اللغة.. حياة

اللغة.. حياة

العَوْد أحمد

لمجلة «العربي» عناية قديمة باللغة العربية، لغة القرآن الكريم، ولغة أدب العرب وحضارتهم، فقد كانت تخصّها بصفحة شهرية تولاّها الأستاذ محمد خليفة التونسي أمدًا غير قصير، وها هي الصفحة تعود لتكون معرضًا لأبحاث ومناقشات لغوية في مسائل تشغل المنشئين والمتعلمين، وفي مشاكل يتبارى الغيارى في محاولة حلّها، ولتكون كذلك مجالاً لآراء القرّاء والمعنيين، سواء من خلال أسئلة تجيب المجلة عنها، أو مواقف يعبّر عنها أصحابها باختصار.

ومجالات اللغة في هذا الشأن واسعة جدًا، فنحن نسمع صرخات كثيرة تشكو ما يزعمونه صعوبة في اللغة، فيتصدى أهل الاختصاص للأمر، فلا يكادون يفلحون، ويتجرّأ الدخلاء، فيبنون على هباء، ونحن نرى عبوس المتشدّدين، ولاسيما إذا كانوا أنصاف علماء، ونلحظ استخفاف المتساهلين، ولاسيّما إذا كانوا أنصاف جهلاء. وبليّة اللغة في هذين معًا، وقد قال كعب بن سعد الغنوي قديمًا:

ولن يلبث الجهال أن يتهضموا أخا الحِلم ما لَمْ يستعن بجهولِ


وتحت أنظارنا، وفي مسامعنا، صحافة تفرض على أهل اللغة استعمالاتها، سواء كانت بارعة الصياغة، أو كانت بالغة القبح، أو كانت بين المنزلتين. ونحن في حضور مجامع للغة متعددة الأسماء، لكنها محدودة الأثر لأسباب كثيرة، معظمها سياسي، وبعضها مادي، وبعضها علمي. وهناك مصححون في وسائل الإعلام ودور النشر، منهم من يعرف حدوده، فيخدم اللغة بعلمه واتّزانه، ومنهم مدّع يستبدّ حتى بأهل الاختصاص. وهناك صيغ لغوية يحار المستعمل في استخدامها، وهناك استعمالات فاسدة لا يمكن التجاوز عنها مهما كنّا ميسرين، فالتيسير لا يعني قبول الفساد. وهناك مشكلة ابتكار المصطلحات العربية الموازنة أو المقابلة للمصطلحات الأجنبية، ومشكلة النسبة، ومشاكل الرسم (الإملاء) المختلفة - ومنها مشكلة الرسم القرآني - ومشاكل التذكير والتأنيث، ومشاكل العلوم اللغوية الحديثة، ولاسيّما الألسنية، ومجال تطبيقها على اللغة العربية، ومشاكل كثيرة سنعرض لها كلّما اتسع صدر هذه الصفحة لذلك، وقد يذكّرنا ببعضها سؤال من هنا، أو نقاش من هناك، أو نقد من هنالك.

المهم أن نتّفق على أن هذه اللغة إرث لنا، فهي ملكنا مثلما كانت ملكًا للقدماء، ومن حقنا أن نتصرف بها تصرّف الوارث الشرعي العاقل، وألا نسمح لأحد بأن يحجر على أحد آخر منا، بأي ذريعة كانت، إلا ذريعة القصور العلمي أو العقلي، أو السفه، أو الردّة عن اللغة ومعاداتها، أو إلحاق الضرر بها وبأهلها، عن قصد أو غير قصد. فأيّ تطوير يقتضي التخصص العميق في اللغة، أولاً، ويقتضي، ثانيًا، أن يكون هدفه خدمة التعبير الأدبي والعلمي بصورة متصلة، من غير مسخ للغة أو تبديل لهـــويتها، أو محاولة لقتلها، أو ثلم لكرامتها ولمكانتها، فهي رمز الأمة وتعبير عن حضارتها، ووعاء لأديانها وآدابها وأفـــكارها.

لكن ذلك لا يعني إدخال اللغة في حيّز المحرّمات، ومنع الاقتراب منها، والحؤول دون تبديل صيغها، بحجة أنها لغة القرآن الكريم، ولو صحّ ذلك التقديس لوجب إتلاف كل أدب عربي يعبّر عن فحش أو هزل أو إسفاف، قبل الإسلام وبعده. إنها، ابتداء، لغة العرب بفضلائهم وسفهائهم، وعباقرتهم وأغبيائهم، ومُثلهم العليا وسفاسفهم الدنيا، وقد استعان بها القرآن الكريم ليفهم أولئك العرب آياته وسوره، وفي أثناء استعانته بها، طوّرها تطويرًا ملحوظًا يلائم التطوّر الفكري الذي أراد التعبير عنه، فعرّب ألفاظًا أجنبية لم يكن العرب يعرفونها - أو ربّما كانوا يعرفون بعضها بقلّة - وابتكر مصطلحات لا عهد لهم بها من قبل، وأنشأ صيغًا تعبيرية خاصة به، والأهم من ذلك كله أنه ابتكر صورًا أدبية مدهشة، غريبة عمّا كانوا يعرفونه في نثرهم وشعرهم، وربما قريبة من أروع ما نعرفه في أدب العصور الحديثة.

ومن عجب أن الشعر الإسلامي، جاء ضعيفًا في معظمه، بالقياس إلى قمم الشعر الجاهلي، مع أن في القرآن تلك الصور الراقية، التي لم يعرف الشعر الجاهلي لها نظيرًا، حتى التبس الأمر على العرب، فظنّوا القرآن شعرًا، ولو أن الشعراء المسلمين الأوائل نهلوا من الصور القرآنية المدهشة الغريبة تلك، لجاء شعرهم مختلفًا، لكن يبدو أنهم شعروا بمهابة القرآن الكريم، فلم يقربوا صوره الموحية القريبة من الشعر الفائق الروعة، وإن جاءت في كلام غير موزون. لعلهم ظنّوا، لشدة إيمانهم وورعهم، أن تلك الصور من خصائص النص المقدّس، فلا ينبغي لأحد محاكاتها أو اتّباع أسلوبها.

لكنهم مع ذلك اتّبعوا الأساليب القرآنية البسيطة، وأفادوا من المزايا البلاغية، التي فيها، وذلك لأن تلك الأساليب مما ألفوه في آدابهم، بغض النظر عن اختلاف المواضيع والمستويات. أما الصور المدهشة الغريبة، التي في محاكاة أساليبها إثراء للشعر، فيبدو أنهم تنكبوا عنها، على أنها من نتاج الغيب الذي لا ينبغي لبشر، وكأن في محاكاتها نقضًا للإعجاز، أو انتحالاً لصفة قدسيّة. ولعل هذه الغرابة وذلك الإدهاش هما اللذان حملا البدو، في البداية، على مجافاة الإسلام، لأن البدويّ لا يحتمل إلا الصورة الصريحة والفكر البسيط، ولعلهما مما جعل الإسلام دين مدينة وحاضرة كذلك.

هذا إذن مبدأ هذه الصفحة، معالجة بلاتقديس، وجرأة بلا تدنيس، والمهم ألا نقتل اللغة، لا بالتشدد والتحنيط، ولا بالتراخي والإهمال والجحود. إنها لغتنا، فهي إذن حياتنا، وما أبشع الانتحار.

 

مصطفى علي الجوزو

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات