حوارنا حول المستقبل وليس الماضي

حوارنا حول المستقبل وليس الماضي

قارئ : العربي يحاور شوقي رافع

...رئيس التحرير

ينقل الكاتب شوقي رافع في مقاله "الطغاة يجهلون الجغرافيا"- العربي سبتمبر 1998- عن المؤلف الأمريكي دافيد لاندس قوله: "إن غلطة المسلمين الكبرى، في كل الأحوال، هي رفضهم لآلات الطباعة باعتبارها إحدى وسائل الهرطقة، إن هذا الرفض هو أكثر ما أبعدهم عن المشاركة في التيار الرئيسي للمعرفة" ويكتفي الأستاذ رافع بالتعليق على هذا الموقف بعبارة واحدة، وهي: "إن لاندس لا يشير إلى أي مصدر أو أي حادثة تكشف أن الإسلام يرفض آلات الطباعة".

هنا أود أن أضع عدة ملاحظات، بعضها يتعلق بالتاريخ العربي عموما، وهو يتعرض باستمرار للتزوير، وبعضها يخص المقال المذكور، وسأحاول الإنجاز قدر الإمكان، وأعرف أن المحاولة ليست سهلة فأنا لست كاتباً محترفاً، على أمل أن تعذروني مسبقا.

أولاً: درست اللغة العربية وآدابها في جامعة بغداد، وكان من أهم الأساتذة الذين درسنا على أيديهم الدكتور قاسم السامرائي، وهو يحمل رسالة الدكتوراه من جامعة كامبريدج، وفي حدود ما أؤكده فإن الدكتور السامرائي كان يؤكد لنا، استناداً إلى المخطوطات وكتب التاريخ، أن العرب سبقوا الأوربيين إلى الطباعة، حيث قاموا بطبع القرآن الكريم وكتب أخرى في القرن التاسع الميلادي، وقبل قرون من ظهور مطبعة جوتنبرج، وكانوا يستعملون القوالب الخشبية في الطباعة، فهل الدكتور السامرائي مخطئ؟

ثانياً: في حدود علمي فإن الكتب العربية، أخذت طريقها إلى الطبع، بعد فترة وجيزة نسبياً من اختراع المطبعة، وكان كتاب "الكافية" لابن الحاجب من أوائل هذه الكتب المطبوعة عام 1592، وكذلك كتاب "مبادئ اللغة العربية"، فكيف يستوي طبع هذه الكتب مع ما يزعمه المؤلف الأمريكي من أن المسلمين حاربوا الطباعة؟

ثالثا: أتمنى على كتابنا العرب، وعلى كتاب مجلة "العربي" بالذات، وهي من أوسع المجلات العربية انتشاراً حتى هنا في بريطانيا، ألا يكتفوا بالنقل عن المؤلفين في الغرب، لأن هؤلاء المؤلفين، في أحسن الأحوال، ربما يجهلون الكثير منت تاريخنا، إذا لم نقل ربما يتجاهلون هذا التاريخ، ومن هنا فإن مسئولية الكاتب العربي تصبح كبيرة، إذ عليه أن يدقق في صحة ما يقولونه وما يكتبونه، وأن يصوب الحقائق، كي لا يتحول إلى شريك في ترويج الأفكار الخاطئة عن الحضارة الإسلامية التي مازال نورها يشع في مشارق الأرض ومغاربها، والتي من دونها لم يكن يستطيع هذا الغرب الخروج من ظلمات الجهل التي بلغت ذروتها في محاكم التفتيش مع كل التقدير والمحبة لمجلتنا "العربي".

قصي عبدالله المنذر ـ لندن

الزميل شوقي رافع رد بالتالي:

ملاحظات القارئ الكريم قصي عبدالله المنذر، أصابت عدة عصافير بحجر واحد، ومنحتني فرصة لإعادة قراءة بعض تاريخنا، وهو ما أود أن أشكره عليه، أكثر من ذلك فإن فتح باب الحوار، حول هذا الموضوع، يكتسب مع ذا القارئ الكريم بالذات، بعدا جديدا لمهمة وسائل الإعلام وفي طليعتها "العربي" في إعادة جسور التواصل بين "الطالب" قصي عبدالله المنذر وبين "الأستاذ" الدكتور قاسم السامرائي الذي التقيته في دبي- دولة الإمارات عام 1995م، ولم يخطر لي أن الأستاذ سوف يصبح موضوع حوار ومرجعية مع أحد تلاميذه الأوفياء.

ففي ندوة عقدت في دبي، في أكتوبر عام 1995 كان الدكتور السامرائي أبرز المتحدثين فيها، الندوة تمت بدعوة من "مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث" في دبي بالاشتراك مع "المجمع الثقافي" في أبوظبي، وكان عنوان الندوة "تاريخ الطباعة العربية حتى انتهاء القرن التاسع عشر"، وساهم فيها كل الباحثين: الأستاذ الدكتور قاسم السامرائي، الدكتور وحيد قدورة، الأستاذ مختار أحمد الندوي، والأستاذ فوزي تادرس، الأستاذ الدكتور محمد بن شريفة، الأستاذ الدكتور مهدي محقق، الأستاذ الدكتور يحيى محمود بن جنيد الساعاتي، الأستاذ الدكتور أنس خالدوف، الدكتور علي إبراهيم النملة، الأستاذ الدكتور صلاح الدين المنجد، والأستاذ الدكتور محمود محمد الطناحي.

والأبحاث التي قدمها المشاركون، وقد صدرت في كتاب عن "المجتمع الثقافي"، تعتبر بحق أفضل مرجعية في هذا الموضوع.

القراطيس السود

وعودة إلى السؤال: هل رفض المسلمون الطباعة لأسباب دينية، على ما زعم المؤلف الأمريكي دافيد لاندس؟

الدكتور السامرائي، وكان حتى عام 1995 يعمل أستاذا في قسم الدراسات الشرقية وكلية اللاهوت في جامعة ليدن في هولندا يؤكد ما تعلمه القارئ الكريم على يديه من أن تقنيات الطباعة لم تنتشر في العالم الإسلامي لأسباب ذوقية وفنية حسية تتعلق بجمالية الخط العربي ولغته وليس لأسباب دينية، ويقول إن المسلمين استخدموا طباعة الكتب بالقوالب الخشبية في المشرق العربي والأندلس في نهاية القرن الثالث للهجرة "التاسع للميلاد"، ويؤيد هذا اكتشاف ما يزيد على خمسين وثيقة من الوثائق العربية المطبوعة على الرق والكاغد وقماش الكتان، اكتشفت في واحة الفيوم في مصر، ويؤيد هذا أيضاً ما ورد في كتب التاريخ حول نقود الفراطيس التي كانت تطبع بالقوالب الخشبية، وكانت شائعة في زمن الملك العادل نور الدين زنكي، وكانت تسمى "القراطيس السود" وحول انتقال فن الطباعة من المشرق الإسلامي إلى أوربا يستشهد السامرائي بما يقو له جاك ريسلر "فلعل أهل جنوة الأذكياء في اهتبال الفرص التجارية قد استوردوا من تحف الشرق إلى أوربا سر طبع أوراق النقد بطريقة الحروف المتحركة".

ويركز الدكتور السامرائي في بحثه على "أن الأوربين لم يتوصلوا إلى فن الطباعة إلا بعد أن تعلموا صناعة الكاغد من المسلمين الذين احتكروا صناعته سبعة قرون في سمرقند وبغداد ودمشق والقاهرة وشاطبة وقاس".

ويشير الدكتور السامرائي إلى أن محاولة الفاتيكان كثلكة الطوائف النصرانية في الإمبراطورية العثمانية، وبخاصة في سوريا ولبنان، كان وراء ظهور أول كتاب بالعربية في إيطاليا، استعملت في طباعته الحروف المتحركة، وهو كتاب "صلاة السواعي" في مدينة فانو في سنة 1514م.

ويبقى أن الدكتور السامرائي لم ينف عدم انتشار الكتب المطبوعة في العالم العربي، وإن عزا عدم الانتشار هذا إلى أسباب ذوقية وليس إلى أسباب دينية.

ضربوا تجار الكتب المطبوعة

الدكتور وحيد قدورة الأستاذ المساعد في علم المكتبات والمعلومات بالمعهد الأعلى للتوثيق في جامعة تونس، وأول رئيس للاتحاد العربي للمكتبات والمعلومات يحدد موقف المسلمين من الطباعة بوضوح فيقول: "على الرغم من اقتناع عدد كبير من المسلمين بفوائد الطباعة فإن التردد والخوف من ردود فعل العلماء المحافظين حتى من العامة حال دون الاستفادة من خدمات المطبعة، بل وفي استعمال الكتاب المطبوع في أوربا مدة طويلة، فكان من منتيجة ذلك أن أحجم المتعلمون من المسلمين عن شراء كتب عربية علمية مطبوعة بإيطاليا مثل كتاب القانون الثاني في الطب لابن سينا الذي طبعته مطبعة "المديتشي" بروما سنة 1593، وكانوا يفضلون شراء الكتاب مخطوطا برغم أن ثمن الثاني يساوي عشرة أضعاف ثمن الأول، وكان رد فعل العامة شديداً فقد اعتدى بعضهم على تاجرين أوربيين كانا قد أحضرا كتبا علمية عربية مطبوعة بروما وأتلفوها تعبيرا عن رفضهم التام للمطبعة وإنتاجها، وتدخل السلطان مراد الثالث بحزم لحماية التجار من جهة ولتشجيع بين المطبوعات من جهة أخرى، فأصدر لهذا الغرض فرمانا يرجع تاريخه إلى سنة 996هـ- 1588م.

ويضيف الدكتور قدورة: "بعد مرور أكثر من قرنين ونصف القرن على اختراع "جوتنبرج" للمطبعة، وبعد تكثف الاتصالات بين العثمانيين والأوربيين على جميع المستويات، أصبح المناخ مهيأ لإدخال فن الطباعة العربية إلى الشرق..".

ويحدد الدكتور قدورة المنابع التي قامت في إستانبول وبلاد الشام، وهي مطبعة إستانبول "1726م"، مطبعة حلب "1706م" مطبعة الشوير في لبنان "1734مدينة"، ومطبعة بيروت "1751م".

وقد أحدث السلطان أحمد الثالث لجنة رقابة للعمل مع مدير المطبعة في إستانبول، وكانت إحدى مهمات اللجنة أن تتجنب طبع كتب الشريعة والفقه الإسلامي.

ونستنتج من دارسة الدكتور قدورة أن مطبعة حلب كانت السباقة في العالمين العربي والإسلامي غلىطباعة الكتب في عام 1706م، وكان مديرها البطريرك أثناسيوس الثالث دباس، وتولي ترجمة عدة كتب مسيحية إلى العربية، كما سبق له أن عمل في مطبعة بوخارست العربية في رومانيا "1701-1702م".

وقد اختار إقامة المطبعة في حلب "لوجود جالية مسيحية مهمة فيها، ولأنها المقر الثاني لبطريرك أنطاكية". أي أن الدوافع الدينية غلبت على أسباب إنشائها.

هنا لابد أن نشير إلى أن السلطان العثماني بايزيد الثاني كان قد منح ترخيصاً لليهود الذين استقروا في تركيا بعدما طردوا من إسبانيا بإقامة مطابع عربية لهم في عام 1494م، كما أن سلاطين آخرين محوا للأقليات الدينية، ومنهم الأرمن واليونانيون تراخيص لإقامة مطابع خاصة بهم شرط عدم استخدام الحرف العربي.

ويكشف الأستاذ الدكتور مهدي محقق- مدير معهد الدراسات الإسلامية في طهران "فرع جامعة ماك جيل بكندا" يكشف في دراسة عن تاريخ الطباعة العربية في بلاد إيران، أن "أول مطبعة أنشئت في إيران لطبع الكتب العربية والفارسية كانت المطبعة التي أسست في منطقة جلفا بمدينة أصفهان على يد القسيسين الأرمنيين حوالي سنة 1025 إلى 1035هـ وكانت تسمى"بصمة خانه"، والمشهور أن أول كتاب طبع فيها كان زبور داوود المعروف بـ "ساغموس" وصدر عام 1638 م وهو يقع في حوالي 570 صفحة واستغرق العمل فيه مدة سنة وخمسة أهشر من دون توقف".

أي أن مطبعة طهران سبقت مطابع الأستانة وبلاد الشام، وبالطبع سبقت ظهور الطباعة في مصر، حيث كانت أول مطبعة وصلت إلى مصر، مع الحملة الفرنسية عام 1798، حين حمل نابليون معه مطبعة صغيرة لطبع منشوراته وأوامره باللغة العربية، وفقا لما جاء في دارسة الأستاذ الدكتور محمود محمد الطناحي عن أوائل المطبوعات العربية في مصر.

نصل من كل هذا إلى أن ظهور المطبعة في القرن الخامس عشر الميلادي على يد الألماني جوتنبرج "1397-1468م" كان إنجازا حضاريا كبيرا، كم يقول الدكتور الطناحي، كما أن المطبعة "هي التقنية الأكثر فاعلية التي لم يخترع الإنسان قط مثيلاً لها"، وفق دارسة الدكتور قدورة، ومع ذلك فإن اليهود كانوا السباقين في العالم الإسلامي إلى الاستفادة من هذا الاختراع، وتلاهم المسيحيون، خاصة في سوريا ولبنان، ثم وبعد أن طبع الأوربيون ما يزيد على 167 كتاباً بالعربية في فرنسا وإيطاليا وهولندا وسواها، ظهر أول كتاب عربي مطبوع في المشرق.

وهنا نترك للقارئ الكريم قصي عبدالله المنذر أن يستنتج صحة ما ذهب إليه المؤلف الأمريكي لاندس عندما زعم أن غلطة المسلمين الكبرى هي رفضهم لآلات الطباعة باعتبارها إحدى وسائل الهرطقة.

والآن جاء دور الإنترنت

أما إذا شئنا لهذا الحوار أن يكون عصريا، وأن يتعامل مع المستقبل وليس مع الماضي، فربما من المفيد أن نطرح مواقف الدول والحكومات العربية والإسلامية من "الإنترنت" وهو اختراع قد يعادل اختراع المطبعة وربما يتفوق عليها، إذا نجد أن "الباب العالي" في بعض الدول أزداد علواً وغلواً أن في محاربة الإنترنت باعتبارها من وسائل الهرطقة الحديثة، فهناك دول عربية إسلامية لم تعرف الإنترنت بعد، قيل لأنها عالية الكلفة ولا يستطيع المواطن دفع بدل الاشتراك بها، مع أن وزارات الداخلية في هذه الدول كانت من الرواد في دفع بدل الاشتراك، وهناك دول عربية وإسلامية جعلت الاشتراك "حصريا"، أي يحتاج إلى موافقة أجهزة الأمن كي لا يساء استخدام الإنترنت، وهنك دول عربية وإسلامية أباحت استخدام شبكة الإنترنت للجميع، ولكن مسئولي الأمن فيها استعادوا تراث "الباب العالي" في فرض الرقابة والوصاية، فأقاموا شبكات مراقبة يعتقدون أنها فعالة، لتنظيف الشبكة، وقطع "دابر" الانحلال والفجور والفسق الذي يظهر على الإنترنت، وهذه العبارة الأخيرة سمعتها من مسئول أمني معني بالرقابة على الإنترنت وإلغاء "المواقع" غير المستحبة!

ولعل المصالحة مع الإنترنت لا تستغرق قرنين ونصف القرن كما حدث مع الطباعة.

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات