جمال العربية

جمال العربية

مزامير أمل دنقل

في شعر أمل دنقل لغة تتوهّج بالحسّ الدرامي والتراجيدي معًا، ومواقف شعرية، بالغة العمق والنشوة، يجيش بها وجدان بجدل وتريْن شديدي العذوبة: أحدهما رومانسي والآخر واقعي، وحال شعرية تعصف بأمل دنقل الشاعر والإنسان، وتجعله صادق الانشطار، وكأنه على «الأعراف»، بين انتمائه القومي - الذي ليس موضع شك أو تساؤل - وتشقق اليقين القومي الذي تكتسي تجلياته ملامح الهزيمة حينًا، وتشتت القافلة حينًا ثانيا، وخيانة «الحداة» وتقاعسهم حينًا ثالثًا.

واليقين القومي في شعر أمل، يقين يغتذي بالحب والحضور الإنساني المشعّ، تزلزله وتعصف به - في حالات التباعد والكراهية - سحائب الافتقاد، ودوّامات التوحد الممعن في اعتصاره للكيان، واستنزافه آخر قطرات الروح.

من هنا، فإن قصيدته «مزامير» التي تضم ثمانية مزامير متتابعة، من بين قصائد ديوانه «العهد الآتي» يفضي بنا أفقها الشعري إلى هذا الفضاء الممتلئ بالشجن والشجى، بالأسى والتأسي، بعناق الحاضر واستشراف القادم، بانخلاع القلب والبحث عن دفء مفتقد، بالضياع الواعي الذي يتنفس في عروق «يقين» مشدود لا يرحل ولا يفارق.إنها صورة «أمل» الحية، المتمرّدة، الغنية بظلالها وألوانها، بشموخها وانكساراتها، بطموحها وخفوت نبرتها، في قلب مدينة يعشقها ويعشق من خلالها البحر، وهي وحيدة مثله، أو هو متوحد مثلها، تلك هي الإسكندرية، التي ارتبط بها وهج شبابه، وانغرزت عميقًا في لوحات الذكرى والاسترجاع، كلما عاد إلى مخزون من وميض تلك السنوات، التي اعتصرته برودتها، وكان هو يجاهد دومًا بين حمية الرعد والوجد، بحثًا عن دفء القلب، وكساءٍ لاثنين عارييْن.

يقول أمل دنقل في مزاميره:

المزمور الأول:

أعشق إسكندريةَ
وإسكندرية تعشق رائحةَ البحرِ
والبحر يعشق فاتنة في الضفاف البعيدة!

****

كل أمسية تتسلل من جانبي
تتجرّد من كلّ أثوابها
وتحلّ غدائرها
ثم تخرج عاريةً في الشوارع تحت المطر
فإذا اقتربت من سرير التنهد والزرقةِ
انطرحت في ملاءاته الرغوية،
وانفتحت تنتظر!
وتظلُّ إلى الفجر
ممدودةً كالنداء
ومشدودة كالوتر

...................

وتظلُّ وحيدةً!

المزمور الثاني:

قلت لها في الليلة الماطرة
البحرُ عنكبوت
وأنت - في شراكه - فراشة تموت
وانتفضت كالقطة النافرة
وانتصبت في خفقان الريح والأمواج
ثديان من زجاج
وجسدٌ من عاج
وانفلتت مبحرةً في رحلة المجهول،
فوق الزّبَد المهتاجْ
ناديتُ.... ما ردّتْ
صرختُ... ما ارتدّت
وظلّ صوتي يتلاشى... في تلاشيها
وراء الموجة الكاسرة

...............

خاسرة، خاسرة
إن تنظري في عينيْ الغريمة السّاحرة
أو ترفعي عينيْك نحو الماسة التي تَزيّن التاج

المزمور الثالث:

لفظ البحرُ أعضاءها في صباحٍ أليمْ
فرأيتُ الكلومْ
ورأيتُ أظافرَها الدمويّة
تتلوّى على خُصلةٍ «ذهبية»
فحشوتُ جراحاتها بالرمالِ»
وأدفأتها بنبيذ الكرومْ

.................

وتعيشُ معي الآن!
ما بيننا حائطٌ من وجومْ!
بيننا نسماتُ «الغريم»!
كلّ أمسيةٍ
تتسلل في ساعة المدّ في الساعة القمرية
تستريحُ على صخرية الأبدية
تتسمع سخريّة الموج من تحت أقدامها
وصفير البواخر... راحلةً في السّواد الحميم
تتصاعد من شفتيها المُملّحتين رياحُ السّموم
تتساقط أدمعها في سهوم
والنجومُ
(الغريقةُ في القاعِ)
تصعدُ.... واحدة... بعد أخرى
فتلقطها،
وتعدُّ النجومْ
في انتظار الحبيب القديمْ!

المزمور الرابع:

(ترنيمة لشهر يناير)
فجأةً...يجفل خطوُ القلب،
تهتزّ الكرياتُ الرصاصية في سلّته!
(هل إصبع الوحدة أم إصبعك المصبوغ بالحناء؟)
في الخارج أسوارٌ وأمطارٌ،
غلافُ الليل ينشقُّ عن الرعدِ
غلافُ القلب ينشقُّ عن الوجدً
مساحاتٌ من الضوءِ الرماديّ
أنا النافذةُ المغلقةُ السوداءُ
والتفاحةُ الحمراءُ
والأسماءُ
(اسمي كان مكتوبًا على طرف قميصي قبل أن يعلق في سلك الحدودِ الشائك)
النهرُ ضميري (ولعينيكِ انسيابُ النهرِ)
ما أقسى انتظاري!
وفؤادي ساعةٌ رمليةٌ صفراءُ
يهوي الرملُ في أعماقها شيئًا فشيئًا
فربما للرمل طعم الملح أحيانًا... وطعم الانتظار!

المزمور الخامس:

كان فستانك في الصيف من الكتّانِ،
والزهرةُ في صدرك بيضاءَ،
ولكنّ الشتاءَ الآن يكسوك بلون السلِّ والنرجسِ!
(حتى ورقة التوت على فخذيْك صفراءُ!)
هل الماءُ يغيضُ الآن في البئرِ؟
هل الماء يفيضُ الآنَ في البئرِ؟
أماءٌ؟ أم دمٌ؟
(هذا الندى القاتلُ ذو الوجهين)
كان النايُ يمتدُّ من الضفّة للضفّةِ
من صدركِ إلى صدري
كان النايُ ممتدًا
ولون الليل بين البرتقالي - الرّمادي - السّماوي
وفي شعرك غابات من الوحشةِ والصمتِ،
هوى نجمٌ، وفي الثانية التالية اصطكّت يدي في الشبح العابر
(هل كانت يدي في يدك اليسرى؟)
وفي الثانية الثانية اصطكّت يدي في كلمة السجين على وجْه الجدار!!

المزمور السادس:

نحنُ صوْتان...
(إذن فالصوتُ قد أصبح صوتين)
تنزّهْنا على خطِّ استواءِ الموتِ
لملمْنا البنفسجْ
وتسلّقنا شعاع الزهو
خَلخلنا مزاليج البيوت
وقدحْنا حجر الحبّ... جلسْنا نتوهّج
فاحلفي باسْمي، وباسْم العنكبوت
باسْم نقش الذكرياتِ المتعرّج
وركام الذكريات المتدرج
إنها ورقةُ توتْ
سقطت من عورة الصيفِ،
وظلّت تتدحرج
فوقفنا نتفرّج
(دون أن نطرف) حتى سقطت في النهرِ
وارتدّ السّكوت!

المزمور السابع:

جاء الأناسُ الميتون يحملون
أكفانهم، أطيارهم ليست إلى أعناقهم
يستفسرون
«ماذا أتى بنا هنا؟!!»
أتت بكم امرأةٌ خاطئةٌ
نهودُها دافئة
ولحْمُها مُعطّر النكّهة
قد استدارت في فراشها برهة
عانقت الجدارَ، قبّلتْ وجهه
(يأيها الجدارُ، لا تبحْ بما ترى
ولا تقلْ عن الذين يولدون)
وغمغم الجدارُ
يا صديقتي الطفلة
مات الذين يسألون!

.........

ومرّت الليلة
فربما كان أباكم الجدار
ربما يكون!

المزمور الثامن:

(شجوية)
لماذا يتابعني أينما سرتُ صوتُ الكمان؟
أسافرُ في القطاراتِ العتيقةِ،
(كيْ أتحدّّث للغرباءِ المسنّينَ)
أرفع صوتي ليطغى على ضجة العجلات
وأغفو على نبضات القطار الحديدية القلب
(تهدر مثل الطواحين)
لكنها بغتةً... تتباعدُ شيئًا فشيئًا
ويصحو نداءُ الكمان!

.............

أسيرُ مع الناس في المهرجاناتِ
أُصغي لبوق الجنود النّحاسي
يملأ حلقي غبار النشيد الحماسيّ
لكنني فجأةً... لا أرى!
فجأة تتلاشى الصفوفُ أمامي
وينسربُ الصوتُ مبتعدًا
ورويدًا، رويدًا، يعود إلى القلبِ صوتُ الكمانْ!
لماذا إذا ما تهيّأتُ للنوم يأتي الكمان
فأصغي له آتيًا من مكانٍ بعيدٍ
فتصمتُ همهمةُ الريح خلف الشبابيكِ،
نبضُ الوسادة في أذني
تتراجع دقاتُ قلبي،
وأرحلُ في مدنٍ لم أزرْها
شوارعُها فضةٌ
وبناياتها من خيوطِ الأشعةِ
ألْقَى التي واعدْتني على ضفة النهر واقفة
وعلى كتفيْها يحُطُّ اليمامُ الغريبُ
وفي راحتيها يغطُّ الجنانْ!

..............

أُحبُّكِ.... صار الكمانُ كُعوبَ بنادقْ!
وصار يمامُ الحدائقْ
قنابل تسقطُ في كلِّ آن

...............

وغاب الكمان!

***

لا يمكن لشاعر في حجم أمل دنقل، ونوعية وعيه الشعري وحساسيته الشعرية، أن يغادر جلده أو يفارق حقيقته، والمقطع الأخير في مزموره الأخير شاهد على هذا الوعي اليقظ، والانتماء الحقيقي، وصلبه الرومانسي والواقعي فيه، حين يصبح الكمان - في عينيه وإدراكه الوجودي - كعوب بنادق، وحين يصبح يمام الحدائق قنابل، وتصبح المزامير - وقد انعكست عليها صدمة الختام المباغتة - حبات عقدٍ يمثل أنشوطة الحياة، التي تُرخي للشاعر المدى، وهو يعانق المدينة والبحر والكائنات، وتلتفّ حول عنقه خانقة واخزة بالأسى والشجن والتمرّد، لكنها في الحاليْن، وفي الدوْرين، تجليات إبداع مُحْكم، وأنغام عازف متحكّم، وفضاءات شاعر لا يتكرر.

لا تمْحُ رَوْعَتَها بذكر فعالها دعْها تمرُّ كما بدت بجلالها
لا تنكرنَّ الشمسَ عند غروبها أَوَما نعمتَ بِدِفْئِها وظلالها؟
إن كان فاتك مجدها رَأدَ الضُّخى فاحمدْ لها ما كان من آصالها


إبراهيم ناجي

 

فاروق شوشة