إلى أن نلتقي

إلى أن نلتقي

البوتقة

إذا كنت من عشاق القصة القصيرة مثلي، وتريد أن تطلع على أحدث ما فيها من اتجاهات معاصرة، فليس أمامك إلا مكان واحد تذهب إليه هو «البوتقة» www.albawtaka.com وهي مجلة إلكترونية ومجانية، تكفي ضغطة زر واحدة لتدخل في عالمها السحري، لقد صدرت من هذه المجلة الرائعة والمتخصصة في ترجمة القصة القصيرة سته أعداد فقط، يحتوي كل عددعلى قصتين او ثلاث، وهي قصص طويلة نسبيًا، إذ يبلغ عدد كلمات بعضها 5 أو 6 آلاف كلمة، أي أنها لم تعد تقدم لمحة، أو ومضة عابرة، من الوجه الإنساني ولكنها تحولت في هذا الشكل المعاصر لتقدم صورة مكثفة لسيرة إنسانية تتميز بالتفرد والغرابة، كما هو شأن شخصيات القصة القصيرة، وكما سيكون دائمًا، ويقوم بعبء الاختيار والترجمة في هذه المجلة فرد واحد فقط هي «هالة صلاح الدين» التي لا أعرف عنها شيئا تقريبَا، ولكن بهذه المجلة، وتفانيها في إصدارها وإرسالها إلى كل من تلمس اهتمامه بالقصة القصيرة تقدم خدمة لكل كتّاب هذا الفن الذي كنا نظن انه يتراجع امام تيار الرواية الطاغي. و«البوتقة» لا توضح مدى تمكن المترجمة من اللغة الإنجليزية فقط، ولكن مدى تمكنها من لغتها العربية، وارتفاع ذائقتها الأدبية أيضًا، ويدعم هذه القصص رأي «أوكونر» في كتابه عن القصة القصيرة «الصوت المتفرد» من أنه لا يوجد شكل ثابت ومحدد لهذا الفن، فكل شكل فيها يخص مبدعه، هناك شكل يخص موباسان، وآخر يخص تشيكوف، وثالث يخص يوسف إدريس، ولا أحد على وجه التحديد يعرف جذور هذا الفن الغريب، فإذا كانت الرواية قد ولدت من رحم الملاحم القصيرة، فإن جذور القصة القصيرة ليست بهذا القدم، فهي لا تنتمي إلى القصص الشعبية التي تعبر عن ضمير الجماعة، لأن سحرها الحقيقي في تصويرها لحالة الفرد، ولا تنتمي للأساطير التي تتحدث عن الأبطال والآلهة، لأن أبطال القصة القصيرة الأساسيين هم البسطاء والمهمشون، إنها حالة خاصة نشأت مع سكنى المدن وانتشار الصحف ومحاولة الطبقة الوسطى التعبير عن نفسها. وبالرغم من أن هالة تختار كل ترجماتها من الأدب الأمريكي المعاصر، فإننا نجد فيه كل الأصوات، فعولمة اللغة الإنجليزية جعلت من الممكن فتح النوافذ على أي مكان في العالم، فمن خلال هذه القصص نرى ذلك الشاعر الذي جاء من البوسنة مبهورًا بالحلم الأمريكي لينتهي به الحال وهو يعمل في تنظيف المراحيض العامة، والشاب الصيني الذي يعاني من الشذوذ الجنسي فيكون علاجه بالصدمات الكهربائية ثم إيداعه السجن، وذلك الرجل الذي يشبه المسيح يعود على هيئة ميكانيكي مطارد فيصلح كل الآلات المعطلة، ويحل المشاكل الاجتماعية الممزقة، ويوقظ الموتى، ولكن حين يجدّ المطاردون في أثره لا يكون أمامه إلا أن يلقي بنفسه في النهر، والسيدة التي تلد داخل التاكسي، وحين يفر السائق مذعورًا تقود بنفسها السيارة ومازال الحبل السري يتدلى منها. ومهما استعرضنا من نماذج فلن نستطيع أن نصف ذلك العالم الغرائبي الذي تحفل به هذه النماذج المعاصرة، ولا الشخصيات المتفردة التي تقدمها، وهي تثبت مرة أخرى مقولة أوكونر أن الرواية تختلف عن القصة القصيرة، فالأولى عمل تطبيقي يستمد مفرداته من الواقع، بينما الأخيرة عمل تجريبي، ينتقي واقعه الخاص، وشخصياته المتفردة. إن هذه القصص المترجمة توصل بيننا وبين تيار المعاصرة في هذا الفن، وتكشف الخطوات التي خطاها مبتعدًا عنا دون أن ندري.

 

محمد المنسي قنديل