جرائم الحرب.. من عدالة المنتصر إلى عدالة الضحية محمد الرميحي

جرائم الحرب.. من عدالة المنتصر إلى عدالة الضحية

حديث الشهر
هل للمجرم في حق الإنسانية حصانة؟

عندما تبلغ المحن الذاتية أوجها، تتحول إلى ألم إنساني عام، أو هكذا ينبغي أن تكون. يتضح ذلك شيئا فشيئا كلما جاء شهر أغسطس، فنستعيد الألم الذاتي العظيم الذي سببه غزو النظام العراقي للكويت، ونرى بوضوح يتزايد كل سنة أن مغامرة الغزو والاحتلال الفظة، لم تقف عند حدود إحداث جرح - لا يزال مفتوحا - في الجسد الكويتي، بل تجاوزت ذلك إلى إحداث جرح - لا يزال ينزف - في الجسد العربي كله. ولا نكون مغالين إذا قلنا إن هذا الدرس الأليم ينبغي أن يوحي بدلالات إنسانية عامة ، ذات أبعاد دولية، آنية ومستقبلية. وهذا ما سنحاوله الآن. لقد أمضى العرب معظم النصف الثاني من القرن العشرين بين حربين أو هاجس حربين استنزفتا معظم طاقاتهم، الأولى هي حربهم مع الاحتلال الإسرائيلي الذي كان محدودا في رقعة صغيرة ثم توسع، والثانية هي حربهم مع بعضهم البعض وبأشكال شتى. كانت الحروب مع الأولى ساخنة وباردة، وكانت الحروب مع النفس في معظمها باردة إلى أن جاء أغسطس سنة 1990 وتحولت تلك الحروب الخفية والباردة إلى نار حقيقية وجرح حقيقي كبير. لقد قام النظام العراقي باحتلال دولة عربية وهو ما لم يحدث منذ ظهور الدول العربية الحديثة، وخلف ذلك الاحتلال مرارة من جانبين:

مرارة الفظائع التي ارتكبها المحتل، ومرارة هدم ما كان يسمى ولو ظاهريا " التضامن العربي "، الذي صرف عليه من الوقت والجهد الكثير. ومنذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا لا تزال المرارة ماكثة في الحلوق.

في عالم اليوم لا مجال ولا إمكان لإلغاء الصراعات، ولكن الصراعات درجات. فهناك صراعات هدامة، تلجأ إلى التدمير الفعلي الذي لا يطال حياة الناس وممتلكاتهم فقط، وإنما يطال أيضا إمكانات أمة بأسرها، عدوانية تدفع لخدمة الموت. والسؤال المفروض عليه هو: هل نترك الفرصة للعدوانية في أن تقوم بالتخريب والهدم وتعريض مستقبل أمة كاملة للهلاك؟ أو نقوم بقمع هذه العدوانية وملاحقتها واستئصال جذورها ومحاكمتها فعليا وأخلاقيا؟!

هل العدوانية والتدمير مرض يجب العناية به ويمكن شفاؤه؟، أو هو خلل يجب إصلاحه؟ إن العدوانية التي تلجأ إلى القتل والتدمير لها عواقب على النفس وعلى المحيط مما لا يمكن حسابه، فالكيانات المفرطة في عدوانيتها لا يمكن أن تستمر إلا إذا اخترعت على الدوام أعداء لها، عليها إخضاعهم وقهرهم، فإن لم تجد فإن هذه الكيانات توجه عدوانيتها نحو نحرها. ونظام العراق القائم هو مثال واضح لهذه العدوانية المريضة التي تخلق الأعداء لسبب في نفسها، فإن لم تجد توجهت إلى شعبها لإخضاعه وإذلاله. وهي في الحالتين ترتكب الفظائع في حق الإنسانية.

لقد ارتكب النظام العراقي جرائم حرب في مواجهته مع إيران خلال احتلاله للكويت، وفي حربه الداخلية ضد شعبه بفئاته المختلفة. لقد أصبح القتل لديه صناعة مزدهرة، فهل يتدخل القانون الدولي لوقف هذا الاستهتار بالإنسان من خلال إجراءات بناء النظام العالمي الجديد كما تدخل ويتدخل في قضايا مماثلة؟.

للإجابة عن هذا السؤال اليوم ينبغي على الرأي العام العالمي والعربي أن يتعرف الفظائع التي ارتكبها نظام العراق ضد شعبه وجيرانه والتي لا يزال يرتكبها، ولا نظن أن أحدا يجهل الملامح العامة لهذه الفظائع أم ترى أن طول الزمن، والتكتيكات السياسية المرحلية سيؤديان إلى ظهور دعوات لتأهيل هذا النظام من جديد، برغم إفراطه في عدوانيته، ومن ثم إعطائه فرصة أخرى كي يبحث له عن ضحايا جدد!!

المطلوب هو التدخل القانوني الدولي، فشجب فظائع الحرب والجرائم ضد الإنسانية بدأت تظهر في القاموس الدولي، وبدأت الكتابات تذكرنا بعد أكثر من خمسين عاما بالمحاكم التي أنشأها الحلفاء سواء في نورمبرج أو في طوكيو لمحاكمة مجرمي الحرب، بل إن هناك محاكم دولية قامت أخيرا لمحاكمة مجرمي الحرب في البوسنة والهرسك وكذلك مجرمي الحرب في رواندا. ولكن المتهمين بجرائم ضد الإنسانية ليسوا وقفا على تلك المناطق فقط.

لقد تعلمنا أخيرا أن البحث عن السلام والأمن يمكن أن يتزامن ولا يتناقض مع البحث عن العدالة أيضا. بل إن البحث عن العدالة هو مطلب سابق للسلام الدائم. إن أعداد مجرمي الحرب، الذين قاموا بتنفيذ القتل الشامل، وارتكبوا جرائم ضد الإنسانية، وخرقوا قوانين وأعراف الحروب في زماننا أعداد كبيرة. فهم ظاهرون في حرب النظام العراقي ضد الأكراد في حملة الأنفال الشهيرة التي استخدم فيها أبشع أنواع الأسلحة وهي الأسلحة الكيماوية، وكذلك ضد الشيعة في الجنوب، وفي التطهير العرقي في البوسنة، والقتل الجماعي في بورندي ورواندا، والإرهاب والعنف في أنجولا وشيشنيا وأثيوبيا، وهايتي وليبيريا والصومال و سيريلانكا، والقتل الجماعي والتصفيات في كمبوديا. إنها قسوة الإنسان وصلفه ضد أخيه الإنسان، وبعض هذه الجرائم وجد له صدى في ساحات المحاكم ولدى الرأي العام في مناطق مختلفة من العالم مثل الأرجنتين وشيلي وأثيوبيا وجواتيمالا وهندوراس. كل ذلك أطلق شرارة السخط الدولي والطلب العاجل للحلول الدولية لوقف مثل هذا الاستهتار بالروح الإنسانية.

المشكلة أن المجتمع الدولي استجاب، وبقوة، لعلاج بعض هذه المشكلات لكنه لا يزال عاجزا - أو ربما غير راغب - في التصدي لبعض أشكال العدوان على الإنسان لأسباب تتعلق بالمصالح والميول السياسية، وربما المواقف العرقية.

الحرب وقوانينها

الحرب ذروة العدوانية الجماعية، إنها تمتاز بميزات خاصة، وهي ظاهرة معقدة تتضمن مظاهر شتى، فهناك العديد من العوامل التي تسهم في تكوينها، لها قواعد وضعها المجتمع الدولي ونظمتها الاتفاقات الدولية، إلا أن الفظائع التي ترتكب باسمها أو باسم الدفاع عن المصالح الوطنية، ويقوم بها رجال غير عابئين بقواعد القانون الدولي ما زالت مستمرة، فهم يرتكبون الجرائم وكأن لديهم حصانة، في بعض الأوقات تبدو هذه الحصانة المفترضة مغطاة بأيديولوجية ما، أو تعصب عرقي أو حتى بمظلات حكومية.

هؤلاء الأشخاص أو الجماعات أو الحكومات التي تحبذ وتشجع الخروج على القانون الدولي والإنساني تهدد في الحقيقة السلام والأمن لشعوبها ولجيرانها وبالتالي للمجتمع الدولي قاطبة.

نصف قرن مضى على حادثتين مهمتين ساعدتا في وضع أسس وقواعد القانون الدولي الخاص بمحاكمات مجرمي الحرب في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية:

الأولى هي توقيع ميثاق الأمم المتحدة وهي وثيقة خاصة بالدول وليس الأفراد، ولا يوجد في ميثاق الأمم المتحدة بشكل واضح تركيز على مسئولية الأفراد في خوض الحروب.

أما الحادثة الثانية فقد كانت الاتفاق بين الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية حول كيفية معاملة مجرمي الحرب من النازيين وتقديمهم لمحاكم خاصة. الولايات المتحدة أخذت موقع القيادة في وضع خطط تقديم مجرمي الحرب إلى المحاكمة، والخطة التي أصبحت تسمى لاحقا ( المحكمة الدولية العسكرية لمحاكمة مجرمي الحرب في نورمبرج )، قدمت للحلفاء في مدينة سان فرانسسكو الأمريكية في نفس الوقت الذي وقع فيه - في نفس المدينة - ميثاق الأمم المتحدة، وخلال عام واحد قدمت خطة أخرى مماثلة لمحاكمة مجرمي الحرب اليابانيين على مثل تلك المحكمة في طوكيو.

ما اشتهر في التاريخ هو محكمة نورمبرج، أما محكمة طوكيو فهي متداولة فقط بين المختصين وعشاق التاريخ. عدالة هذه المحاكمات شهد بها التاريخ، فلم يعترض على حكمها أحد منذ أن أصدرت أحكامها. حادثة واحدة فقط هي محاكمة الجنرال الياباني تومويوكي ياما شيتا Tomoyuki Yamashita التي جرت في مانيلا عاصمة الفلبين شابها ما أثار بعض اللغط اللاحق. في السنوات الأخيرة أعاد العالم تذكر تلك المحاكمات عندما اتضحت الفظائع التي ارتكبت في البوسنة والهرسك وكرواتيا ورواندا من القتل الجماعي ودفن البشر أحياء أو تركهم للموت جوعا أو إبادتهم، وكانت ردة الفعل الدولية مشابهة لردة فعل الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية على فظائع النازية. المسئولون الحكوميون، وخبراء القانون، والصحفيون بدأوا يناقشون نظريات القانون الدولي وطرق ووسائل جلب المجرمين إلى المحاكمة كما ناقش أسلافهم هذه القضية إبان الحرب الثانية في الأربعينيات، وذلك للوصول إلى مفهوم أوسع للتدخل النشط ضد ممارسات الإبادة. ونشطت الوكالات الحكومية الفيدرالية الأمريكية لتنسيق جهودها تجاه الموقف من مجرمي الحرب هؤلاء، تماما كما فعلت إبان الحرب العالمية الثانية، وكما تم في السابق يتم في اللاحق، فإن الولايات المتحدة هي التي قادت ونفذت عمليات التحري والتقصي وجمع الحقائق والمعلومات لتقديم مجرمي الحرب إلى المحاكمة، في البوسنة والهرسك. وكما هو في السابق فإن الخلافات ذرت قرنها بين الحلفاء حول من وكيف ومتى يمكن أن تتخذ الخطوات العملية للقبض على المتهمين. في السابق، سبق إنشاء محكمة نورمبرج وجود اللجنة الدولية لمجرمي الحرب، كما سبقت لجنة الخبراء الدولية محكمة مجرمي الحرب في يوغسلافيا السابقة. المعلومات والحقائق عن الفظائع التي ارتكبت في يوغسلافيا السابقة كانت أوفر وأمكن الحصول عليها بسهولة، فقد قامت الولايات المتحدة وحلفاؤها في أوربا بحملة إنسانية واسعة وقبلوا لاجئين في ألمانيا وإنجلترا وفرنسا، وتوافرت من خلال هؤلاء اللاجئين معلومات ووثائق تسمح بملاحظة المتسببين والمسئولين عن الجرائم والفظائع، لذلك فإن المحكمة الخاصة بمحاكمة مجرمي الحرب في البوسنة تم إنشاؤها قبل إنهاء الصراع. وكانت مبادرة السلام التي قادتها الولايات المتحدة في سنة 1995 دافعها الرئيسي وقف هذه الفظائع.

نورمبرج على عكس ذلك، أنشئت خارج إطار الأمم المتحدة وكانت تحقيقا لعدالة المنتصرين، ولم تكن مثقلة ببيروقراطية الأمم المتحدة، وخلافاتها أيضا، ومشكلاتها المالية المزمنة. فمشكلة التمويل أو الإرادة السياسية لم تكن تواجه نورمبرج في حين أن المحاكمة الخاصة بالبوسنة واجهتها تلك المشكلات بجانب مشكلات الحصول على فريق من العاملين المتخصصين بها.

محكمتا نورمبرج وطوكيو جاءت متأخرتين لمنع استئصال الملايين من البشر، أما محكمة البوسنة الخاصة فقد عمل إنشاؤها على إرسال تحذير واضح لأولئك القادة الذين من المحتمل أن يقوموا بفظائع ضد الإنسانية، فحققت جزئيا حقنا لبعض الدماء.

القتل الجماعي أصبح صناعة

اليوم العالم مضطر، ليس إلى ممارسة عدالة المنتصر، بل إلى ممارسة عدالة الضحية، فالصراعات العرقية، والقتل الجماعي، غالبا ما تخاض دون منتصر واضح، ولكن الضحية دائما معروفة. في حالات الحروب الأهلية أو تسلط الحكومات وتصفية جماعات من شعوبها - كما حدث في العراق - فإن فرق القتل تريد أن تبرأ من الفظائع والعسف، أو أن تراهن على الزمن كي يهيل التراب على أعمالها، لذلك فإن التدخل القضائي الدولي هو العلاج الحق لمثل هذه الأعمال، وذخيرته تتفاوت من لجان تقصي الحقائق إلى إنشاء محاكم خاصة ومؤقتة، إلى إنشاء محكمة دولية دائمة لمحاكمة مجرمي الحرب ومن ارتكب جرائم ضد الإنسانية.

بعض الدول في السنوات الأخيرة ساهمت بآليات مبتكرة عن طريق معالجات محلية لمحاكمة وتجريم وعقاب مرتكبي هذه الجرائم، الأرجنتين وشيلي مثالان للمجتمعات التي تبنت خليطا من لجان تقصي الحقائق والمساءلة العامة والوعد بالعفو عمن يقدم معلومات عن فظائع ارتكبتها الأنظمة السابقة والتي هي في الغالب دكتاتورية سلطوية، مثل هذه الآليات مهدت الطريق للعودة إلى حياة مدنية آمنة تحت مظلة الأنظمة الجديدة في تلك البلدان.

في الهندوراس تمت محاكمة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية أمام محاكم مدنية حاكمت عسكريين قاموا بعمليات قتل جماعي وانتهاكات لحقوق الإنسان في الثمانينيات. أما في أثيوبيا - ومع مساعدة جزئية من الولايات المتحدة - فقد اتخذت خطوات قانونية محلية ضد المسئولين الكبار في نظام منجستوهيلامريام الذي قام بعمليات إرهاب على الطريقة الستالينية ضد معارضيه في السبعينيات والثمانينيات، وعادت أثيوبيا من جديد تتمتع بمظلة حقوق مدنية معقولة. أما في جنوب إفريقيا فقد استعانت بقضاة دوليين لمساعدة البلاد للتحرك بعيدا عن قضايا الثأر للجرائم التي ارتكبت إبان حكم النظام العنصري. هذه الأدوات المحلية للمساءلة تحاول أن تتغلب على سنوات مارست فيها الأنظمة السابقة انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان في تلك البلدان، وهي تفعل ذلك لتمكين مجتمعها من العودة إلى نظام متوازن يحفظ للإنسان حقوقه.

بعض الحكومات الإصلاحية، التي أعقبت حكومات دكتاتورية ارتكبت فظائع ضد الإنسانية، تحاول أن تقدم عفوا سخيا لممارسي التعذيب الصغار بدلا من تطبيق القانون بحذافيره عليهم، على أمل الوصول إلى الرءوس الأساسية التي قادت وقررت تلك الانتهاكات لحقوق الإنسان. فلسفة هذه الحكومات أن خيار السلام الاجتماعي يسبق خيار العدل لوقف الدائرة الجهنمية من القتل الجماعي والتصفيات والتصفيات المضادة. أما إذا كان العدوان الداخلي والتصفيات الجماعية لهما مضاعفات إقليمية، وتحتويان على قدر هائل من الإخلال بالقوانين الإنسانية المتعارف عليها، فإن علاج مثل هذه المعضلات لا يكون محليا بل دوليا، لأنه غالبا ما يأتي هذا العدوان من أنظمة دكتاتورية لا يستطيع معها الشعب الأعزل حراكا.

العلاج الدولي لمثل هذه الحالات مصدره الأمم المتحدة وردة فعل المجتمع الدولي، من خلال وسائل الإعلام الدولية وفي مثل هذه الحالات فإن السيادة الوطنية التي يقررها ميثاق الأمم المتحدة يتم تجاوزها بل يعتبرها القانون الدولي جانبية وغير ذات أثر بجانب ما يرتكب من فظائع، هنا يأتي دور الأمم المتحدة بمؤسساتها المختلفة لتتحرك نيابة عن الرأي العام العالمي من أجل وضع حد لمثل تلك الممارسات والقوانين الدولية لحقوق الإنسان، ولقد طورت قوانين الأمم المتحدة اليوم بما فيه الكفاية للدفاع عن ضحايا مجرمي الحروب، وأصبحت هناك قواعد قانونية ثابتة، بل وسوابق يمكن القياس عليها.

بعض المراقبين يرون أن ميثاق الأمم المتحدة يحصر التدخل في الشئون الداخلية للدولة في حالات محدودة، عندما يتحرك مجلس الأمن تحت بنود الفصل السابع من الميثاق ليتدخل عسكريا أو ليفرض الحصار على دولة ما. تحت هذا الباب تدخلت الأمم المتحدة لطرد جنود النظام العراقي من الكويت بعد أن احتلها بالقوة، وتحت هذا الباب أنشأ مجلس الأمن محكمة مجرمي الحرب في البوسنة وكذلك محكمة مجرمي الحرب في رواندا. إذن مفهوم السيادة الوطنية يمكن تجاوزه عندما تنتهك حقوق الإنسان جذريا في الدولة المعنية، وهو في هذه الحالة اعتداء داخلي يماثل العدوان الخارجي ينبغي أن يستجاب له دوليا، فإن كانت فظائع هذا العدوان مستمرة حق للأمم المتحدة أن تتدخل.

السوابق

سوابق التدخل القضائي الدولي تظهر في الحالتين اللتين قام خلالهما مجلس الأمن الدولي بإنشاء محكمتين محددتين، الأولى في بداية عام 1993 وهي المحكمة الدولية المخصصة لمحاكمة مجرمي الحرب في يوغسلافيا السابقة، والثانية هي في أواخر 1994 وهي إنشاء محاكمة لمحاسبة مجرمي الحرب في رواندا. الولايات المتحدة هي المحرك الأساسي في إنشاء هاتين المحكمتين كونها مصدر القيادة السياسية والتمويل والتوظيف، وكونها أيضا مصدر القيادة المعلوماتية. وفي كلتا الحالتين فإن مجلس الأمن وافق على إنشاء المحكمتين قبل أن ينتهي الصراع بالفعل، وقبل ظهور منتصر نهائي أو مهزوم نهائي. إنشاء هاتين المحكمتين ضيق مجال المناورة لمجرمي الحرب وقيد من تصرفاتهم. لقد أقر مجلس الأمن تطبيق القانون الدولي كأولوية قصوى وسابقة لكل النتائج السياسية والعسكرية للصراع.

المحكمتان أنشئتا تحت مظلة الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، واضطرت كل الدول ذات العلاقة أن توافق على التعاون مع هاتين المحكمتين تحت تهديد فرض العقوبات الدولية إن لم تفعل ذلك. مجلس الأمن نظر إلى الصراع في البوسنة والهرسك وكذلك الصراع في رواندا على أنه صراع يهدد السلام والأمن العالميين. كما أن هاتين المحكمتين نظر إليهما على أنهما وسيلة لتحقيق العدالة والسلام عن طريق تعرف أولئك الأفراد المتسببين في خرق القوانين واستخدام أدوات الحرب بتعسف، واضطهاد الإنسان وحرمانه من حقوقه الأساسية. إن جرائم الحرب بها قائمة طويلة من الممارسات ضد الإنسانية.

كلتا المحكمتين تساعدان في تمهيد الطريق لعصر جديد من التدخل القضائي الدولي النشط، ليس فقط في جرائم الحروب بين الدول بل في الجرائم التي ترتكبها الدول ضد شعوبها، وفي جرائم الحرب التي ترتكب في الصراعات العرقية والدينية، وبصرف النظر عن المنتصر والمنهزم. مجرد ارتكاب الجرائم تلك يعرض مرتكبها للمساءلة والمحاكمة والعقاب.

التدخل القضائي الدولي لا يمكن أن يكون معزولا ومنفصلا عن السياسة، فقد تأخر مثلا مجلس الأمن لعدة أسابيع قبل أن يصل إلى قرار إنشاء محكمة لمحاكمة مجرمي الحرب في رواندا، وذلك لأن حكومة رواندا وقتها كانت عضوا في مجلس الأمن نفسه واستخدمت عدة تكتيكات قانونية لتأخير الوصول إلى قرار، وحتى بعد الوصول إلى قرار أرادت حكومة رواندا التي يسيطر عليها التوتسي Tutsis - الذين قاموا أصلا بإبادة الطرف الآخر في رواندا وهم الهوتو Hutus - أن تؤثر على نص القرار وتحديد نطاق السلطة القضائية المقترحة، كما أرادت أن تدخل شروط اختيار القضاة والمدعي العام، ولكن كل هذه المناورات باءت بالفشل ونجح مجلس الأمن في إنشاء محكمة قانونية دولية مستقلة عن كل تلك الضغوط.

تعيين مدع عام للمحكمة الدولية لمحاكمة مجرمي الحرب في البوسنة أيضا دخل في أرض رخوة، وأخذ الأمر أكثر من أربعة عشر شهرا في الرد والاختلاف وبعد عرض عدد من المرشحين تم تعيين أحدهم لوقت قصير، سرعان ما نشب الخلاف حوله بعد ذلك، وأخيرا اختار مجلس الأمن قاضيا من جنوب إفريقيا لقي قبول جميع الأطراف.

الردع الدولي الإنساني

التدخلات السياسية إذن قد تعطل وتؤخر قيام مثل هذا النوع من المحاكمة لأغراض أخرى، ووجود المحكمتين المؤقتتين أنفسهما ( إنشاؤهما تم لأغراض محددة ) يبين بحد ذاته الصعوبات السياسية لإنشاء مثل هذه المؤسسات. ولكن وجود مثل هاتين المحكمتين هو فرصة ممتازة لتحديد الطرق والوسائل المرغوبة دوليا في كيفية تعامل حكومة مع شعبها، خاصة إن كان مكونا من أعراق ومذاهب وتوجهات مختلفة. عمل هاتين المحكمتين يضفي الصدق على اهتمام المجتمع الدولي بما يحدث في الدول المختلفة، وأن هذا المجتمع لا يستطيع أن يتسامح مع وصول الفظائع المرتكبة والإبادة الجماعية أثناء الاحتلال أو الصراع ويشيح بناظريه بعيدا عنها، كما أن هاتين المحكمتين يمكن أن تضعا الخطوط العريضة لتشجيع الوفاق والسلام في المناطق المنكوبة بمثل هذه السلوكيات غير الإنسانية. الفكرة الرئيسية أن من يرتكب جرائم حرب وفظائع تنكيل وتجاوزا صارخا للحقوق الإنسانية لا بد له في نهاية المطاف من أن يقدم للمحاكمة العادلة ويدفع ثمن ما ارتكبه، حتى لا يكرر فعلته آخرون لنفس الأسباب. وفي المستقبل فإن الأفراد المسئولين عن ارتكاب جرائم ضد الإنسانية لا يمكن لهم أن يختفوا بسهولة خلف شعارات عرقية، أو ساتر السيادة الوطنية، وأن المجتمع الدولي سيكون له الحق والقدرة والوسيلة لجلب هؤلاء المجرمين إلى ساحة العدالة. ومن الخبرة الدولية فقد وجد أن السلطات المحلية ومسئولي المعسكرات والسجون وقادة الفرق الصغيرة بل والمسئولين المدنيين يعاملون من يقع تحت أيديهم من ( الأعداء ) معاملة حسنة لأنهم أصبحوا يعلمون علم اليقين أن المجتمع الدولي سوف يكون لهم بالمرصاد ويعاقب دون هوادة أولئك الذين يفشلون في احترام الحد المعقول من حقوق الإنسان. والإدانة القاطعة والواضحة من قبل محكمة مجرمي الحرب في البوسنة قيدت من قدرة السلطات العسكرية الصربية وجعلت أفرادا مثل رادوفان كراديتش وراتكو ميلاديتش محدودي القدرة على التصرف وحرمتهما من موقف محترم في المجتمع الدولي، كما وجهت التهم إلى غيرهما من الكروات والصرب على ما ارتكبوه من فظائع ضد الإنسانية.

إلا أن القانون الدولي الخاص بالتدخل القضائي النشط لا بد من تطويره حتى تكون البشرية محصنة ضد تصرفات خرقاء، مثل القتل الجماعي ودفن الناس أحياء أو حرمانهم من حقوقهم الأساسية، أو جرائم الحرب المختلفة الأخرى. ولكن ذلك ليس بالأمر اليسير فلا بد أن يأخذ ذلك سنوات وجهودا حثيثة، ومحاكمات عدة. محكمتا البوسنة والهرسك ورواندا لهما سلطات قانونية لم تكن لمحكمة نورمبرج، فهاتان المحكمتان الأوليان يمكن أن تنظرا في قضايا التطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية، في حين أن محكمتي نورمبرج وطوكيو كانتا لهما سلطة النظر في الجرائم الخاصة بالفظائع التي ارتكبت أثناء الحرب العالمية الثانية. كانت المشكلة الأساسية هي الهوة القانونية بين مجرمي الحروب الواقعة بين الدول ومجرمي الحروب الأهلية، ومحكمتا البوسنة ورواندا ردمتا هذه الهوة، فقد قرر قضاة محكمة البوسنة أن سلطتهم القضائية تشمل جرائم الحرب في الصراع بين الدول وجرائم الحروب الأهلية، ولم يعد هناك انفصال اليوم بين جرائم الصراع المسلح بأشكاله المختلفة، سواء كان بين دول أو بين جماعات في نفس الدولة، أو كان جرائم دولة دكتاتورية ضد قطاع من شعبها، أو شرائح مختلفة منه.

كما أكدت محكمة البوسنة الدولية لمحاكمة مجرمي الحرب شرعية إنشائها من خلال قرارات مجلس الأمن، وأن حكمها يأخذ الأولوية على أي أحكام تصدرها المحاكم المحلية، كما أنها طورت طرقا مستحدثة لحماية الشهود وإخفاء شخصياتهم، خاصة شهود ضحايا الاغتصاب. وبذلك أصبح هناك قواعد قانونية دولية إنسانية أضيفت إلى القانون الدولي نتيجة الممارسة. وفيما تمثل محكمتا البوسنة ورواندا مثالا للتدخل القضائي الدولي النشط هناك أيضا أمثلة أخرى، فقد قامت الإدارة الأمريكية بتحقيقات واسعة حول القتل الجماعي في كمبوديا وهناك احتمال متزايد لتقديم أولئك المسئولين عن تلك الفظائع إلى المحاكمة. كما أن هناك جهودا نشطة في أروقة الأمم المتحدة لإنشاء لجنة تحقيق تقوم بالتحقيق في جرائم وفظائع النظام العراقي التي تمت سواء ضد الأكراد في الشمال، خاصة في حملة الأنفال التي راح ضحيتها أكثر من خمسة آلاف كردي بين رجل وامرأة وطفل، واستخدمت فيها الغازات السامة أو حملات الإبادة بالأسلحة التقليدية أو الاختفاء في السجون المختلفة لأعداد كبيرة من الشعب العراقي، وكذلك الحملات ضد السكان في جنوب العراق، وتجفيف مناطق الأهوار ومطاردة المواطنين خارج الحدود. يضاف إلى هذا الملف المتضخم في الجرائم ضد الإنسانية ما فعلته السلطات العراقية إبان احتلالها للكويت، والذي يمكن الوقوف على حدوده المريرة والدامية عبر وثائق عديدة إحداها أطلس جرائم الحرب العراقية في دولة الكويت، الذي يوثق لهذه الجرائم مكانا وزمانا وهي شتى، ما بين إعدامات غير قانونية ومداهمات وانتهاك للبيوت، وتعذيب وحشي في مراكز المخابرات العراقية، وحرق متعمد للمنازل والمتاجر والممتلكات، وزرع للألغام في مناطق يرتادها البشر، لقد أحصيت 400 حالة إعدام دون محاكمة، و 1604 حالات إصابة بالغة بسبب التعذيب وإطلاق النار العشوائي، 15461 معتقلا و1845 منشأة تم إحراقها. هذا عدا إحراق آبار النفط في الكويت. واختطاف البشر الذين لا يزال هناك منهم أكثر من 600 أسير من الكويتيين وغير الكويتيين في السجون العراقية. كل ذلك جرى خلال فترة الاحتلال المحدودة، وإذا ما أخذنا في الحسبان محدودية مساحة الكويت وقلة عدد سكانها لتبين لنا مدى السعار الوحشي الذي استبد بأجهزة القمع التي نشرها الاحتلال في الكويت، وهو سعار بدأ أصلا على الأرض العراقية، وجرب أول ما جرب أنيابه ومخالبه في لحم العراقيين أنفسهم. وهذا مما لا يجهله قاص أو دان يعرف سيرة نظام صدام حسين القمعية الدامية. الوثائق الكويتية عديدة، والشواهد الدولية كثيرة. والحكومة الأمريكية وغيرها من الحكومات الغربية لديها من الوثائق ما يدين النظام العراقي أمام أي لجنة أو محكمة محايدة، كما أن الكويت قد أقامت مركزا لتجميع كل هذه الأدلة والثوابت التي تدين النظام العراقي، وكونت قائمة بأسماء المسئولين العراقيين ووظائفهم وما قاموا به من جرائم ضد الإنسانية إبان الاحتلال العراقي للكويت قبل ست سنوات. وسيكون من حسن التصرف الدولي أن تنشأ هذه اللجنة في أقرب وقت ممكن على نفس الخطى التي أنشئت بها اللجان التي حضرت لإنشاء محكمتي البوسنة ورواندا الدوليتين، كما أنه من الممكن أيضا رفع دعوى القتل الجماعي ضد العراق أمام محكمة العدل الدولية. إن الأسباب الموجبة لوضع نظام صدام حسين أمام المحاكمة مشابهة - إن لم تكن تفوق - للأسباب التي قدم من أجلها مجرمو الحرب في رواندا ويوغسلافيا السابقة للمحاكمة. وليس في تقديم صدام حسين وزبانية أجهزته القمعية مجرد ثأر للكويت، بل هو ثأر للعراقيين أنفسهم، وثأر لحقوق الإنسان العربي، وردع لكل نزوع إجرامي يتربص بالشعوب والبشر العزل في المستقبل.

المحكمة الدائمة

إن الخطوة الأفضل للتدخل القضائي الدولي النشط هي إنشاء محكمة دائمة على غرار محكمتي نورمبرج وطوكيو، ولقد تمت خطوات عديدة لإنشاء مثل هذه المحكمة الدائمة بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن هذه الجهود سرعان ما عطلت بسبب الخلاف على تحديد طبيعة تلك الجرائم التي تدخل ضمن المساءلة، كما أن الحرب الباردة قد تدخلت لتعطيل أي توجه لإنجاح تلك الجهود.

لقد أخذت الأمم المتحدة عقدين من الزمن تقريبا للوصول إلى تحديد شبه كامل لجرائم الحرب. والجهود المبذولة اليوم لتجميع منطوق متفق عليه لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والسلام والأمن، والتي سوف يحدد الاتهام فيها عن طريق محكمة جنايات دولية ما زالت في المطبخ السياسي للأمم المتحدة، ولكن هناك جهودا حثيثة لإخراجها إلى العلن، لأن العديد من الدول تعترف اليوم بأن الجرائم ضد السلام والأمن والإنسانية في ازدياد، وأن الثمن المادي والإنساني الذي يدفع فيها هو ثمن باهظ، ويعاني مجلس الأمن اليوم من وهن محاكماته - إن صح التعبير - بعد إنشائه لمحكمتي البوسنة ورواندا، كما أن بعض أعضاء المجلس غير متحمسين لاستئناف العمليات من جديد في ضوء ما تعاني منه الأمم المتحدة من صعوبات إلا أنه من حسن الحظ في السنوات الأخيرة أن الدبلوماسيين والمحامين الدوليين يسعون جادين لوضع مسودة لإنشاء محكمة دولية دائمة لمحاكمة مجرمي الحرب، وأن اللجنة القانونية قدمت مسودة أخيرة لذلك سنة 1994، ولكن شابها بعض القصور مما دفع دولا عديدة لطلب إعادة النظر فيها.

القانون الإنساني الدولي يجب القانون المحلي

إن وجود قانون دولي ومحكمة دولية لمثل هذه الأمور هو تطور مهم في العلاقات الدولية، ولن يعود لكل حكومة دكتاتورية أن تتصرف كما تشتهي في شعبها كالقطعان دون تدخل دولي. ويبدو أن المجتمع الدولي ناشط في هذا المجال فقد عقدت في سنة 1995 لجنتان مؤقتتان للنظر في مسودة قانون المحكمة الدولية لمحاكمة مجرمي الحرب. ومن المحتمل في الاجتماع الواحد والخمسين للجمعية العامة في سبتمبر القادم أن يتقرر ما إذا كانت العملية قد أصبحت ناضجة للدعوة لعقد مؤتمر دبلوماسي لكسب تأييد دولي لتوقيع معاهدة دولية تنشأ على أساسها مثل هذه المحكمة الدائمة، وسيكون في مقدورها محاكمة مجرمي الحرب ومرتكبي الجرائم ضد الإنسانية، وسيكون في مقدور مجلس الأمن تحويل ما يراه من قضايا للعرض على هذه المحكمة. وبالتالي تصبح الرقابة الدولية أكثر قدرة على كف يد الأنظمة التي لا تراعي في الله ولا في الناس حرمة أو ذمة.

لقد ظل الطغاة ومجرمو الحروب يتحصنون وراء جدران ترفع لافتات " الشأن الداخلي"، " والسيادة الوطنية "، وهي عناوين حق يراد بها باطل حيثما كان الهدف هو إطلاق اليد المتعسفة والأنياب في أجساد البشر العزل من شعوبهم أو شعوب الجوار. لكن يبدو أن البشرية تتجه - وإن ببطء - لتجريد الطغاة والجلادين من حصاناتهم تلك حتى يدفعوا ثمن ما اقترفته أياديهم.أو هكذا نأمل.

 

محمد الرميحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات