مساحة ود كامي بزيع

 مساحة ود

بيت الطفولة

بعد غياب طويل نوعًا ما، زرت بيت الطفولة في قريتي البعيدة، أذهلني ما حلّ به من شيخوخة وهرم ونسيان، كان البيت لايزال على حاله من حيث الموقع الجغرافي، التقسيم الداخلي، والغرف، الحديقة، إلا أن شيئًا آخر قد تغيّر، لقد شاخ البيت.

هل تشيخ الأمكنة؟ أم نحن الذين نشيخ فنعكس نظرتنا على الأشياء؟

مرّات عديدة استرقت النظر إلى المرآة الموضوعة في الغرفة الصغيرة لأرى وجهي، بل لأنتبه إليه، كأني ألاحق ذاك الوجه الطفولي الذي غرّبته المدن وشتتته الفراغات، وأنا أيضًا قد كبرت، لكنني ما شخت، هل أقول هذا الكلام لأدافع عن شبابي؟

خرجت إلى الحديقة، الأشجار ذابلة، بل بكلمة أدق تعبيرًا هي مستوحشة، ما شعرت به، وأنا أبحث عن السنديانة التي كانت صغيرة، ها هي كبرت وربما أكثر، لقد هرمت بعض الشيء.

كنت أجول هنا وهناك باحثة عن شيء ما، لا أعرف بالتحديد ما هو، قد يكون أنا، تلك الأيام التي قضيتها، والسنين التي زرعتها، والقمر والظل والشمس والأصدقاء والأقارب، وأكثر من كل ذلك الأحلام، تلك التي كانت تنام معي، وتكبر معي، في زوايا البيت, كل زاوية في البيت أعرف جيدًا شكلها ولونها وعدد خطوطها والخربشات فيها، وقدماي قد لامست كل شبر فيه، ونظراتي كثيرًا ما طالت السقف العالي.

شاخ البيت، وهل الأمكنة تشيخ؟ هل لها عمر مثلنا نحن البشر؟ ما الذي يحكم شعورنا تجاه الأمكنة؟ وما علاقتنا بالمكان؟

ماذا لو كان المكان ليس إلا نحن؟

بعد قضائي عدة أيام في البيت الطفولي، رأيته يعود شيئًا فشيئًا إلى حيويته، يلملم أنفاسه كأنه يبتسم!، نعم، أحسست أن البيت ينفض الغبار عنه ويبتسم، وحتى الأشجار تراجعت عن ذبولها، وها هي ترحب بالقادمين.

إن الأمكنة تستمد حياتها من حضور قاطنيها. هي تخاف الوحدة والهجر. إن البيت الطفولي ليس إلا المكان الأليف الذي نعرف فيه فقط طعم الراحة والأمان كما قال باشلار.

كيف يمكن للبيت أن يحس بسكانه؟ كيف يعايشهم بأفراحهم وأتراحهم وهمومهم وأمانيهم؟

كم تتغير صورة البيت في كل مناسبة وفي كل فصل وعند كل موت أو عرس؟

هل شعرتم يومًا أن البيت موحش لأن الوالدة ليست فيه؟

هل شعرتم أن البيت أصبح وسيعًا مضيئًا ومزغردًا عند زواج أحد أفراده؟

هل فكرتم كيف عكس البيت تصورات وطموح الوالد الذي بنى هذا البيت ليتسع لعائلته الكبيرة؟ وكيف عكس ترتيب الأم وذوقها ورهافتها؟ كم من الأمسيات قد جمعتنا في غرفة الجلوس، كم من المواضيع ناقشناها، كم من اللحظات الجميلة في حين والحزينة في حين قد دخلت فيها إلى سريري؟ هذا الذي كنت أراقب القمر عبره، كم أصبح القمر غريبًا عني بعد ذلك؟

إن المكان ليس جغرافيا أبدًا، إنه المكان والزمان، لذلك تبدو البيوت المهجورة موحشة ومخيفة، إنها الخرائب المرعبة التي تسكنها الأشباح، فالإنسان يسكن البيوت العامرة، أما الأشباح فإنها تسكن الخرائب، ولكن لماذا تتحول البيوت عند رحيل أهلها عنها إلى خرائب، هل هي أرواحهم تعود لتسكن فيها، أم أن هذا الكلام هو ضرب من شطحات الخيال؟.

 

كامي بزيع