملون أنه من خلال التحكم في هذا الهرمون يمكنهم التحكم في كل النوازع الإجرامية والوصول إلى عالم بلا سجون. إننا لا نبالغ مثلهم في هذا الحلم، ولكننا نأمل فقط في عالم أكثر هدوءا وأقل عنفوانا.

 

أنور الياسين

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات