أرقام

(1 = 150)!

يقول تقرير دولي إن " الفقر لا يحتاج إلى جواز مرور، فهو قادر على اجتياز الحدود عبر الهجرة، ومشاكل البيئة، وتجارة المخدرات، وانتقال الأمراض، وعدم الاستقرار السياسي".

ويفيد التقرير نفسه، والذى أصدره عام 1992 برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بأن الفقر " أكبر تهديد لاستمرار كوكبنا ولاستمرار الحياة الإنسانية ".

وهكذا، تتوالى التقارير الدولية حول قضية الفقر.. فقبلها، اهتمت منظمة الأغذية والزراعة بالقضية عبر مشكلة الغذاء، واهتمت منظمة اليونسكو بها عبر مشكلة التعليم والأمية، وأجرى البنك الدولي دراسات مبكرة حول " حاجات الإنسان الأساسية " مثل المأكل والملبس والصحة والتعليم الأساسي، وما هو الحد الأدنى اللازم للإنسان لكي يكون " فوق خط الفقر"..

ثم جاء هذا التقرير المثير الذي أشرف عليه الاقتصادي الباكستاني والدولي المعروف: د. محبوب الحق.. وهو تقرير يحمل اسم "التنمية البشرية في العالم 1992 "، ويضم مئات التفاصيل والحقائق حول حياة الفقراء من الجوع، إلى المرض، والفاقة، والموت المبكر، وفرص التعليم والثقافة والتقدم.

ولكن، وقبل الوصول للتفاصيل يأتي رقم رئيسي صادم.

(1 = 150)!

حاول التقرير أن يرصد حالتى الثراء والفقر في العالم، وأن يضع يده في جيوب أفقر الفقراء وأغنى الأغنياء.. وحاول أن يتسم جهده بالعمومية فيبحث في شئون من اتفقت الأدبيات الاقتصادية على تصنيفهم وفق حالة الدخل.. ووفق شرائح هذا الدخل.. أعلى 20% من السكان.. وأدنى 20% من السكان.

في المقارنة تأتي المفارقة، فقد تضاعفت الفوارق بين عامي 1960 و 1990.. وأصبح أعلى (20%) من سكان العالم دخلا يحصلون على ما يساوي (150) ضعفا لأقل (20%) من السكان دخلا. ويمكن أن نتصور ترجمة هذه الأرقام فيما يحصل عليه الإنسان من مأكل ومشرب ودواء وعلاج وتعليم وترفيه. لنا أن نتصور نمط الحياة عند إنسان الشمال الأوربي أو الأمريكي.. وإنسان الجنوب في الهند أو بنجلاديش أو الصومال، ممن يعيشون تحت ما أسماه البنك الدولي " خط الفقر"، والذي تم تقديره عام 1990 ب (370) دولارا كدخل سنوي.

الشريحة التي يتحدث عنها التقرير (الأقل دخلا) هي الشريحة نفسها التي تحدث عنها تقرير للبنك الدولي فحدد من هم تحت خط الفقر بمليار نسمة، وهو ما يعادل في الوقت نفسه حوالي 20% من سكان العالم.

ورغم الشهادة الدولية بأن الحياة قد تحسنت في الدول النامية بشكل عام خلال العقود الثلاثة الماضية ورغم أن مؤشرات العمر المتوقع ووفيات الأطفال والتعليم والغذاء تتجه لأعلى فإن الصورة في بداية التسعينيات أن الفقر مستمر.. وأن الهوة بين الأثرياء والفقراء تتسع، وأن إحدى نتائج الفقر: الموت المبكر، حتى أن متوسط العمر المتوقع للإفريقي جنوب الصحراء لا يزيد على الخمسين عاما بينما يصل هذا المتوسط للياباني إلى ثمانين وإلى دول الشمال الغنية إلى ما يفوق السبعين.. و.. قد يرتبط ذلك بارتفاع نسبة وفيات الأطفال والتي تصل إلى (170) في الألف بجنوب آسيا في مقابل (10) في الألف بدولة مثل السويد.

وبطبيعة الحال فإن خريطة الفقر ذات تضاريس حادة، تبرز ملامحها في مناطق بعينها مثل الجنوب الآسيوي الذي يضم نصف فقراء العالم، ومثل الكثير من بلدان إفريقيا.. و.. حتى داخل هذه المناطق هناك سوء توزيع للفقر كما يقول البنك الدولي " فهناك تركز في المناطق الريفية والساحلية والمرتفعات ".. بل وهناك حرمان أكبر للمرأة التي تعاني من نقص في فرص الدخل، والعمل، والتعليم.

الفقر بين الداخل والخارج

الفقر منتشر، والتفاوت شديد.. والرقم المهم الذي يرد ويصدم العين هو ذلك الفارق في الدخل بين أعلى 20% وأدنى 20% من السكان.. الفارق الذي وصل- كما قلت- إلى 150 ضعفا.

في التحليل تأتي أسباب كثيرة، فدول الجنوب مسئولة عما يحدث ببرامجها التنموية الفقيرة، وسوء إدارتها للموارد والبرامج، ولغياب الأولويات.. وربما - وفي بعض البلدان- تدخل ميزانيات الحروب كسبب للفقر.

ولكن، وعلى الجانب الآخر، فإن " الخارج " مسئول بالدرجة نفسها.. فالمساعدات الدولية- وكما يقول التقرير- لم تكن فعالة بما يكفي، ولم تتجه بشكل كبير لأفقر فقراء العالم أو تتجه للتنمية البشرية الأساسية.. كان متوسط نصيب الفرد من المعونات الخارجية في جنوب آسيا خمسة دولارات في العام، بينما بلغ هذا المتوسط (55) دولارا في الشرق الأوسط الأعلى دخلا والأقل فقرا.

هناك سوء توزيع للمعونات، وهناك تقتير في الحجم حتى أصبح ما يدفعه الجنوب للشمال أضعاف ما يدفعه الشمال للجنوب.. فبينما كانت المعونات الدولية- وفي العامين الماضيين- حوالي خمسين مليار دولار في المتوسط، فإن- التزامات خدمة الدين (الصافية) قد وصلت (242) مليار دولار كمتوسط سنوي بين عامي (83) و (89). هذه المبالغ خرجت من الجنوب إلى الشمال لتسجل فائضا لحساب الشمال، وليس العكس.

الأكثر أن الفرص الضائعة نتيجة ظروف السوق تكلف الدول النامية خمسمائة مليار دولار سنويا.. أي عشرة أضعاف المعونات.. فدول الشمال تضع الحواجز أمام تدفقات السلع والبشر القادمة من الجنوب.. كذلك فهي تفرض أسعار سلعها الصناعية، بينما تهبط بأسعار خامات الجنوب وسلعه. والشمال يكاد يحتكر المعرفة والتكنولوجيا.

بالأرقام، تبدو الصورة واضحة..

** فالبلدان النامية تخسر 40 مليار دولار في العام بسبب خسائر التصدير للعالم الأول، وهي خسائر كان يمكن تفاديها لو ألغيت الحواجز الجمركية.

** المجموعة نفسها تخسر الكثير نتيجة سياسات الهجرة التي تمتص أفضل الأدمغة، بينما تغلق باب العمل أمام المهاجرين الآخرين والذين تصل عوائدهم المحولة لبلادهم (25) مليار دولار سنويا، وكان يمكن أن تتضاعف إذا اتسع سوق العمل الخارجي أمامهم.

و.. هكذا يلعب الشمال ضد الجنوب.. وبما يزيد الفقر ويقلل فرص التقدم فيه، حتى أنه خلال الثمانينيات وباستثناء بلدان كالصين تراجع النمو في معظم بلدان الجنوب وحقق معدلا سالبا في بعض المناطق، فهبط بمقدار (7. 1%) سنويا في إفريقيا، كما سجل هبوطا يقرب من نصف في المائة سنويا بأمريكا اللاتينية. والكاريبي.. لذا فقد أطلق التقرير على هذه الحقبة في حياة الدول النامية بأنها " العقد الضائع ".

الفقر والمستقبل

وحتى يقل معدل الفقر، وتضيق الهوة فإن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي يقترح ميثاقا عالميا بين الأمم الغنية والفقيرة، ميثاقا يضمن مستقبلا أكثر سلما وإنصافا.. كما يضمن تخفيض " الفقر المطلق " بنسبة 5 %.

الإجراءات بعد ذلك كثيرة تبدأ بحكومات رشيدة وفعالة، وتمتد لحق الجنوب في المعرفة والتكنولوجيا.. مرورا بزيادة ؟؟؟ الشمال وتخفيض الديون المستحقة له..

والأهم: علاج ما يسميه التقرير (ظروف السوق)، فسوق الشمال لابد أن تفتح أمام الجنوب لتستوعب إنتاجه وبعضا من عمالته.

إنه التفاعل الضروري بين الفقراء والأغنياء.. المتقدمين والأقل تقدما.. وإلا.. فماذا تعني حرية التجارة،.. وماذا يعني النظام العالمي الجديد،.. وهل يمكن أن تتعايش دول يتفاوت فيها ما يحوزه الفرد من فرص الحياة بمقدار (150) ضعفا؟.

قد يتصل الأمر بقيمة إنسانية اسمها (العدل)، لكن الأهم تأكيد قيمة أخرى اسمها (القوة)، ليست قوة البطش والاعتداء والحروب.. ولكن قوة الأنظمة والسياسات التي يمكن أن يمتلكها الجنوب.. فالبداية هنا بالضرورة.