ماذا يتبقى من نظرية صراع الحضارات?
ماذا يتبقى من نظرية صراع الحضارات?
حديث الشهر لا بد من الاعتراف أولا بأن هناك حضارات قوية متقدمة وسائدة, وحضارات بائدة, أو متراجعة في آخر الصف, لا تقدم ولا تؤخر, وهناك حضارات تختفي من الوجود وتموت, ولا يوجد مؤشر أخطر على هذا من معيار اندثار اللغات البشرية. فعلى مدى التاريخ البشري بأكمله كان يوجد حوالي عشرة آلاف لغة منطوقة, واليوم وصل عدد هذه اللغات إلى ستة آلاف لغة مستعملة, لكن الكثير منها لا يتم تداوله وتعليمه للأطفال, أي أنها لغات تحتضر بالفعل. أما اللغات التي يتحدث بها أكثر من مليون شخص, فلا يوجد منها الآن سوى ثلاثمائة لغة. وخلال القرن القادم قد يندثر أكثر من نصف اللغات المنطوقة في العالم. لكي تكون للعقيدة قوة سياسية فإنها تحتاج إلى دولة تخضع لها لرؤيه الهنتنجتونية للعالم تنطوي على قدر هائل من (التلفيق العلمي)! فدرين يرى أن (الدولة العظمى) لا تكفي لوصف الولايات المتحدة! واللغة ليست مجموعة من الحروف أو الكلمات المنطوقة, ولا مجرد بناء للقواعد النحوية, لكنها تمثل إشعاع الروح الإنسانية على الأرض التي نعيش عليها. فمن خلالها ينفذ جوهر الحضارة إلى العالم المادي, وللغة قداسة الكائن البشري بها يرتبط تميزه وارتقاؤه, والحزن على انقراض لغة لا يقل عن الحزن على انقراض الجنس البشري. إن مناظرة هذا الوضع بما يحدث في العالم البيولوجي يؤكد الشبه الكبير بينهما. فعندما يتوازن الانقراض بمولد كائن جديد يكون ذلك ظاهرة عادية. لكن موجة فقدان الأنواع الحية, التي تنتج عن الأنشطة البشرية, لم يسبق لها مثيل. وبالطريقة ذاتها, فإن اللغات, مثلها مثل الثقافات والأنواع الحية كانت دائما تتطور, ولكن في وقتنا الراهن نجد اللغات تندثر بمعدل ينذر بالخطر ـ خلال جيل أو جيلين ـ واندثار إحدى اللغات يشبه إلقاء قنبلة نووية على أحد أكبر متاحف العالم. فباختفاء اللغات تموت الثقافات, والعالم في جوهره يصبح مكانا عليلاً وحيد النسق, وتتبدد فجأة المعارف الأولية والمنجزات الفكرية التي حققتها البشرية على مدى آلاف السنين. عالم ما بعد الحرب الباردة خلال السنوات القليلة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية, كان من الشائع أن يطلق الكتّاب والمتحدثون على الفترة التي يعيشون فيها فترة ما بعد الحرب. لكن فترة ما بعد الحرب أو ما بعد أي شيء لا يمكن أن تدوم طويلاً, ويستقر المقام في النهاية لفترة تتخذ لنفسها اسما نابعاً من سمائها. وقد حدث هذا منذ العام 1947م, واستكمل إلى حد بعيد في العام 1949م, لتصبح فترة ما بعد الحرب هي عصر (الحرب الباردة). وهذه القاعدة في التأطير نفسها التي تنطبق على الفترة الانتقالية التي نعيشها اليوم, فاستمرار الحديث عن مرحلة ما بعد الحرب الباردة, بعد أكثر من عقد من نهايتها, أمر لا يمت للتحليل العلمي بصلة, كما أنه من العبث أيضاً أن نستمر في تسميتها مرحلة (ما بعد الحرب الباردة). والشيء الواضح الوحيد الذي لا خلاف عليه هو أننا نعيش مرحلة جديدة, والافتقار إلى تسمية متفق عليها لهذه المرحلة هو مظهر خارجي للافتقار إلى تحليل متفق عليه للوضع الدولي. ولا تكمن المشكلة في عدم وجود سمات محددة تسم صراعات المرحلة الجديدة, وإنما في كثرتها. والحقيقة أنه منذ العام 1993م, وهناك أربع سمات رئيسية, نستطيع على الأقل ترشيحها لأن تكون المحاور الرئيسية للصراع الدولي. فعلى غرار توصيفات الفترات السابقة القائمة على الحروب, هناك: حروب التجارة, وخاصة بين الولايات المتحدة واليابان, وأوربا الغربية ثم الصين. حروب دينية, وتطال الإسلام بصفة خاصة. حروب عرقية, خاصة في الجمهوريات السابقة للاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا والدول (المنقرضة) في إفريقيا. تجدد الحروب الباردة, خاصة تلك التي تضم روسيا أو الصين. على هذا النهج سار المفكر الأمريكي (صاموئيل هنتنجتون) الذي كتب مقاله ذائع الصيت, والذي يضمّ إلى حد بعيد, أنواع الحروب الأربع المختلفة تحت صيغة واحدة هي (صدام الحضارات). فبالنسبة للحروب التجارية, كان من الطبيعي فور انهيار الاتحاد السوفييتي وسقوط فكرة الشيوعية أن يركز معظم المحللين على انتصار الرأسمالية الليبرالية وانتشار الاقتصاد الكوني كمعالم رئيسية للمرحلة الجديدة. لكن كان من الطبيعي أيضاً أن يفكر البعض, استناداً إلى خبرات العصر السابق أو قياساً عليها, في أن تكون العوامل المحركة للسياسة الدولية هي القوى العظمى, ما لم تتحول تلك الدول إلى (دول تجارية) أكثر من كونها (دولا عسكرية ـ سياسة), فالقوة العظمى هي العظمى اقتصادياً, أي الولايات المتحدة واليابان, وأوربا الغربية بقيادة ألمانيا. ومن هذا فإن الصراع الدولي يمكن أن يتخذ, بالأساس, شكل الصراع الاقتصادي أو الحروب التجارية. أما فيما يتعلق بالحروب الدينية, فإن بعض المحللين يرى بعداً آخر لاستمرار الماضي, أو الاتساق معه, هو الأيديولوجيات أو النظرة إلى العالم. فبعد سقوط فكرة الشيوعية كان من الطبيعي أن يفكر هؤلاء في ضرورة خوض صراع جديد مع العقيدة الراديكالية الأخرى, أي الأصولية الإسلامية ـ على الأقل حتى تتشكل قوة مضادة أخرى تصلح أن يوجه لها الصراع, الذي لا بد أن يستمر حفاظاً على تماسك واندفاع الحضارة الغربية, كما يرى بعض مفكري وواضعي الاستراتيجيات الغربية! ـ ولكي تكون لأي عقيدة قوتها السياسية على الساحة الدولية, فإنها تحتاج إلى (دولة خاضعة للفكرة), كما كان الحال بالنسبة للاتحاد السوفييتي, لكي يوجه الصراع ضدها. وقد كانت إيران دولة مرشحة بقوة لاحتلال هذه المكانة, بعد الثورة الإيرانية الإسلامية, لكن الانقسامات التاريخية بين المذاهب الإسلامية جعلتها تتراجع لتفسح المكان أمام (جماعات إسلامية), كالجهاد والجماعة الإسلامية في مصر, وجبهة الإنقاذ في الجزائر, وحماس والجهاد الإسلامي في فلسطين, وحزب الله في لبنان, والقاعدة وطالبان في أفغانستان, والقائمة تطول. وفيما يتعلق بالحروب العرقية, فإن بعض المحللين قد ركز على الحروب التي تقع وليس على تلك المرشحة للوقوع. ومن هنا, أولوا اهتماماً كبيراً بتلك الحروب التي تتسم بإحياء العداءات القومية والعرقية لعهود ما قبل الحرب الباردة. فانهيار الاتحاد السوفييتي كان انهياراً كذلك للدولة متعددة القوميات وللأيديولوجيا الأممية, وهو ما ينطبق بالطبع على دول كيوغسلافيا السابقة, التي كانت صورة مصغرة معدلة من الاتحاد السوفييتي. وأفضى انهيار النظامين الاشتراكيين/ الشيوعيين في كلا البلدين إلى إطلاق العنف بين الجماعات العرقية المختلفة ـ فهذه النظم الشمولية لم تنجح في حل المسألة القومية ـ كما اعتقدت ـ لكنها كبتتها فقط, تماما كما حدث مع تفكك الإمبراطوريات ذات القوميات المتعددة في مراحل تاريخية سابقة, كالإمبراطورية النمساوية المجرية والإمبراطورية العثمانية, وقبلهما الإمبراطورية الرومانية ثم الإسلامية. هذه هي الدوائر الأربع المرشحة للصراع والتي يمكن أن تندلع في ظل المرحلة الراهنة من تاريخ البشرية, والتي ليس أمامنا من مفر سوى تسميتها عالم ما بعد الحرب الباردة. فلماذا إذن (صدام الحضارات) هو الذي قفز وحده إلى المقدمة في هذا الوقت? حضارات هنتنجتون في هذا السياق, دخل هنتنجتون على خط الحوار لأول مرة في العام 1993, بعد سقوط الاتحاد السوفييتي, من خلال مقالته التي نشرها في مجلة Foreign Affairs, وطور أفكارها لاحقاً في كتابه الشهير الذي حمل اسم المقالة نفسها أي (صدام الحضارات) The Clash of Civilization. حيث يرى أن محور الصراع الرئيسي في المرحلة الجديدة سيكون بين ثقافات, أو حضارات, وعلى الرغم من أنه لا يعالج أشكال الصراع آنفة الذكر بشكل مستقل, فإن مفهومه للحضارات يشملها كلها. وهو يقر ـ مثلاً ـ بحتمية نشوب نزاعات تجارية, لكنه يستبعد تحوّلها إلى صراعات حقيقية. فالولايات المتحدة وأوربا الغربية, في نظره, أجزاء من الحضارة الغربية نفسها. والنزاع بينها سيكون هامشياً وقابلاً للاحتواء (هل الحرب العالمية الثانية تم احتواؤها?). وبالتالي, فإن الصراعات في يوغسلافيا بين المسلمين والصرب والكروات هي صراعات بين الحضارات الإسلامية والأرثوذكسية والغربية, وحرب ناجورنو كاراباخ هي صراع بين المسلمين الآذاريين والأرمن الأرثوذكس. وهكذا, فإن هنتنجتون يرى أن الصراع الرئيسي سيكون بين الغرب ونوع من التحالف الكبير بين الحضارتين الإسلامية والكونفوشيوسية (الصينية)!, الحضارة الكونفوشيوسية بقوتها الاقتصادية والعسكرية والحضارة الإسلامية بثرواتها النفطية وملاصقتها الجغرافية للغرب, فالصراع بين الغرب والإسلام عنده هو النموذج الأكمل لصدام الحضارات. ووفقاً لهذه الرؤية, فإن الصراع الطويل بين الإسلام والغرب (المستمر منذ ثلاثة عشر قرنا) لهو في ذاته مؤشر على احتمال استمراره لفترة طويلة قادمة. ومن ناحية أخرى, وعلى الرغم من أن الصراع بين الغرب والحضارة الكونفوشيوسية قصير العمر (أقل من قرنين, منذ حرب الأفيون 1840 ـ 1842), فإنه كان أكثر مرارة وألماً. وفضلاً عن ذلك فإن انتعاش اقتصاديات البلدان الكونفوشيوسية الآن يتيح لها الفرصة للتفكير في إعادة النظر في التوازن غير المتكافئ بينها وبين الغرب. ويعتقد هنتنجتون أن روسيا ستقف إلى جانب الغرب في هذا الصراع (وقفت مع أمريكا في حربها ضد أفغانستان). ويعود هذا في المقام الأول ـ حسب رأيه ـ إلى أنها ممزقة بين حضارتين: صفوته وسياساته تنتمي إلى الحضارة الغربية, وجمهرة سكانه وتاريخه ينتميان إلى الحضارة الأرثوذكسية. ويضاف إلى ذلك ميراث العداء الممتد بين الإسلام والحضارة الأرثوذكسية, فضلاً عن معاناة روسيا الطويلة في ظل (النير المغولي) لحكم جنكيز خان والخانات من أحفاده, والذي يرى فيه التاريخ الروسي شبيهاً كبيراً بالحضارة الكونفوشيوسية. وهو يرى في اليابان حضارة معزولة ـ ليست كونفوشيوسية على الأقل ـ ستصبح بفضل حكمة الغرب حليفاً له ومنطقة عازلة تفصل بين الحضارتين الغربية والكونفوشيوسية. تلفيق تاريخي تنطوي الرؤية الهنتنجتونية هذه للعالم المعاصر على قدر هائل من التلفيق العلمي ولوي عنق التاريخ, ولعل التلفيق الأكبر يكمن في تجاهله للدول والمؤسسات السياسية, رغم الدور المحوري الذي تلعبه الدولة ـ سواء إمبراطوريات الأسر القديمة أو الدولة القومية الحديثة ـ في قيام أي حضارة, فالغرب عنده هو كتلة واحدة متجانسة, رغم الاختلافات الشديدة بين أمريكا من جهة والدول الغربية من جهة أخرى. والحضارة الإسلامية كذلك كتلة واحدة وليست دولاً وشعوباً وقوميات مختلفة, سواء كان ذلك في ذروة قوتها ومجدها (عندما كانت حضارة عربية) إبان العصرين الأموي والعباسي, أو كان ذلك في ظل الخلافة العثمانية التي فرضت هيمنتها على جزء كبير من العالم القديم, أو حتى في العصر الراهن, الذي تعاني فيه الدول الإسلامية من أقصى درجات الفقر والضعف الاقتصادي والسياسي والعسكري والعلمي, ناهيك عن التفكك فيما بينها. ومن المعروف أنه لا يمكن لأي حضارة أن تقوم من دون وجود مركز ـ الدولة ـ قوي اقتصادياً وعلمياً وعسكرياً يقوم بدور الحاضن لها. ووفقاً لهذه الرؤية, كانت الدولة العثمانية آخر مركز قوي ـ على الأقل عسكرياً ـ للحضارة الإسلامية. وفي ظل الوضع العالمي الراهن والتوازنات الإقليمية والدولية السياسية والاقتصادية والعسكرية, لا يمكن لأي دولة إسلامية كبيرة نسبياً (إيران, مصر, أندونيسيا, باكستان, تركيا), أن تقوم بدور (الدولة المركز) التي يمكن لها أن تقود هذه الحضارة الإسلامية المعاصرة ـ المزعومة ـ في مواجهتها للحضارة الغربية ـ المزعومة أيضا, أو أي حضارة هامشية أخرى. وهكذا, فإن الإسلام اليوم يبقى ديناً, وليس حضارة ذات دولة مركزية تقودها في مواجهة الحضارات الأخرى. والحضارات تقوم وتزدهر ثم تهزم وتأفل, لكن الدين يبقى جزءاً جوهرياً من النسيج الروحي المكون للبشر ولا يمكن لأحد انتزاعه, وبهذا الفهم, يمكننا أن نؤكد أنه لن تحدث أبداً حرب (تقليدية أو نووية) بين الحضارتين الإسلامية والغربية وفقا للرؤية الهنتنجتونية لصراع الحضارات. والاحتمال الوحيد الوارد ـ وهو ما جرى بالضبط في أفغانستان ـ هو حدوث مواجهات محدودة غير متكافئة بين دول غربية ذات إمكانات مادية هائلة ضد جماعات إسلامية فقيرة ناقمة في صورة أعمال عدوانية كردود فعل ضد القهر الذي تعاني منه تلك الجماعات, يواجهها عمليات انتقامية عسكرية مضادة تؤكد بطش القوى الغربية وهيمنتها على العالم و(حضاراته) المتعددة. لكن هذه الصدامات لها تفسير آخر سنتطرق إليه. أما التلفيق الأكبر الذي لجأ إليه هنتجتون فهو رؤيته للحضارة الغربية ذاتها التي يصنفها استناداً إلى معياري الجغرافيا والدين فقط. هذا التلفيق الهنتنجتوني يتعلق بجوهر الحضارة الغربية ذاته. فالحضارة الغربية هي الحضارة الوحيدة غير الدينية, أو بتعبير أدق هي الحضارة الأولى الما بعد دينية. وهي ليست نتاج ثورة أو طفرة نوعية, وإنما هي محصلة لتراكمات هائلة وسلسلة ممتدة, على طول امتداد التاريخ البشري, من التحولات والحركات الثقافية والاجتماعية والمكتشفات العلمية والسياسية الكبرى. فمنذ ثلاثة قرون, أو أكثر قليلاً, لم يكن هناك من يتحدث عن حضارة غربية, فالمصطلح الذي كان سائداً آنذاك هو (العالم المسيحي) ومع عصر الاكتشافات الجغرافية والثورة الصناعية التي تلته وانتشار أفكار عصر الأنوار وصعود الطبقة التجارية البرجوازية, تغلغلت العلمانية بين قطاعات واسعة من السكان, وكفت أوربا عن حروبها الدينية ولم تعد (العالم المسيحي), ولم يظهر مصطلح (الحضارة الغربية) إلا في أوائل القرن العشرين. وهو مصطلح ينطوي ضمناً على الوعي بأن هذه الحضارة, على النقيض من الحضارات المهيمنة السابقة, لا تضع الدين في مكانة محورية بالنسبة لها. العالم الأمريكي شهد العقد الأخير من القرن العشرين بزوغ مصطلح العولمة, على خلفية انهيار العالم ثنائي الأقطاب الذي عرفناه طوال معظم القرن العشرين, وظهور نظام عالمي جديد وحيد القطب. ويقول (دانييل دريزنر) في مقالة له بعنوان (يا عولميي العالم اتحدوا) إن ذلك العقد لم يكن مواتياً بالنسبة للدولة القومية, فقد وضعت وظائفها الاقتصادية والأمنية, بل وسيادتها ذاتها, موضع التساؤل والشك. كما فقدت الدول الصناعية المتقدمة قسطاً غير قليل من تأثيرها على الاقتصاد العالمي, وأصبحت الشركات عبر القومية بإمكاناتها الهائلة قادرة على الالتفاف على الدول, مديرة شئونها واتفاقاتها الدولية الخاصة, وإذا كانت الدول الصناعية الأكثر تقدماً قد وجدت نفسها مطوقة, فإن الدول الأضعف قد تمزقت إرباً. وتواجه حكومات عديدة الآن وضعاً تتوافر لها فيه السيادة القانونية دون سيادة فعلية على أراضيها. وتشبه هذه الشركات المقاطعات الإقطاعية التي تطورت إلى أمم ـ دول, وهي ليست سوى طليعة النظام الدارويني الجديد للسياسة. ولأنها تحتل جبهة العولمة الحقيقية, بينما الأغلبية الساحقة من سكان الأرض لا تزال غارقة في بيئاتها المحلية, فإن الشركات عبر القومية الكبرى ستبقى حرة طوال العقود القليلة القادمة في أن تُلقي خلفها بالحطام البيئي والاجتماعي الذي خلفته. صراع حضارات أم إرادات? والحقيقة أن العولمة بالمعنى الذي ذكرناه هي الإعلان الرسمي عن نهاية للحضارة الغربية, وبداية ظهور حضارة كونية جديدة. وفي مواجهة بعض الأصوات المتعقلة التي تدعو إلى الاستفادة الكونية من هذه الحضارة الكونية, يحاول هنتنجتون وأمثاله تحويل هذه الحضارة الكونية إلى أمركة للعالم. حضارة جوهرها هيمنة أمريكية مطلقة عسكرية واقتصادية وتكنولوجية وإعلامية وثقافية واجتماعية. وهي هيمنة منفلتة العقال إلى حد دفع وزير الخارجية الفرنسية هوبير فدرين إلى ابتكار لفظ جديد في العلوم السياسية, فكلمة دولة عظمى لم تعد برأيه تكفي وأنه يتعين من الآن فصاعداً تسمية الولايات المتحدة دولة (فوق عظمى). والمفارقة أنه في الوقت الذي يروج فيه هنتنجتون وأتباعه لمفهومه التلفيقي عن (الحضارة الغربية), فإن النخبة الثقافية والسياسية لم تعد تنظر إلى أمريكا باعتبارها جزءاً من ـ أو حتى ناقلة لـ ـ الحضارة الغربية, بل ينظرون إليها باعتبارها مجتمعاً متميزاً يجسد التعددية الثقافية والعرقية, ثقافته محصلة تفاعل ثقافي بين الثقافات الأوربية, والإفريقية, والإسلامية, والآسيوية, والسلافية... إلخ. وتضرب هذه الثقافات بجذورها في الحضارات الإفريقية والأمريكية اللاتينية والكونفوشيوسية والإسلامية, وليس الأوربية فقط. وهكذا تبشر أمريكا بنموذجها الثقافي باعتباره النموذج الوحيد لعصر العولمة. وبعد أن قادت العالم قسراً إلى تحقيق التجانس الاقتصادي والتجاري والقانوني على الصعيد الكوني, فإنها تحاول تحقيق تجانس كوني مماثل على الصعيد الثقافي. ونحن لا نرى في أطروحة هنتنجتون حول صراع الحضارات سوى فكرة تعبوية ذات رائحة عنصرية لا تستند إلى أي حقائق علمية أو مبررات أخلاقية, هدفها فقط تبرير الصدامات العنيفة التي يشهدها العالم نتيجة لرفض أناس كثيرين لمنطق (الهيمنة والابتلاع), وليس لمنطق العولمة. وإذا كان هنتنجتون يقصد من فكرته حول (صراع الحضارات) أن (الحضارة الغربية تواجه الحضارات الأخرى) فإنني أجد أن معناها الحقيقي هو (أمريكا في مواجهة العالم). والمفارقة هنا أن هنتنجتون وبن لادن يمثلان وجهين لعملة واحدة. فكلاهما يمثل الوجه الإحيائي للثقافة, أي الاستناد إلى الموروث في اعتبار الآخر (بربريا) أو (كافرا), وأفكارهما تقود لا محالة إلى تأجيج النزاعات والصراعات القومية والعرقية والدينية تحت شعار الدفاع عن الدين أو الهوية أو المصالح الوطنية, أو تحت شعار الدفاع عن القيم الديمقراطية والتحضر وحقوق الإنسان. وما أريد قوله: إن هناك حضارة كونية تسود العالم اليوم. وقد كان الوضع هكذا دائما على مدى عصور التاريخ: حضارة مركزية مزدهرة تسود الدنيا وتتعايش مع حضارات أقدم مستسلمة لقدرها أو تحاول النهوض. ومن ثم فإننا نفهم هذا الصراع باعتباره صراعا حضاريا, وليس صراعاً بين الحضارات. حيث تبقى القضية هي قدرة الحضارات القديمة على تطوير نفسها وفقاً لشروطها وظروفها الخاصة, وعلى بينة الجوانب المفيدة من الحضارة الحديثة, وفي الوقت نفسه ترفض التدخلات التي لا فائدة منها سوى إلحاق الضرر بجوهرها وإرثها. والحضارات التي ستظل قادرة على البقاء والاستمرار هي التي تملك الإرادة والتي تستطيع أن تتقبل الجديد بشروطها ومفاهيمها الخاصة.
أما بالنسبة لاحتمالات تجدد الحرب الباردة, فيذهب مفكرون آخرون إلى أن القدرات العسكرية والنظم السياسية التي ميّزت الحرب الباردة لم تنته تماماً. فرغم أن روسيا فقدت إمبراطوريتها مترامية الأطراف, تبقى من أكبر أمم الأرض من حيث المساحة وعدد السكان, لكن الأخطر من هذا أنها لا تزال تمتلك أكثر من عشرين ألف رأس نووية قابلة للتطور, وهي بهذا تبقى نظرياً الدولة الوحيدة في العالم القادرة على إحداث تدمير للولايات المتحدة الأمريكية. وبالتالي فإن الخوف من تجدد الحرب الباردة يبقى أمراً وارداً. وتمثل الصين تنويعة على مقولة تجدد الحرب الباردة تلك, فهي بمساحتها الهائلة وبتعداد سكانها الكبير وجيشها الضخم وترسانتها النووية والتقليدية المعتبرة وبوضعها الاقتصادي القوي واستمرار نظامها الحزبي الشيوعي, تبقى عدواً محتملا للولايات المتحدة الأمريكية.
وهناك شبه إجماع بين أبرز المحللين والمفكرين على أن الانتشار العالمي للرأسمالية يؤدي إلى ضمور وتآكل قوة واستقلالية الدولة القومية, وإن رأس المال عبر القومي يترك تأثيرات عميقة على الدول, والثقافات, والأفراد أنفسهم. ويرسم بنجاين بابر في كتابه الجهاد ضد السوق الكونية Jihad vs. McWorld صورة موحية للعولمة عندما يصفها بأنها: (ذلك المستقبل مجسدا في تلك الصورة المفعمة بالحركة لقوى اقتصادية, وتكنولوجية, وإيكولوجية مندفعة تطلب التكامل والتناغم وتغرق وعي البشر في كل مكان في طوفان الموسيقى السريعة, والكمبيوترات السريعة, والوجبات السريعة, دافعة الأمم باطراد نحو حديقة ملاه عالمية واحدة متجانسة التكوين). ويصف المجتمع السياسي في عصر العولمة بأنه مجتمع يعاني من الانقسام يقتصر فيه ولاء مختلف أعضاء المجتمع على مصالحهم الذاتية الخاصة على حساب أي تصور للمصلحة العامة أو الخير المشترك. والواقع أن السوق الكونية, أو الـ (ماك وورلد McWorld) كما أسمى باربر قوى العولمة, تفضل (الأسواق الكونية القائمة على المصلحة والتي تضرب جذورها في الاستهلاك والربح, تاركة جانبا قضايا الخير المشترك والمصلحة العامة). والواقع, أن جوهر العولمة الاقتصادي هو انتقال مركز ثقل الاقتصاد العالمي من الوطني إلى الكوني, ومن الدولة إلى الشركات والمؤسسات والتكتلات عبر القومية. وهنا تفرض العولمة الاقتصادية منطقها الخاص, حتى لو تعارض هذا المنطق مع رغبات أكبر وأعتى الدول.وقد أفضت هذه التطورات إلى انتقال اقتصادات البلدان المتقدمة من الاقتصاد الصناعي إلى الاقتصاد ما بعد الصناعي, ومن مجتمعات حديثة إلى مجتمعات ما بعد حديثة.