أموال مخضبة بالدماء تأليف : ت. كريستيان ميللر عرض : د. شعبان عبدالعزيز عفيفي

أموال مخضبة بالدماء

كثيرة هي الكتب والبحوث والدراسات والمقالات المنشورة عن غزو العراق واحتلاله في مارس 2003 والتي ركزت في معظمها على إدارة الحرب وعلى النواحي العسكرية والأوضاع السياسية فيه بعد الاحتلال. إلا أن هذا الكتاب يختلف عن باقي تلك الكتب والدراسات من حيث إنه يتناول الحرب على العراق من جانب آخر قليلاً ما تطرق إليه غيره من الكتب، وهو جهود إعادة إعمار العراق بعد الاحتلال وما شاب هذه العملية من أوجه قصور تمثلت في الفساد والإهمال والهدر والنصب والنهب... إلخ، كما يدل على ذلك العنوان الفرعي للكتاب (مليارات ضائعة، وخسائر في الأرواح، وأطماع شركات أمريكية كبرى في العراق). والكتاب يتناول هذه المسألة مستعينا بالمراجع والمصادر وبصورة متوازنة، إذ يشير إلى إيجابياتها ونجاحاتها وإنجازاتها بالإضافة إلى سلبياتها.

ومؤلف هذا الكتاب كاتب صحفي يكتب تقارير وتحقيقات صحفية لصحيفة لوس أنجلوس تايمز ويعمل بمكتبها في واشنطون، وله خبرة في العمل كصحفي محترف تمتد لعشر سنوات قام خلالها بتغطية إخبارية لأربع حروب وحملات انتخابات رئاسية وفاز بعدة جوائز تقديرًا لكتاباته. وهو خريج جامعة كاليفورنيا - بيركلي.

والكتاب صادر عن دار نشر Little, Brown Company & بنيويورك، وهي من أقدم دور النشر الأمريكية، إذ تأسست عام 1837، وصدرت طبعته الأولى في أغسطس 2006، ويقع الكتاب في 334 صفحة من القطع المتوسط، ويتألف من مقدمة و 14 فصلاً وخاتمة، بالإضافة إلى خريطة لمواقع مشروعات إعادة الاعمار بالعراق، وملخص لأهم الأحداث وفقا لتسلسلها التاريخي من 11 سبتمبر 2001 إلى 20 مايو 2006.

يغطي الكتاب مختلف جوانب عملية إعادة إعمار العراق في كل المرافق الحيوية بدءا من توفير المياه واستعادة التيار الكهربائي، ومرورا بالقضايا الأمنية، وانتهاء بالرعاية الصحية والانتاج النفطي، مع بيان أوجه القصور والأخطاء المرتكبة فيها، وسنشير إلى كل مسألة من هذه المسائل في سياق هذا العرض.

يتساءل المؤلف في مقدمة الكتاب: «كيف تنجح دولة في إرسال رائد فضاء للهبوط على سطح القمر بينما تفشل في سحب المياه من صندوق طرد الفضلات (السيفون) في المراحيض في أحد المناطق العشوائية وسط بغداد؟» (ص 6 )، ويقول إن محاولة الاجابة على هذا السؤال هي محور هذا الكتاب.

وعود

ويقول في المقدمة أيضاً وتحت عنوان «وعود» إنه بعد أسبوع من غزو العراق في مارس 2003 كان بول ولفوويتز، نائب وزير الدفاع الأمريكي آنذاك، يتحدث أمام جمع حاشد من أعضاء الكونجرس ويقدم لهم وعودا للبدء بعملية إعادة إعمار العراق فور سقوط الطاغية صدام حسين، فالخطط معدة سلفاً، والخبرة متوفرة، والمبالغ اللازمة جاهزة، ويضيف قائلاً : «هناك مبالغ ضخمة مخصصة لهذه العملية، ونحن نتعامل مع بلد يمكنه بالفعل تمويل عملية إعادة إعماره في وقت قصير نسبيا». إلا أن ولفوويتز كان مخطئاً في كل ما قاله تقريبا (ص 3 )، ففريق العمل الذي عينه الرئيس بوش للاشراف على عملية إعادة الاعمار لم يجتمع (سرا) بحضور كل أعضائه إلا قبل الغزو وبأربعة وثلاثين يوما فقط، وكانت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) هي التي اختارت أعضاء الفريق. وبعد ثلاث سنوات من خطاب ولفوويتز كان العراق قد تلقى أكبر قدر من المساعدات الخارجية في تاريخ الولايات المتحدة وهو مبلغ يتجاوز ثلاثين مليار دولار خصص لعملية إعادة الإعمار، أي ما يزيد عن ميزانيات ثلاث وزارات أمريكية - النقل والداخلية والتجارة مجتمعة - وأكثر من المساعدات المالية الأمريكية التي تلقتها الدول التي دمرتها الحرب العالمية الثانية في إطار مشروع مارشال. ويرى المؤلف أن ما تحقق في عملية إعادة إعمار العراق أقل بكثير ما حققه مشروع مارشال من نجاحات وانجازات عظيمة، إذ لم ينجح في بناء اقتصاد مدمر، ولم يحظ بثقة شعب مشتت، ولم يجعل من العراق بلدا أكثر أمنا وسلاما. ولم تكن أخطاء ولفووتيز وسوء تقديره سوى البداية لعملية بناء بلد رسمت على شكل «قصر من الرمال« (ص 4 ).

ويقول المؤلف إنه كان من المفروض أن تكون هذه العملية سريعة ومحدودة التكاليف، فقد وعد الرئيس بوش دافعي الضرائب الأمريكيين بأن تكفي عائدات النفط العراقية لتغطية تكاليف تلك العملية، إلا أن آلاف الأرواح التي أزهقت ومليارات الدولارات التي أهدرت أو نهبت فيما بعد هي دليل فشل لا يمكن إنكاره. وسنتناول فيما يلي الجوانب الرئيسية لعملية إعادة الاعمار كما وردت في الكتاب:

يرى ميللر أنه بعد السقوط السريع لنظام طالبان في أفغانستان في نوفمبر 2001 أراد دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي آنذاك (الذي استقال عقب سيطرة الديمقراطيين على الكونجرس بمجلسيه في انتخابات التجديد النصفي في نوفمبر 2006) أن يدخل بغداد وبسرعة وبقوات خفيفة، ثم يعهد لكبريات الشركات الأمريكية بعملية إعادة الاعمار، ونتج عن ذلك مشاركة عدد هائل من المتعهدين (المقاولين) من القطاع الخاص في هذه العملية، الأمر الذي أدى إلى وجود أكبر عدد من المتعهدين بالنسبة إلى عدد الجنود في أي حرب في تاريخ الولايات المتحدة. وعندما كان نائب الرئيس الأمريكي الحالي ديك تشيني وزيرا للدفاع في عهد الرئيس بوش الأب، فإنه كان يشجع إسناد دور أكبر للشركات الخاصة في الجيش. وبعد غزو العراق فازت شركة هاليبرتون التي كان تشيني يعمل بها بأكثر من نصف عقود إعادة الاعمار. ولا تقوم الشركات الخاصة - كهاليبرتون وKRB التابعة لها وبكتل وغيرها - برصف الطرق وبناء الجسور وإصلاح المستشفيات فحسب، بل تقوم بأعمال عادة ما يؤديها أصغر المجندين في الجيش، كالتموين والنقل والغسيل والكي، أو على حد قول المؤلف «من نداء إيقاظ الجنود في الصباح إلى ساعة إطفاء أنوار المعسكر في المساء اعتمد العسكريون الأمريكيون على هاليبرتون للبقاء أحياء على قيد الحياة» (ص 72). وتخفيف بعض المهام عن الجيش، حتى يتفرغ لأداء مهامه الأصلية المكلف بها وتحقيق أهدافه بصورة أفضل، فكرة جيدة من الناحية النظرية، ولكنها تبددت في نظر المؤلف بسبب الفساد وأطماع المقاولين الفرعيين وألاعيب السياسة في آن واحد. وفيما يلي بعض الأمثلة على ذلك الواردة في الكتاب:

  • فازت بعض الشركات الكبرى كهاليبرتون ببعض العقود الضخمة التي سبقت الإشارة إليها دون التقدم بمناقصة، ثم استأجرت عمالة رخيصة تعاني من الفقر المدقع من دول مثل نيبال والفلبين لزيادة هامش الربح لديها.
  • مرشح سابق فشل في الفوز بعضوية الكونجرس عن الحزب الجمهوري مُنح عقدا قيمته 18 مليون دولار لحراسة مطار بغداد، بالرغم من عدم تمتعه بأي خبرة في هذا المجال.
  • اختار الأمريكيون تاجر سيارات مستعملة لشراء أسلحة للقوات الأمريكية - والنتائج معروفة مقدما (أسلحة فاسدة لا ينطلق منها الرصاص).
  • قدم متعهدون وثيقو الصلة بذوي النفوذ من السياسيين سيارات إسعاف وعربات مدرعة عمرها خمسون عاما ونهبوا ملايين الدولارات دون وجه حق، ومن دون حساب أو عقاب.
  • حاول أحد كبار المسئولين بالبنتاجون تمرير عقد لصديق شخصي له لتقديم خدمة الهاتف النقال في العراق - وهو سوق تصل قيمته إلى مليار دولار سنويا. وأما تيد ستيفنز العضو الجمهوري بمجلس الشيوخ عن ولاية ألاسكا فقد شارك في صياغة قانون إعادة إعمار العراق في نوفمبر 2003 بقيمة 4.18 مليار دولار وذلك لضمان امتيازات خاصة للتعاقد مع مجموعة من المتعهدين في دائرته الانتخابية - أي شركات من سكان ألاسكا الأصليين (الإسكيمو) - الذين منحوه أصواتهم في الانتخابات.ويرى ميللر أن إسناد مهمة الأمن لشركات خاصة لعب دوراً رئيسيا في أعمال العنف اليومية في العراق، ولكن تلك الشركات لم تتعرض للعقاب مثلما حدث مع العسكريين في سجن أبو غريب، ويضيف إنه نظرا لعدم التنسيق مع القوات الأمريكية فكثيرا ما يطلق متعهدو الأمن النار على سيارات العراقيين دون استفزاز واضح منهم، وهم محصنون من إقامة الدعاوى الجنائية والمدنية ضدهم. ولكن بالرغم من كل ذلك لقي حوالي خمسمائة من هؤلاء المتعهدين حتفهم في العراق.

النفط

من المعروف أن العراق يمتلك ثالث أكبر احتياطي من النفط في العالم، وبالرغم من ذلك فإن انتاج النفط في العراق الآن يقل بأكثر من نصف مليون برميل يوميا عن المعدلات التي وصل إليها قبل الحرب، مما يعني خسارة على العراق لا تقل عن 10 مليارات دولار سنويا كان من الممكن استغلالها في دفع عجلة التنمية الاقتصادية وبناء مدارس جديدة وتدريب قوات جيش وشرطة أكثر واقامة مؤسسات ديمقراطية.

الكهرباء

يرى ميللر أن عملية إعادة التيار الكهربائي في العراق لم تنجح في تحقيق غايتها المنشودة على أكمل وجه، بالرغم مما أنفق عليها من مبالغ باهظة وما بذل فيها من جهد كبير، ويقول إنه في العهد السابق كانت الكهرباء متوفرة على مدى الأربع والعشرين ساعة يومياً تقريباً، أما الآن فلا تتوفر إلا لحوالي 4 - 6 ساعات يوميا فقط، ويضيف أن انقطاع الكهرباء المتواصل في ظل العنف الطائفي وحوادث الاختطاف والسيارات المفخخة والجثث المشوهة المتناثرة في الشوارع... كل ذلك يجعل ملايين العراقيين العاديين يشعرون بأن حياتهم أصبحت أكثر صعوبة منذ الغزو الأمريكي لبلادهم.

الرعاية الصحية

نظرا لانقطاع التيار الكهربائي فإن المستشفيات لا تعمل بكفاءة أو بكامل طاقتها، والأطباء في مستشفيات رعاية الأطفال يشاهدون الأطفال الرضع يموتون أمامهم. وفي السياق نفسه يذكر المؤلف أن لورا بوش زوجة الرئيس الأمريكي ساعدت أحد أصدقاء الأسرة للفوز بعقد قيمته 50 مليون دولار لبناء مستشفى جديد للأطفال متخصص في جراحة التجميل والأورام المتقدمة في إحدى ضواحي مدينة البصرة بينما العراقيون هم في الواقع في أمس الحاجة إلى عيادات ومستوصفات صغيرة. وأما حالة المياه والصرف الصحي فيقول المؤلف إنها أسوأ مما كانت عليه قبل الغزو، إذ يتسرب حوالي 60 % من ماء الشرب من الأنابيب وحوالي 20 % من المجاري، ولذلك يعاني العراقيون الذين يعيشون في المناطق العشوائية الفقيرة في بغداد من تلوث المياه الذي يؤدي مع نقص الرعاية الصحية إلى تفشي أمراض من الصعب علاجها كالتهاب الكبد الوبائي.

وبالرغم من الصورة القاتمة التي رسمها المؤلف لعملية إعادة الاعمار فإنه يقول إن هناك بعض الانجازات الملموسة التي تحققت ولا يمكن إنكارها. إلا أن هذه النقاط المضيئة ليست - على حد قوله - سوى الاستثناء. والتعليم هو المجال الذي تحقق فيه أكبر انجاز : فقد تم إعادة إعمار أكثر من 500 مدرسة، وتدريب حوالي 47 ألف مدرس، مع شراء ملايين الكتب المدرسية للطلاب والتلاميذ. كما تم تحصين عشرات الآلاف من أطفال العراق ضد الأمراض وإصلاح وتجديد العديد من المباني الحكومية والمخافر ومراكز الحدود. كما شهدت مدينتا الصدر والنجف الشيعيتان - واللتان عانتا الاضطهاد الشديد في عهد دكتاتور العراق السابق - تحسنا كبيرا في المرافق العامة والخدمات في إطار عملية إعادة اعمارهما. ويحرص كبار المسئولين على إبراز إنجازاتهم والترويج لها، وذلك في محاولة منهم لإقناع الشعبين الأمريكي والعراقي بأن تضحياتهما بالدماء والأموال لم تذهب سدى، فهم يقولون إنهم نجحوا في توليد أكثر من 7000 ميجاوات من الكهرباء، وتزويد 3.2 مليون شخص إضافي بمياه الشرب النظيفة، وتدريب مئات الآلاف من رجال الشرطة والجيش، ويقولون إنه لولا ظروف الحرب لكانوا قد تمكنوا من تحقيق إنجازات أكبر.

الخاتمة

يقول المؤلف في الفصل الأخير من الكتاب إنه في ربيع 2006 لم يتبق إلا حوالي ملياري دولار من مبلغ الثلاثين ملياراً التي تحملها دافعو الضرائب الأمريكية لعملية إعمار ذلك البلد المدمر. وقد أعلن سلاح المهندسين الأمريكي أن معظم المشروعات الكبرى ستكتمل في نهاية 2006 أو أوائل 2007. وقد خصص مبلغ إضافي قدره 1.5 مليار دولار في الميزانية الجديدة سيذهب كله تقريبا لتدريب الجيش العراقي وتجهيزه، ولن يتبقى إلا ملايين قليلة للمشروعات الجديدة أو لبناء الديمقراطية في العراق.

ويختم ميللر كتابه بقوله (ص 293): «إن قرار إدارة الرئيس بوش بالتراجع عن جهود إعادة الإعمار هو آخر الأخطاء المأساوية فيها، ولكن تشكيل فرق عمل في المحافظات العراقية تضم أجهزة أمريكية وعناصر عراقية محلية في إطار إعادة النظر في عملية إعادة الاعمار قد يكون حلا واعدا مستوحى من خبرة السنوات العديدة الأخيرة... وحتى في نهاية المطاف لا يزال بوش يتجاهل دروس التاريخ والعبر المستخلصة منها، فعملية إعادة الاعمار في السنوات القليلة التي تلت الحرب العالمية الثانية كانت أيضا حافلة بالكوارث... إلا أن الدبلوماسيين والقادة السياسيين الأمريكيين قاموا بإعمال الفكر وإعادة النظر في الأمر برمته وخرجوا بمشروع جديد قاموا باطلاقه وهو مشروع مارشال الذي كان يمثل خطوة أكبر وأبعد نظرا من سابقتها، وفي النهاية أعادوا صياغة عملية إعادة الإعمار، ولم يكن الوقت متأخرا عندئذ... كما أنه ليس متأخرا الآن...».

وبعد... إذا كان المؤلف قد بدأ الكتاب بنبرة لا تخلو من التشاؤم واليأس فإنه يختمه بهذه الكلمات التي تحمل في طياتها شيئا من التفاؤل والأمل.

يا حبيبي كل شيء بقضاءْ ما بأيدينا خُلِقْنا تعساءْ
ربما تجمعُنا أقدارُنا ذات يومٍ بعدما عزّ اللقاءْ
فاذا أنكر خلٌّ خلَّه وتلاقينا لقاءَ الغرباءْ
ومضى كلٌّ إلى غايتِهِ لا تقلْ شئنَا وقل لي الحظ شاءْ


إبراهيم ناجي

 

تأليف : ت. كريستيان ميللر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات