مستقبل الفلسفة في الألفية الثالثة عرض: د. الزواوي بغوره

مستقبل الفلسفة في الألفية الثالثة

أي مستقبل للفلسفة في عصر النهايات، نهاية التاريخ، نهاية الأيديولوجيا، نهاية الإنسان، ونهاية الفلسفة ذاتها؟ ولماذا يطرح مستقبل الفلسفة؟

لقد كتب فلاسفة معاصرون عديدون حول موضوع مستقبل الفلسفة، ومن هؤلاء: الفيلسوف الفرنسي (آلان باديو: القرن العشرون) وصدر كتاب مهم جدًا حول (الفلسفة في قرن) رسم حالة الفلسفة كما هي في القرن العشرين وآفاقها في الألفية الثالثة، كتبه فلاسفة عالميون، جمعوا بين ما يعرف في تاريخ الفلسفة المعاصرة بالتقليد القاري الفرنسي والألماني، والتقليد الأنجلوسكسوني الإنجليزي والأمريكي، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، (هامبرماس) و(كارل أوتو ابل) من المانيا و(بول ريكور) و(فانسون ديسومب) من فرنسا و(باسكال انجل) و(فرانسوا ركانتي) من إيطاليا و(جون سيرل) و(مكائيل ولزار) من أمريكا.

ويعد كتاب «مستقبل الفلسفة في القرن الواحد والعشرين» من بين هذه الكتب التي تحاول أن ترسم التحولات التي عرفتها الفلسفة المعاصرة وآفاقها سواء من حيث المواضيع والأسئلة أو من حيث المجالات الجديدة التي افتتحتها، حيث كتب كل فصل من فصوله الأحد عشر باحث وفيلسوف مختص في مجاله، وشمل دراسة الفلسفة القديمة والحديثة، ومباحث الأخلاق والسياسة وبعض التيارات الجديدة كفلسفة ما بعد الحداثة والفلسفة النسوية، ومجالات فلسفية جديدة، تعبر عن التطور الذي عرفه العلم والمعرفة والحياة الإنسانية في عمومها كالفلسفة التطبيقية، وفلسفة الدين واللغة والعقل.

يؤكد محرر الكتاب، بداية على «أننا قد نكون على أعتاب مجتمع ما بعد الحداثة، إلا أننا بالتأكيد لسنا على أعتاب مجتمع ما بعد الفلسفة» (ص 40).

لماذا؟ لأن الفلسفة تعرف عودة وحضورًا متميزين بعد كل ما قيل عن النهايات، من نهاية التاريخ إلى نهاية الإنسان، وأن إنسان الألفية الثالثة يطرح أسئلة جديدة، تستدعي عودة التفكير الفلسفي، ذلك التفكير الذي يحكمه تصور للمستقبل لا يقوم على فهم خطي ومستقيم للتاريخ، وإنما على تصور منحنى يغير دائمًا من اتجاهه حسب تحديد فيتجنشتين (ص 31).

من هنا يطرح سؤال التقدم في تاريخ الفلسفة؟ فهل يخضع تاريخ الفلسفة للتقدم مثلما تخضع العلوم للتقدم؟ لاشك أن مقارنة الفلسفة بالعلم يؤكد عدم تقدمها، خاصة أن الفلاسفة على غير اتفاق حول أي موضوع. هذا هو التصور العام والشائع للفلسفة، وبالتالي فإن الفلسفة لا تعرف التقدم، إنها مجرد شكل من أشكال الأدب، وعليه، فإنها تتصف بالذاتية وليس بالموضوعية، على أن هذا التصور لا ينطبق إلا على بعض الفلسفات، إذ إن هناك فلسفات موضوعية ومن هذه الفلسفات: الفلسفة التحليلية التي «تعد الفلسفة مشروعًا موضوعيًا، وأن شروط صحة البراهين فيها هي بالفعل شاقة وبالغة الصعوبة وسريعة التغير» (ص 34).

على أن هنالك اعتراضًا آخر على الفلسفة وهو اعتبارها نشاطًا ثانويًا، لأنها «انفصلت عن الحياة الحقيقية». إن هذا الطرح لا يدرك مستويات علاقة النظرية بالواقع، لذا وجب النظر إلى الفلسفة «كعملية تشغيل أكثر منها سلسلة من المنتجات، وأن تنوع عمليات التشغيل التي يشملها الموضوع الفلسفي الواحد هو، مرة أخرى، علامة على ثراء الفلسفة وليس دليلاً على تفاهة شأنها» (ص 37).

صورة الفلسفة

وعليه، ما صورة الفلسفة في المستقبل؟ هل ستتغير صورتها؟ لاشك أن الفلسفة ستبقى في حالة قراءة ومراجعة لقضاياها ونصوصها، وفي علاقة مع التحولات التي تعرفها البشرية، وعلى رأس هذه التحولات العولمة وآثارها، إذ من المحتمل أنه «مع تقدم العالم نحو المزيد من التوحيد الثقافي، فمن الصعب أن نظن أن الفلسفة لن تتبعه، وأن بعض أوجه الإبداع الفلسفي في الشرق لن تتغلغل إلى المنهج الفلسفي في الغرب» (ص 43)، فهنالك مستقبل للفلسفة في الشرق مع ما تعرفه من نمو وتطور، وهو ما يؤدي إلى قيام حوار حضاري، من خلال عمليات المثاقفة.

على أن مستقبل الفلسفة مقرون دون شك بمستوى التعليم.

كما أنه لا مستقبل للفلسفة من دون الإحساس بالتاريخ، إن «الفلاسفة يحتاجون إلى الإحساس بمعنى التاريخ، وتاريخ الموضوع الذي يبحثونه والسياق الذي تحقق فيه هذا الموضوع» (ص 46). من هنا كانت الحاجة إلى قراءة تاريخ الفلسفة قديمًا وحديثًا، وجعله أداة للفهم، ليس فقط لفهم النظريات الفلسفية، بل لفهم العصر والمجتمع الذي يعبر عنه. يقول راسل: «لكي تفهم عصرًا أو أمة من الأمم، ينبغي أن تفهم فلسفتها» (ص 70).

من هنا فإنه إذا كان للفلسفة من مستقبل، فإن وعيها بتاريخها أمر ضروري، ويجب أن يظهر في مختلف مجالاتها من جهة تتبعها ووعيها بالجديد والإشكالي في العصر والمرحلة التي تعيش فيها، لذا، فإن على مجالات الفلسفة المختلفة أن تساهم في معالجة وحل المشكلات المطروحة على الإنسان، ومن هذه المجالات الأساسية في عصرنا مجال فلسفة الأخلاق، الذي يركز على القيم العامة للإنسان، ومجال الفلسفة السياسية الذي يدرس مواضيع الحرية والعدالة والديمقراطية وطبيعة الدولة وعلاقة الفرد بها. وقد ساهم فلاسفة السياسة أمثال الأمريكي (راولس) والكندي (تايلور) والألماني (هابرماس) والفرنسي (فوكو) في تجديد هذا المجال. كما عرف هذا المجال مبحثًا جديدًا ومهما وواعدًا ألا وهو مبحث البيئة الذي يجمع بين السياسة والأخلاق. ويتميز «مذهب البيئة بأنه فكر حي وحيوي» (ص 124). وسوف يكون «الموضوع الرئيسي للقرن القادم» (ص 126)، كما تجددت الفلسفة بتيار ما بعد الحداثة الذي أعاد النظر في مختلف قيم التنوير والحداثة، وأجرى نقدًا شاملاً للتجربة الإنسانية، مما يؤكد حيوية التفكير الفلسفي وقدرته على التجدد من خلال ظهور نظريات فلسفية عديدة كالبنيوية والتفكيكية والسيميائية.. ودعوتها إلى ضرورة فهم الآخر والاعتراف بالاختلاف ونشر قيم التسامح والحوار ونقد العقل الأداتي والهيمنة والسيطرة، وقد أدت هذه الحركة الفلسفية إلى ظهور حركات فكرية وسياسية كالفلسفة النسوية التي تنادي بالمساواة وترفض مختلف صور الإقصاء والتهميش والعنصرية، وفتحت المجال لظهور مباحث فلسفية جديدة كفلسفة الدين والعقل وغيرهما من المباحث الفلسفية الواعدة.

والذي لاشك فيه، هو أن قارئ كتاب «مستقبل الفلسفة في القرن الواحد والعشرين»، سيخرج بتصور واقعي للفلسفة، تصور يقوم على إدراك الصعوبات الجمة التي يواجهها الخطاب الفلسفي، وفي الوقت نفسه يدرك الإمكانات العديدة التي تملكها الفلسفة وتسمح لها بالتجديد والتجدد، لذا، نعتقد أن هذا الكتاب يأتي في زمانه وسياقه ليدعم النظرة الفلسفية الواقعية والنقدية، ويبين الحاجة إلى الفلسفة في زمن العلم والعولمة.

ومهما اختلف الفلاسفة في تقويم حاضر ومستقبل الفلسفة، إلا أنهم على قناعة تامة بأن مستقبل الفلسفة يكمن في أسئلتها. صحيح أن هنالك تيارات فلسفية في القرن العشرين قامت على أساس مناهضة الفلسفة، وهذه فرادة خاصة بتاريخ الفلسفة، لقد كان للفلسفة دائمًا وعبر تاريخها الطويل، خصومها الأشداء، تارة الأسطورة وتارة الدين وتارة السلطة السياسية وتارة العلم، ولكن الظاهرة الجديدة التي حملها تاريخ الفلسفة في القرن العشرين هو مناهضة الفلسفة من داخل الفلسفة، فتم الإعلان عن نهاية الفلسفة باسم التحليل المنطقي وباسم المادية التاريخية والجدلية وباسم البنيوية. ولكن، وبمفارقة ظاهرة، أسست كل هذه التيارات الفلسفية المناهضة شكلاً معينًا من الفلسفة، وكأنها بذلك تحقق مقولة أرسطو، وهي: أن إنكار الفلسفة يحتاج دائمًا إلى إقامة فلسفة، من هنا شرعت فلسفات عديدة في القرن العشرين بالعودة إلى الأسئلة الفلسفية الأولى.

من هذه الأسئلة، السؤال المتكرر والدائم منذ أن ظهرت الفلسفة، ألا وهو: من أنا؟ ومن أكون؟ وعبر عنه ببراعة سقراط عندما قال: «اعرف نفسك بنفسك». فهل لهذا السؤال من قيمة حاضرة وجدوى في حياتنا المعاصرة؟ إنني أدعو القارئ إلى النظر في إحدى صور وأشكال هذا السؤال الذي يتمثل في صيغة الهوية؟ إن سؤال الهوية يخترق خطاباتنا ووجودنا وخاصة منذ إقبال العولمة؟ فسؤال الهوية المطروح على الجميع أفرادًا وجماعات ومجتمعات وأممًا في زمن العولمة، ما هو إلا صورة أخرى للسؤال الفلسفي: «من أنا، ومن نكون، ومن هو الآخر؟».

ما الحياة؟

وسؤال آخر، لا يقل حضورًا ألا وهو: ما الحياة؟ إننا نملك أجوبة كثيرة عن سؤال الحياة، أجوبة علمية ودينية وأسطورية وفلسفية؟ لكن سؤال الحياة يعود اليوم أكثر قوة وخطرًا وقلقًا في ضوء ما نملكه من معارف عن الحياة؟ حياة الكون والطبيعة وحياة الإنسان؟ لننظر قليلاً إلى التحولات التي طرأت على مفهوم الحياة البيولوجية والجنسية والنفسية؟

ألا يطرح هذا سؤال: ما الحياة؟ لننظر في الحياة كما تقدمها لنا الفتوحات الطبية، من منا لا يعرف الاكتشافات المتعلقة بالخريطة الجينية والاستنساخ ولم يطرح على نفسه سؤال ما الحياة؟

وسؤال ثالث يرتبط ارتباطًا عضويًا بما نحن فيه، وهو سؤال المصير، ما مصيرنا في عالم يزداد خطورة؟ ما مصيرنا ككائنات حية إزاء التطورات العلمية؟ ما مصيرنا إزاء الرعب النووي؟ إن سؤال المصير والمستقبل مطروح بقلق وحرقة!

ولكن وعلى الرغم من قيمة وخطر هذه الأسئلة، فإن هنالك من يعترض علينا بالقول: وما الجدوى من هذه الأسئلة، مادامت الفلسفة لا تقدم حلولاً، وإن قدمتها فهي حلول نظرية لا تشفي ولا تسمن ولا تغني من جوع؟ ولكن علينا حينئذ أن ننتبه إلى أن الأمر لا ينطبق على الفلسفة فقط، ولكن على كل ما يميز الإنسان بوصفه إنسانًا.نعم لأن منطق الربح والخسارة ومنطق التطبيق والاختبار ومنطق الملموس والمحسوس، سينطبق حينها على كل ما يميزنا، فلننظر إلى حياتنا الروحية ممثلة بالدين، إنها لا تنطبق عليها تلك المعايير فهل علينا أن نتخلص من أدياننا؟ إن الإنسان لا يكون إنسانًا إلا إذا جمع بين حياته المادية والعقلية والروحية والعاطفية، ذلك ما تقول به التوجهات الجديدة في العلم ذاته والمعروفة باسم العلوم البينية حيث التضافر والتعاون من أجل فهم مركب وأفضل للإنسان.

 

عرض: د. الزواوي بغوره

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات