الترجمة..

الترجمة..

كيف تصوغ مبدعيها?
سطور قليلة من تجربة مبدع قاده عشقه للأدب إلى دراسة لغة غريبة عنه, والذوبان في عملية الترجمة قدم لنا من خلالها روائع الأدب الإسباني.

نبعان شَقّا مجرييهما في عطشي ليروياه ويحيياني مرتين:

كان (دستويفسكي) هو النبع الأول, من خلال ترجمة كاملة لرائعته (الجريمة والعقاب) (طبعة دار اليقظة السورية) وكنت في الثامنة عشرة من عمري, والذي قادني لقراءة أعماله كلها, وأعمال تشيخوف وتورجنيف وجوجول وجوركي, وأندرييف, وشدرين, ثم الكاتب الأمريكي العظيم وليم فوكنر, وهمنجواي وسكوت فيتنرجرالد وشتاينبك, وسارتر وكامي وفيركور ومالرو, وسانت اكسوبري, وكافكا وتوماس مان وجيمس جويس وييكيت وأونسكو... وآخرين, ليصب في روحي ذهب عالم كل كاتب من هؤلاء!

وكان النبع الثاني بعد عشرين عاما هو: (جابرييل جارثيا ماركيث) من خلال ترجمة لروايته الرائعة القصيرة (ليس لدى الكولونيل من يكاتبه) ترجمة صالح علماني/دار الفارابي. والذي قادني لقراءة (مائة عام من العزلة) ثم بقية أعماله كلها ليدفعني للبحث عن بقية أعمال الروائيين والقصّاصين الكبار لأمريكا اللاتينية, ثم وجدتني متلهّفاً بميل لا يمكن مقاومته لتعلم اللغة الإسبانية لأقرأهم بها, باحثاً عن عروق ذهب أدب قارة, أطاح ذهبها من خمسمائة عام بصواب مكتشفيها, فإذا بأدبها يشعل جنوني جرياً وراء لغتها وأدبها, وأختار قطرات الندى الأولى منه في أول كتاب مترجم لي عن اللغة الإسبانية باسم (وسم السيف) (صدر عن المجلس الأعلى للثقافة - المشروع القومي للترجمة. العدد 90 عام 1999), ويتضمن أعمالاً قصيرة لكل من: خورخي لويس بورخيس, ليوبولدو لوجونيس, إيسابل أيّندي, خوان رولفو, خورخي إيبار جنجوتيا, خيراردو ماريا, إرناندو تييث, أوجستو مونتيّروسو, لينونوباس كالبو, أتورو أوسلار بييترى.

عشرون عاماً تفصل بين اكتشافي لكل من النبعين, وملازمتي لمجرييهما, لأكتشف أن حياتي كمبدع ومترجم أعيد خلقها وإنقاذها مرتين من موت كاد يحدق بي في المرتين, فإذا بهما, كل في زمنه, يصبّان ماء الحياة في روحي, ويصبّ كل منهما في شرايين الآخر فيصبّ إبداعي الذي اغتنى بمن قرأتهم في شرايين الترجمة التي اهتدت بما حملته من ثراء إبداع الآخرين وإبداعي, حالماً أن تصب هذه الترجمات, ضمن ترجمات الآخرين, في إبداع كتابنا, وما آمل أن أبدعه في سني غسقي!

كيف صبّ وجها هذه العملة من ذهب العالم في روحي:

وجه من قراءة, ووجهٌ من كتابه?!دعونا نشهد!
دستويفسكي وتشكيل الوعي

في الثامنة عشرة من عمري أنقذني دستويفسكي من السباحة في المياه الضحلة التي كانت تحاصرنا أيامها بأدب الفاترينة المقررة: يوسف السباعي, عبدالحليم عبدالله, أمين يوسف غراب, عبدالحميد جوده السحار, إحسان عبدالقدوس, ثروت أباظة... وآخرين باهتي الملامح, وكتابات أكثر ضحالة في صحف تصدعنا كل يوم بأغنية واحدة عن الاشتراكية التي تُبنى في الأعالي, والتي يجب أن ينزل المناضلون من الموظفين بها إلى الجماهير! معالجات صحفيّة لمفارقات اجتماعية, وأدب متواطئ, متثائب, ما إن تبدأ في قراءته وتتبع رسم الشخصيات فيه, أو اكتشاف أعماق حقيقية لها, حتى تخرج من الناحية الأخرى, وكأنك كنت تجوس في خرائب, وربما كان الاستثناء أيامها, دون مغالاة في ذلك, كتابات ليوسف إدريس, ونجيب محفوظ, ويحيى حقي, ثم فيما بعد, إنجازات ملحوظة لجيل الستينيات, جيلنا.

ولعبت الأعمال المترجمة من أدب العالم, والذي ذكرت أسماء بعض كتابه, دوراً هائلاً في تشكيل وعيي الأدبي وإرهاف ذوقي الجمالي, وشحذ موهبتي لإبداع أعمالي القصصية القليلة والتي جاءت مفارقة للنماذج القصصية السائدة وقتها في الستينيات, ولم تكن مفارقة فقط لمن سبقني, بل مفارقة لكتابات أبناء جيلي أنفسهم!

ما الصلة بين تكويني الأدبي كمبدع, وتطلّعي لأدب أمريكا اللاتينية, وتعلم الإسبانية, واختيار نصوص منها لترجمتها للعربية?

وما الذي يدفعنا للتطلع إلى إبداعات شعوب أخرى منجذبين بحاجات عميقة للاتصال, ورغبات لا تهدأ في التواصل, كما لو كانت توشك على الخروج من جلدها لتتصل به?

وهل حدث بالفعل أن خرجت شعوبٌ من جلدها الحيّ? أم أنها لا تخرج أبداً بكل الحيوية التي تمور بها إلا من جلدها الميت?

أعتقد أنه حتى الثعابين لا تخرج ولا تنسلخ إلا من جلدها الميت الذي ضاق بها, فتخلعُه وتتعرّى واقفة منتصبة في قلب العالم الحي, ناسجة من أشعة الشمس وضوء القمر, من برودة الليل ودفء النهار, من النسائم والرياح, من النور والظلمة, من تراب الأرض والحصى, وماء النهر وطميه, جلدها الحي المحاصر بالموت إلى قلب العالم الحي, ووصل شرايينه بشراييننا.

فك الحصار

وقبل عثوري على ماركيث, بوابتي السحرية لأدب أمريكا اللاتينية كله, كنت مختنقاً ومحاصراً بما أصادفه مكتوباً في أدبنا العربي والمصري تحديداً في السنوات المظلمة الأخيرة لحكم السادات:

كان (الكبار) قد انطفأت روح المبدعين فيهم, وظلوا معلقين فوقنا بظلالهم كخيال المآتة: بصورهم, وأوسمتهم, ونياشينهم, ودكتوراتهم الفخرية, وأعياد علمهم وإيمانهم, وتسوّلهم كخدم لأمكنة ومكانة تليق بهم على مسرح عرائس سلطة تتداعى, تكيد بهم (العوازل) الذين هم كل الشعب تقريباً, بكتابه الممنوعين, وقادة معارضته.

كان المشهد كله, ببؤسه الذي اكتمل, يصرخ بأن زمنا حاكما آن له, ولابدّ له أن ينتهي, وأن زمنا آخر يصارع كل ما يخنقه ويحاول أن يئده تحت السطح, ولابد له أن يولد, وأيامها كتبت مقالاً بعنوان: (زمن الكتبة يأفل.... أزمنة الكتاب تجيء!)
وكتبت في صدر المقال نصّاً من سان جون بيرس, يشير فيه إلى المتواطئين مع النازي أيام احتلاله لفرنسا:

(وكان الشرف, يتهرّب, من جبين أوسع الوجوه شهرة!)

كان ذلك قبل اغتيال السادات, والذي أعقبته موجة اعتقالات, ووقف صدور كل المطبوعات المستقلة - غير الدورية.

وكانت (النديم) التي كنا نصدرها بقروشنا وعلى مسئوليتنا بالإسكندرية هي أول كراسة غير دورية نخاطر بطبعها والنزول بها للدائرة الصغيرة من المثقفين وعلى غلافها عنوان هذا المقال.

ومع ماركيث وبعد قراءة (ليس لدى الكولونيل من يكاتبه), و (مائة عام من العزلة) ثم (خريف البطريرك) فوجئت بعالم روائي أقرب إلينا من حبل الوريد,عالم يواجه البشر فيه مصائرهم بمنطق آخر, ويسعفهم خيالهم دائماً برؤى, وطاقة على الحياة والتحدي, وابتداع حلول ليس للمشاكل, بل للكوارث التي يواجهونها كل يوم!

وفكرت في الكتابة عن ماركيث وعالمه الروائي والقصصي, ربما لكي نفرح بهذا الإبداع الذي يرد للأدب اعتباره, وأملا في أن يكون رافداً ومنبعاً لا ينضب للتأثير الخلاّق في كتابة كتابنا, والشباب منهم على وجه التحديد.

لم أكن أقصد - بالطبع - أن يقلده البعض, بل أن نتعلم منه ومن الآخرين والذين لهم القدر نفسه إن لم يبزوه في علو قامتهم, من أدباء القارة, كيف عبروا عن أنفسهم وعن عالمهم, حتى يساعدنا ذلك ويطوّر من قدراتنا الفنية في التعبير عن أنفسنا وعالمنا.

ثم فكرت, أميناً مع نفسي, كيف سأكتب عن كاتب لا أعرف لغته, ولا أحيط بالثقافة التي ينتمي إليها, والتي نشأ وتشكّل فيها, ولا تراثه الأدبي الذي نهل من منابعه, فنما مكتسباً خصائصه وروحه, ومن هم أسلافه الكبار الذين أحبّ هو الإبداع من خلال حبّه لهم?

وتساءلت معيداً النظر فيما نويته: ألا تقتضي الأمانة إيقاف مشروع الكتابة عن ماركيث, والبدء في تعلم اللغة الإسبانية, لأعرف على الأقل, إنجازات مَن سبقه, ومن يجايله من مبدعي قارته?

دافع للحب

وهكذا أوقفت مشروع الكتابة عن ماركيث. وشرعت في تعلم اللغة الإسبانية, وهكذا دفعتني قراءة رواية قصيرة مترجمة لماركيث, لحبّ قراءة أعماله كلها, بل لحب أدب قارة بأكملها, كانت مجهولة لنا, إلا في القليل, اسمها أمريكا اللاتينية.

وهكذا شرعت في السنوات الأخيرة في تعلم الإسبانية والقراءة بها, بل ووجدتني لا أستطيع مقاومة الترجمة, فلم أتربّ أبداً على الفرح وحدي بما أصادفه من أعمال رائعة.

وكان لابد من خوض التجربة, يشجّعني على خوضها إدراك عميق بأن الإبداع يجب ألا يترجمه إلا مبدع. لماذا?: لأننا كنا ولمرات لا حصر لها, نقرأ كثيراً من الأعمال المهمة, بل والرائعة, ليس بفضل ترجمتها, بل بالرغم من ترجمتها!

كنا كمن يجتاز حواجز, وحفراً, وأرضاً موحلة, وعوائق مائية, للوصول للهدف. ولم يكن أمامنا - مادمنا لم نتعلم اللغة المكتوب بها العمل - سوى ذلك. وفي أحسن الأحوال, لو صادفنا الحظ, نعثر على مترجم حقيقي نادر, ينجز مهمته بروح المبدع.

ما الذي يحدث عندما يكتشف المترجم المبدع منا, عملاً أدبياً رائعاً, يقف كمبنى شاهق ضمن عشرات الأبنية الجميلة في الضفاف الأخرى من عالمنا?

أول ما يتوقف عنده مأخوذاً به, يبدأ في تأمّله, والدوران حوله, تحسس حوائطه ولمس أحجاره وخشب أبوابه ونوافذه والمقابض النحاسية التي يبرق لمعانها الأصفر, ترتاح راحة يدنا حول المقبض وتديره, وتدفع الباب داخلة, تتلقى مع دفعة الهواء رائحة البيت نفسه وحسّه, الضوء الذي ينهمر من ارتفاعات الأسقف والنوافذ, والشرفات, والذي يشح في الحنيات والممرات, والتحوّلات التي تطرأ على نور النهار, واصفرار واحمرار الغروب, ودخول الليل للعتمة, واشتعال أنوار المصابيح دفعة واحدة تنيره كله.

وكالممسوسين سنحلم: آه لو كنا نحيا في هذا البيت?

لكننا لسنا من هنا, نحن من هناك!

آه لو أمكننا أن نحلم بنقله!

لكنه مستحيل!

لكن هذا المستحيل تحقق في يوم ما:

ففي منتصف القرن الماضي كان سدنا العالي سيعلو, وسيعلو خلفه ماء بحيرة ناصر, وستغرق النوبة, ومعبدي أبي سنبل, وفيلة.

كان مستحيلاً إنقاذ النوبة, فغرقت, وأنقذ النوبيون.

أما المعبدان فتقرر إنقاذهما.

لم يكن ممكناً نقلهما سليمين, فتم تقطيعهما بالمناشير, لآلاف القطع, ليسهل نقلهما من مكانيهما, فوق ماء النهر, إلى المرتفعات التي لا تدركها مياه البحيرة.

وجرى ذلك رغم صعوباته الفادحة, وكان سهلاً,لأن وحدات البناء وقطعه, كانت الأحجار.

في الأدب عليك أن تصنع شيئاً شبيهاً بذلك, الفرق أنه لا يمكن حساب أو تخيل, مدى اختلاف مبنى الإبداع عن المبنى الحجري: إنه في الكلمات!

الكلمات: السر المعجز الذي منحنا بشريتنا, إعجازها يكمن في طبيعتها التي لا يمكن نقلها أبداً, فالكلمات بشكلها وبما تحتويه وثيقة الصلة بمن يتكلمونها أو يكتبون بها: فيها أصوات زمانهم ومكانهم, تنفس نومهم ولهاث يقظتهم, ألوان بشرتهم وثيابهم, وأغانيهم, امتلاء شبعهم, وخواء جوعهم, رنة الفرح, وانقطاع النفس والخرس أمام المحن, والكوارث, والهزائم.

إنها لغتهم, هم, هنا. في هذا المكان الذي جئت إليهم فيه.

أما نحن, فنحن هناك, حيث من هناك أتينا, وهناك تحيا لغتنا نحن.

وإذا كان حلمنا أن ننقل بيوتهم, ومعابدهم, وحياتهم كلها, بل وموتهم أيضاً, ومن خلال لغتهم إلى لغتنا, فماذا سنأخذ من لغتهم لتبنيه بلغتنا?

يا الله! أليس تقطيع الحجارة ورفعها ونقلها وإعادة بنائها أسهل من تفكيك العمل الأدبي ونقله وإعادة بنائه بما لا يمكن تصوّره?

ومع ذلك, فقد حدث أن تحققت المعجزة, ونجح قليل من المترجمين المبدعين, على كثرة مَن تصدّوا للترجمة, في تقديم أعمال عظيمة من أدب العالم: استحضروا روحها لتحل في لغتنا بعظمة تكاد تتساوى وعظمتها في لغتها, حتى أننا بقراءتها وتمثلها ومعايشتنا لها أحببنا كاتبيها وأشخاصها وأجواءها وأماكنها, ودراما الحياة التي عاشوها بملهاتها ومأساتها, فصاروا في القلب من وجودنا ووجداننا, وبعضاً من تراثنا الروحي, وأثروا بحبّنا لهم في أفكارنا ورؤانا وأخيلتنا وأذواقنا, وربما - وفي أحوال ليست بالقليلة أبداً - أكثر بما لا يقاس من أعمال تنتمي لتراثنا الأدبي.

مرتزقة الترجمة

وعلينا أن نحذر الغرباء دوماً: المترجمين المرتزقة, مترجمي المقاولات, الذين يترجمون كل شيء, وفي كل المجالات, وحتى عن لغات وسيطة, الكتبة الكذبة, الذين يتسببون في كراهية الناس للأدب, بسبب سوقية ترجماته, فيتساءلون باستنكار: ما قيمة هذا الذي ترجموه لنا?

ذلك لأنه دون عشق المترجم المبدع, وحسّه بسخونة لغته الأم وطراوتها, وكذا حسّه بالنص الأصلي, ثم ما هو أكثر خطراً في كل ذلك امتلاكه خريطة الروح التي امتلكها كمبدع لكل عمل أدبي يقرؤه أو يترجمه, والتي دونها لا يمكن فهم أو تقدير قيمة أو تفرد أي عمل أدبي, أو إدراكك مثلاً أنه لا يمكنك الدخول إلى الأعمال الروائية والقصصية لكتاب القرن العشرين كله دون المرور لهم من البوابة الهائلة الارتفاع لدستويفسكي, كما لا يمكنك أن تدخل العالم القصصي والروائي لأدباء أمريكا اللاتينية, دون المرور بالبوابة الملكية الإسبانية من ثيربانتس حتى بالي دي انكلان, والبوابة الشمالية: وليم فوكنر, وجويس, وكافكا.

من دون ما تحمله من خرائط الروح هذه التي ستمدّك ببوصلة الاختيار ومعرفة الاتجاهات وسبر أغوارها وتمييز الأصيل فيها من المزيف العارض, والتي تمدّك بجسارة الواثق الساعي للاكتشاف دائماً, وطاقة الحب التي ستعينك على الصبر في مواجهة المشكلات ومعالجتها حتى تعيد بناء العمل بالغ الجمال في لغتك التي تليق به, ستتحول المسألة إلى أمر مثير للسخرية, أو الشفقة, ولكنها لن تحظى أبداً بالاحترام. ولن يعد الأمر هدم بناء جميل في الضفة الأخرى, ونقل (الهدد) وقلبه أمامنا, وأخذنا من يدنا لنراه فإذا به مكوّماً كالكارثة, وعلينا أن نخدع أنفسنا, لو كان ذلك ممكنا, ونصدقه بأن هذا الذي أمامنا هو البناء الجميل الذي صدع رءوسنا بامتداحه, وأنه ترجمه, وأن هذه هي ترجمته!

ولذلك, فالمبدع مترجماً, سيظل أملنا الوحيد, إذ هو الذي يدرك جيّداً أن للنص الأدبي تكويناً بالغ الخصوصية والتفرّد, مخلوقاً من طينة تتنوع وتختلف وتتشابه مثلما البشر, مبدعو هذه الأعمال, وكل عمل يحمل بصمة مبدعة: بصمة تاريخه وموطنه, ولا يمكن أن يتنصّل منهما أو يخلطهما بدماء أخرى, ليس هذا فقط, بل إنه ينتمي لنوع أدبي واتجاه وتأثرات, بعضها يمكن رصده, وبعضها من المستحيل على المبدع نفسه أو مترجمه أو حتى ناقده أن يحيط بها كلها.

وهذا فارق جوهري بين الإبداع الذي يتجسّد نسيجاً يضج بالحياة, والتجريد الماثل في بنية الفكر والعلم ومصطلحاتهما.

والمترجم المبدع لا يتوقف عند حد معرفته باللغتين, بل يمتلك فوق ذلك الحسّ باللغة والرهافة التي يميز بها سمات لغة كاتب واختلافها عن كاتب آخر داخل اللغة الواحدة, بل التميز بين تغير أحوال الأداء للكاتب نفسه: توهج تجربته, أو خفوتها, وانطفاؤها, والمفردات وما يطرأ عليها في مسار رحلته الإبداعية: ما الذي يتنحى ويموت منها, وما الذي يتم نحته وميلاده? ما طاقة إشعاع كل مفردة وأداؤها لما تعنيه ضمن شحنات المفردات الأخرى في الجملة, فالمقطع, فالفصل, ثم في العمل كله.

وإذا لم يكن للمترجم هذا الحس لفائق الرهافة للتمييز دائماً بين إيقاع وإيقاع, إيقاع خطوات رقص المبدع, أو خطوات ركضه, خطوات تطوحاته, وخطوات انكفاءاته, توقف الخطو, السكون, الارتماء في وهاد الصمت. هذه كلها أحوال تتبدّى ونكتشفها في اللغة المكتوبة بها, وحس المبدع المترجم فقط هو الذي يمسك بإيقاع كل ذلك, ومن يتمكن من ذلك كله فهذه شهادة إبداعه حتى لو لم يكن يدرك ذلك عن نفسه.

مبدع العمل الأصلي يقدم لنا إنجازه بكل هذه السمات والنضارة, ومترجم العمل عليه أن يقدم لنا هذا الإنجاز بكل هذه السمات والنضارة لنا.

وكل منهما, المبدع الأصلي, والمبدع الثاني لابد أن يكونا متكافئين إلى حد التناظر, لتتحقق هذه اللغة المشتركة, أو فلنقل هذه اللغة الواحدة, التي تخلقت من لغتين.

المبدع أمره هيّن. أما المترجم الذي يطمح إلى إبداع ترجمته فيبدو أن أمره أصعب بما لا يقاس. فالأول يغني على هواه. والثاني يبدع أغنية عليها أن تطرب أهله, لكن وفق هوى المبدع الأصلي!

يا الله!

ويا لكل هذه المعجزات التي على المترجم المبدع أن نتوقعها منه, ولابد أن يفلح في تحقيقها?!

 

محمد إبراهيم مبروك