خورخي إستيفا: ملاح إسباني.. أشرف أبواليزيد

خورخي إستيفا: ملاح إسباني.. أشرف أبواليزيد

أعادتني رواية عن «عرب البحر» للكاتب والمصور الإسباني خورخي إستيفا، إلى ذكرى ست سنوات مضت حين سافرنا معًا عبر سواحل المدن العُمانية وهو ينقب عن مصادر هذا الكتاب الفريد، الذي جعله يقتفي خطى السندباد - كما كتب على غلاف الرواية - من سواحل الجزيرة العربية إلى شواطيء زنجبار.

تأتي هذه الرواية الجديدة لتنضم إلى مجموعة من الإصدارات التي ميزت إبداع إستيفا في فني الكتابة والتصوير، وهو الذي يعشق اللونين: الأسود والأبيض في الصور؛ بعد أن عاش ألوانا من الرحلات على خطى البحارة العمانيين الأوائل، الذين جعلوا من الساحل الجنوبي لشبه الجزيرة العربية، والساحل الشرقي للقارة الأفريقية حدين لبحيرة عربية حملت اسم: بحر العرب. أصدر خورخي إستيفا روايته (عرب البحر) بالإسبانية، وصدَّرها بإهداء إلى كل الرفاق الذين صحبوه في رحلاته التحضيرية لهذه الرواية التسجيلية.

لا يأتي اهتمام خورخي بالمنطقة العربية وقارتي آسيا وأفريقيا من فراغ، فقد نشر ألبومًا مصورا عن الواحات المصرية التي عاش فيها عامين، خلال إقامته 5 سنوات في مصر، ونشر مجلدًا آخر عن المعتقدات السحرية الشعبية الأفريقية، وأصدر عملا ثالثا عن أدباء ومفكري البحر المتوسط، وكان مصورا لكتاب رابع عن عمارة القصبات في الصحراء الإفريقية وخصوصا المغاربية منها. في حواراتي معه، والتي استمرت لأيام صحبته فيها خلال رحلته إلى ميناءي صور وصحار على الساحل العماني، جدد خورخي إستيفا عزمه على نقض المزاعم التي تقصر حضارة العرب كافة على الصحراء، مؤكدا أن رحلاته العمانية ترى أن حضارة العمانيين بحرية، لا صحراوية. ولهذا لم يقدم خورخي كتابا تاريخيا فحسب، ولم يعن بإضافة أية صورة ليكون كتابًا سياحيًا، بل سعى لأن يكون تسجيلا خالصا للمكان والزمان في عيون وذاكرة البحارة الذين عاشوا تلك الفترة الذهبية من عمر الملاحة البحرية العربية. لكنه في حواره الجديد معي قدم صورًأ نادرة لتلك الرحلة التي استمرت نحو سبع سنوات، وجوه للناس والأماكن في عُمان، وزنجبار، التي كانت إمبراطورية عُمانية حتى قبل ستين عامًا.

يحكي خورخي في روايته التوثيقية كيف ساهم بحارة عمان بشكل بارز بنشاط تجاري وبحري كبير وخاصة في الشرق الأفريقي خلال القرن التاسع عشر، وكان لهم الفضل في نشر الإسلام هناك، مثلما ساهموا في انتشاره بالصين ومختلف الموانئ الآسيوية التي وصلوا إليها. وعلى الرغم من سيطرة البرتغاليين على أجزاء كبيرة من السواحل العمانية في العام 1705م إلا أنهم - بفضل المقاومة العمانية - لم يتجاوزا تلك السواحل للداخل حتى تم التحرير بعد قرن ونصف القرن عندما توحدت البلاد تحت قيادة الإمام ناصر بن مرشد، بداية عهد دولة اليعاربة، وقد واصل مهمته من بعده الإمام سلطان بن سيف. وكان طرد البرتغاليين وتحرير مسقط في العام 1650م إيذانا بأفول نجمهم في الخليج كله، وقد طاردتهم القوات العمانية البحرية حتى سواحل الهند وشرق أفريقيا.

وتعد الفترة من 1838م إلى 1842م من الفترات المهمة في التاريخ العماني، حيث أظهر الملاحون العمانيون براعة فائقة في الاضطلاع بمعطيات التجارة الدولية وبالدبلوماسية، ففي خلال هذه الفترة القصيرة استطاع السيد سعيد بن سلطان إقامة علاقات دبلوماسية مع كل من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، وبعث بسفرائه إلى لندن ونيويورك، وكانت رحلات السفينة سلطانة رمزا لزخم هذه المرحلة.

كما أنه منذ العام 1870م ازداد نطاق التجارة الألمانية مع زنجبار، حتى فاق حجم التجارة الأمريكية والفرنسية، ودفعت العلاقات الجيدة مع ألمانيا السلطان خليفة بن سعيد لإرسال وفد لبرلين لتهنئة القيصر وليهام الثاني، في سبتمبر 1889م، وقد عاد الوفد - بعد جولة في بادن بادن وفريد ريشروه وهامبورج - برحلة بحرية إلى زنجبار في 30 نوفمبر 1889م.

وأصدرت شركة شرق أفريقيا الألمانية عملة تذكارية باللغتين العربية والألمانية في العام 1892م تبارك تلك الشراكة العمانية - الألمانية.

وحرص خورخي إستيفا على تسجيل كل شاردة وواردة من قصص النواخذة (ربابنة السفن) العمانيين، وجلهم ممن اعتزل الحياة البحرية، لكبر السن، وخاصة تلك القصص التي تتذكر تفاصيل الانتصار على أهوال البحر، مثلما تتغزل في الشوق إلى رؤية السواحل بعد رحلة قد تستمر شهورا، كانت فيها سفنهم الشراعية في مهب الريح والقدر.

ولم يقصر الكاتب والمصور الإسباني رحلاته على الساحل العماني فحسب، بل سافر إلى الشرق الأفريقي، وكانت لامو من بين المناطق التي تركت في نفسه أثرا كبيرا، بأبوابها المقوسة الجميلة، ونظرات خاطفة تطلقها عيون كحيلة، وأصوات المؤذنين تدعو للصلاة، وعبق روائح عطور الفرنجباني والأسماك المجففة والكاري، وذهب للقول بأن بعض تلك الروائح كان يصله في الطائرة الصغيرة التي حلقت به فوق بعض الجزر هناك.. وأبرز ما شده هو تلك اللغة الموسيقية للأسماء والمفردات بها.

وكانت حياة العمانيين على ظهر سفنهم - كما يسجل إستيفا في كتابه - حياة مرح وتعاون، يسري فيها البحارة عن أنفسهم بالأهازيج، ويقول المسعودي مؤرخا: فإذا توسطوا (العمانيون) هذا البحر ودخلوا بين ما ذكرناه من الأمواج تدفعهم وتخفضهم فيرتجزون ويقولون:

بربري وجفوني وموجك المجنون
جفوني وبربري وموجها كما ترى


وقد وجد لدى العمانيين كتب ووسائل وأدوات بحرية يستعينون بها، ومما يبين قلة السفن التي تتحطم أو تغرق قول إسماعيلوية، وهو أحد المالكين العمانيين للسفن: دخلت بلاد الزنج في سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، فقال لي بعض القافلة: كم أنتم؟ فقلت: ستة عشر مركبا منها خمسة عشر وينكسر واحد. وهو أمر يدل على خبرة العماني الهائلة وتصميم السفينة العمانية المميز الذي يضمن سلامتها. وتشير المصادر إلى أن أهل الزنج أنفسهم كانوا يستخدمون سفنا عمانية في تنقلاتهم التجارية، كما أن العمانيين عملوا وكلاء ووسطاء تجاريين لأهل العراق في الهند. وتزخر أسماء السفن الشراعية بأسماء عربية وشرق أفريقية طريفة، مثل الغنجة من صور والبدن من الباطنة، في عمان، والبغلة والجهازي والماشوة من موانىء أفريقيا الشرقية.

وكان النواخذة يعتقدون أن رياح الكسكازي والكوس رياح إلهية وأنها تقود سفنهم إلى أسواق البهارات الهندية ثم سواحل شرق أفريقيا وكذلك في طريق العودة إلى الخليج العربي. ولم يكن البحارة الذين وصلوا إلى الشرق الأفريقي عنصريين أو منحازين لفئة بعينها، مما دفعهم إلى التزاوج من أهل المدن البحرية التي استوطنوها، ليتحدر من سلالتهم الشعب السواحلي (نسبة إلى كلمة ساحل العربية) ، هؤلاء البحارة الأفارقة المسلمون الأشداء، الذين يقطنون مناطق أفريقيا الساحلية حتى اليوم.

وتبدو هذه الروابط الوثيقة - كما يقول أحد الكتيبات التي تعيد خطى تلك الرحلات البحرية بشكل سياحي - بين العرب وبين السواحل الشرقية لأفريقيا، في التسميات وفي الألفاظ المستخدمة، وكانت التجارة بين الموانئ تتم في سفن شراعية قوامها ليف النخيل أو أشجار جوز الهند، الذي استخدموه كذلك في الربط والتثبيت. ولم تدفع الرياح فحسب تلك الأشرعة، بل دفعتها جسارة البحارة العمانيين الأوائل، مستفيدة من رياح الكسكازي والكوس. ولتتأرجح السيطرة التجارية العمانية من وإلى لامو وبات ومالندي في الشمال، وممباسا وبيمبا وزنجبار في الوسط، ومافيا وكيلوا كيسيواني في الجنوب، وحتى استقرارها النهائي في سلطنة عمان. ولخصت هذه المدن والحضارات التي عاشتها قصص علاقات وثيقة وتراث متميز ومتمدن، شهد صناعات الصهاريج الضخمة لنقل المياه، وصناعات الخزف والفخار، وهندسة بناء السفن، وأخرج للوجود أنواعا من الأطعمة لا يوجد مثلها في العالم، وهي مزيج التوابل الأفريقية والهندية والأطعمة العربية.

وقد تحولت إحدى السفن الصورية الغارقة بعد انتشالها - بدعم من أهل مدينة صور - ووضعها في ساحة أمام الميناء إلى مزار مهم، يذكر بتاريخ تلك المدينة البحرية العريقة. ومن المميز في صور كثرة مساجدها، لحرص كل نوخذة على بناء مسجد يحمل اسمه، يكون بمثابة دار دين ودنيا، فهو مكان للعبادة، مثلما هو مكان للقاء بالرفاق والأهل ، وكذلك التجار والبحارة. وتتميز بيوت صور ذات اللون الأبيض بزخارف أبوابها التي تنضح بين نقوشها البسيطة سمات التأثر بالمدن الساحلية التي غرف منها البحارة ذكرياتهم.

وحين عبرت مع خورخي إلى الطرف الآخر من المرفأ، تسنى لنا الصعود إلى الفنار لمشاهدة أروع مشهد للغروب، كما لو أنه لوحة بالألوان الغسقية المائية، حيث تغرق الشمس بين السفن النائمة، استعدادا ليوم جديد من الإبحار في التاريخ.

عن روايته التي تبلغ 478 صفحة، يقول خورخي: «كنت عاشقا للخرائط القديمة، والرحلات العظيمة، وكم كنت أحلم بزيارة زنجبار». كنت أفكر في أن خورخي ابن برشلونة الإسبانية، كان يريد أن يرى أندلس أفريقيا، حيث يحب بعض المؤرخين أن يسمي زنجبار. في القسم الأول من الرواية تحدث الكاتب عن جذور رحلته من السودان ومصر وصولا إلى الجزيرة العربية، حيث بدأ القسم الثاني بمدينة دبي، ثم عرج إلى السلطنة، وانطلق من مدينة صحار مهد السندباد وقلهات مهبط ابن بطوطة إلى الشاطىء الأفريقي، تحت عناوين مثيرة في فصولها بين شاطىء الزنج، وشاعر ممباسا.

ولعلنا نرى في خورخي سندبادًا آخر، فقد وصل إلى البحر الأحمر للمرة الأولى قبل نحو 30 عاما، وها هو مثل رحالة العصور الوسطى يمضي ثلاثة عقود في صحارى المنطقة العربية والإفريقية، دون كلل أو ملل، يقوده أمل الاكتشاف، وتهديه لغاته التي يتقنها، فهو يتحدث الإيطالية والإنجليزية، والفرنسية والإسبانية، فضلا عن العربية، لكنها لا تسمح له بتحقيق أمنيته بترجمة كتابه إلى العربية، فهو حلم يراوده، كما راود الطفل داخله ذات يوم في أن يرى بلاد السندباد.

يتذكر خورخي بحميمية الصيادين البسطاء، الذي تمتلىء قواربهم بأسماك السردين تحت الشمس الاستوائية الحارقة، لتجعل من الصيد نهرا فضيا يغشى البصر. مثلما يتحدث عن ذاكرة البحارة الذين تتأرجح أمام أعينهم سفنهم فوق أمواج الذكريات، حينما كانوا يقصون علينا حكاياتهم مع البحر. كنت أترجم إلى الإنجليزية تلك الحكايات، ويأخذها مسجلة، ليسهر في الفندق مع تفريغ عشرات الشرائط، ولا يوقفه عن العمل سوى هبوطنا معًا لنتابع رقصة تقليدية لاستقبال البحارة العائدين بالحب والفرح.

أتذكر هؤلاء البحارة الذين قلت عنهم: سترَى في العيون الشمسَ التي أضاءتْ أشرعتهم قرنًا بعد قرن. سترى أجنحة النوارس تخفقُ بعدد ضربات القلب؛ الجزر البعيدة والنساء، رائحة التوابل والبخور. الأيدي التي تلوِّحُ حاملة في أكفها قدر الغياب. البحر الذي يُنازلُ النوخذة وهو يغازل الموت. سترى في العيون كل شيء، حتى حين تغمض. يستدعي خورخي ذكريات الطفولة في قطالونية، وهو يراقب السفن في أحد مقاهي ميناء برشلونة، وكيف كان يتخيل شكل المدن المخفية والمنسية، والقوارب العجيبة التي تسافر إلى المدن الغريبة. وكما حلم بالأطالس، لم يتوقف عن رغبته بزيارة سوقطرى ومسقط وزنجبار. ولهذا لم يكن كتاب خورخي (عرب البحر) مجرد كتاب رحلات، بل سيرة ذاتية إسبانية لملاح في بحر العرب.

كلمات خورخي عن الرحالة الموسميين بين الموانىء لا تُنسى، هؤلاء الذين يضحون براحتهم من أجل الغيب، وهم يتناولون خبز الثقة بينهم وبين السكان المحليين. إن سيرة خورخي تعيدنا إلى حكاية سلفه ولفريد ثيسجر، صاحب «الرمال العربية»، ولعل ثيسجر قد تناول الصحراء، في حين أن خورخي قد أولى عنايته للبحر. وهو في كل خطوة له كان يكسب صديقا جديدًا، وحين سألته عن السر قال لي: يكفي أن تمنح من يقص عليك حكايته اهتمامك التام، وأنا أحب من يشرح لي بالتفصيل دقائق الأمور، كما لو كنت أعيش معهم منذ ألف عام، وما أسعدني حين أجتاز حدود اللغة، وعوائق الثقافة، وموانع الجنسيات، وجغرافيا الحدود. عندها أعيش في التاريخ، وحين أعود، أكون ملهمًا لكتابته.

هيكل الحسنِ المبارَك ركنه الساحر النور الطهور رحابِ
لا صدقَ إلاَّ في لهيبك وحده وجلالُه الباقي على الأحقابِ
قدمتُ قرباني إِليك بقيةً من مهجةٍ ضاعت على الأحبابِ
وَأَذبْتُ جوهَرَهَا فدَاءَ نَوَاظرٍ قُدْسِيَّةٍ، عُلويّةِ المحرابِ!


إبراهيم ناجي

 

أشرف أبواليزيد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




بحر البهجة، أم بحرُ العرب في ظفار بسلطنة عُمان؟ صيادو أسماك فرحون بشباكهم الملآنة، وأمواج يرقص زغبها طربًا عند أقدامهم، ونوارس تحلق في السماء العربية. اللقطات جميعًا للمصور والكاتب الإسباني خورخي إستيفا





بعد ستة أعوام ظهر كتاب خورخي استيفا: عربُ البحر، على خطى السندباد انطلق، من الجزيرة العربية، وصولا إلى مهد السلطنة العُمانية في أفريقيا





تمتد الرحلة بين قارتين، حتى يظهر للنور Los Arabes del Mar





سواء كان الوجه لشاعر سواحيلي شهير في زنجبار هو الشيخ النبهاني، أو فتاة بدوية من رمال وهيبة على الحدود المتاخمة للربع الخالي في سلطنة عمان، تقف عدسة خورخي، تتأمل، وتترك بصمتها





سواء كان الوجه لشاعر سواحيلي شهير في زنجبار هو الشيخ النبهاني، أو فتاة بدوية من رمال وهيبة على الحدود المتاخمة للربع الخالي في سلطنة عمان، تقف عدسة خورخي، تتأمل، وتترك بصمتها





في المملكة القديمة التي سيطر عليها العُمانيون، وفي تنزانيا حاليا بالشرق الإفريقي، يعثر المصور في رحلته على هذه الدروب الأسطورية وسط جذوع الأشجار العملاقة، حيث كان بعض المهربين يستخدمونها





استضافنا الكرم العُماني ذات يوم من أيام عيد الفطر المبارك، وبعد وجبة شعبية وقفوا قرب أحد الأفلاج في صورة تذكارية بالزي التقليدي





لا تزال صناعة السفن التقليدية (الداو) قائمة في بعض مدن سلطنة عُمان، مثلما لا يزال الاحتفال بالمولد النبوي قائما في جزيرة لامو بالساحل التنزاني، تشارك فيه طفلات وفتيات ونساء من كل الأعمار





لا تزال صناعة السفن التقليدية (الداو) قائمة في بعض مدن سلطنة عُمان، مثلما لا يزال الاحتفال بالمولد النبوي قائما في جزيرة لامو بالساحل التنزاني، تشارك فيه طفلات وفتيات ونساء من كل الأعمار