هل تحل إسرائيل محل العثمانيين في المنطقة العربية؟ محيي الدين صبحي

هل تحل إسرائيل محل العثمانيين في المنطقة العربية؟

إن السؤال المصيري الذي ندر أن يطرح هو:

- ما الحجم الذي تريده إسرائيل لنفسها في المنطقة العربية؟

- وإلى أي حد يمكنها الوضع العربي الراهن من تحقيق مخططاتها؟ بعبارة أخرى:

- هل تخلف إسرائيل السلطنة العثمانية خلال الخمسمائة سنة القادمة؟

والفرضية التي أطرحها هي أن الأمم إذا جابهت لمدة طويلة مشاكل مصيرية عجزت عن حلها، أو قوى أكبر منها، فإنها تمر في مرحلة من البلبلة تميل معها نخبها الفاعلة - أو أغلبها - إلى تجنب الصراع وتركن إلى قيادة أجنبية تتولى حل مشاكل المجتمع الداخلية وإدارة صراعاتها مع الخارج، نيابة عن النخب المحلية التي تستمر في إدارة المجتمع ولكن باتجاه تكييفه مع الإرادة الوافدة وتطبيعه بحيث يخضع لها. أما إرادة الاستقلال والنزعات المخالفة فتعتبر خارجة عن الشرعية القائمة مما يضطرها إلى التقية والسرية والمقاومة.

فقد انكشفت بلاد العرب أمام الغزو التركي منذ بداية القرن الثالث الهجري فتولوا سلطة الدولة العباسية فيما تحول العرب إلى ثائرين خارجين على القانون أو أمراء في مدن منعزلة. فلما حصل الغزو الصليبي 1098 /1291م تقبل العرب أية سلطة قادرة على مواجهة الغزو، مما مكن للمماليك الأتراك والشراكسة لمدة تقرب من ثلاثمائة سنة، واجهوا خلالها الهجوم المغولي وتهديم هولاكو لبغداد عام 1258م ثم اجتياح تيمور لنك لبلاد الشام عام 1400م.

غير أن قبيلة تركية احتلت لنفسها موقعا في الأناضول وانفصلت عن إمبراطورية هولاكو برئاسة مقاتل يدعى عثمان. وظل أولاده يتوسعون في الأناضول حتى استطاع محمد الفاتح احتلال القسطنطينية عام 1453م وما وراءها من بلاد البلقان. وفي أعوام 14 و 15 و16 و17 تمكن حفيده السلطان سليم الأول من احتلال العراق والشام ومصر وأصبحت جزءا مما عرف فيما بعد بالإمبراطورية العثمانية.

على أن خلاصة هذه الحوادث ورد فعل الشعب العربي عليها هو أهم ما في الأمر. ففي مصر والشام والعراق لم يحارب السكان العرب العثمانيين، وإنما اقتصر القتال بين الجيش العثماني والجيشين الصفوي والمملوكي.

الملاحظة الثانية والأهم هي أن السلطان سليم الأول حين كان في القاهرة استقبل مبعوثين عربا من قبل شريف مكة قدموا له مفاتيح المدينة المقدسة ولقب حامي الحرمين الشريفين. وقد كان هذا المشهد تكرارا لما حدث مع صلاح الدين الأيوبي بعد أن حرر القدس في عام 1187.

وحين تولى ابنه سليمان الأول القانوني (1520-1566) طور الأسطول العثماني حتى صار أفضل أسطول في البحر المتوسط، فقدمت له الطاعة طرابلس وتونس ووهران. وهي المدن التي طالها العدوان وأحيانا الاحتلال من قبل الأسطول البرتغالي، ثم الإسباني بعد سقوط غرناطة عام 1492. فكان الأسطول العثماني جاهزا لتحريرها وكانت هي راضية مقابل ذلك لأن تنضم إلى الإمبراطورية.

كان عجز تلك الأنظمة عن الدفاع ضد الغزو الأجنبي وتجزؤها وفسادها الداخليان من أسباب انصراف شعوبها عنها و تعلقها بالعثمانيين.

بعد أربعمائة سنة من هذا الالتحاق الطوعي اكتشف القوميون العرب أن السلطنة ليست عاجزة عن حمايتهم فقط، وإنما كانت تجعل العرب وبلادهم رهائن بيدها تساوم عليهم الغرب وتتنازل عن تلك البلاد بلدا إثر بلد للاستعمار الغربي، مقابل موافقة الغرب على استمرار السلطنة في البقاء. فقد تنازلت السلطنة عن تونس والجزائر لفرنسا دون أن تتعكر العلاقات بين السلطنة وفرنسا. كذلك حدث بين السلطنة وبريطانيا بخصوص مصر، وقبل ذلك احتلت بريطانيا الخليج العربي ورتبت أوضاعه دون اعتراض من العثمانيين وكانت ليبيا آخر ضحايا الوفاق العثماني - الأوربي عام 1910. لقد ظلت السلطنة أكثر من قرن تساوم وتسمسر مع فرنسا وبريطانيا على المصير العربي، فما العجب في أن يتولى العرب مفاوضة فرنسا وبريطانيا على المصير التركي؟ ألا يكونون بذلك قد حرروا أنفسهم من النير العثماني، وصار في وسعهم أن يضمنوا مصيرهم من الدول العظمى الطامعة بهم عن طريق العثمانيين؟

لقد ظل " العرب العثمانيون " إلى اليوم يتهمون القوميين العرب بالتآمر مع الغرب ضد السلطنة المسلمة، في حين أن وقائع التاريخ تبين أن الواقع هو عكس ذلك تماما.

فالعثمانيون هم الذين تلاعبوا بالمصير العربي وتآمروا عليه وقدموه قطعة قطعة وبلدا إثر بلد للاستعمار الأوربي مقابل قبول الغرب باستمرار السلطنة في حكم العرب أو ما تبقى منهم. ولم نسمع أي اتهام أو لوم لتلك السلطنة المتآمرة، أفلا يشكل سلوك السلطنة المتخاذل طوال القرن التاسع عشر تبريرا للعرب كي ينفكوا عنها؟

على أن سلوك الأتراك بعد السلطنة أبلغ تعبيرا من مواقفهم ضد العرب منه خلال السلطنة. فلولا أن القومية والعلمانية والاستقلال أفكار ناضجة عند الطلائع التركية لما تمكن أتاتورك من إنشاء جمهورية تركية قومية علمانية، في حين أن هذه الأفكار ما زالت إلى اليوم بعيدة عن التحقق في الوطن العربي بسبب عدم نضجها وعدم إجماع النخب العربية عليها.

بل إن سلوك تركيا منذ إعلان الجمهورية إلى اليوم لا يدل على أن لديها مخزونا وديا تجاه العرب والإسلام. فقد تخلت عن الحروف العربية وانتسبت للحلف الأطلسي وتعاونت مع إسرائيل في الظروف الحرجة، ولن نختم باحتلال الإسكندرونة وتحويل مياه الفرات، لأن لها مطالب في الموصل ونفط أربيل وشمال سوريا.

هاتان هما المرتان اللتان ركن فيهما العرب إلى قوة أجنبية لحل مشاكلهم الداخلية وإدارة صراعاتهم مع الخارج.

في المرة الأولى لجأ العرب إلى العثمانيين ليتخلصوا من حكم المماليك والتهديد الأوربي، وفي المرة الثانية لجئوا إلى فرنسا وإنجلترا ليتخلصوا من العثمانيين ويبحثوا عمن يساعدهم في بناء دولة قومية وفي تحديثها.

إخفاق النخب العربية

والفرضية الثانية هي أن النخب الحاكمة العربية الآن في وضع مشابه. فقد أخفقوا في كل ما صبوا إليه من وحدة وتقدم. وقد تعبوا من أنفسهم وتعب بعضهم من بعض. وقد زين الإخفاق والخوف من الشعوب ومن الأنظمة المجاورة ومن الإلحاح الضاغط للوحدة العربية كمخرج وحيد من التخلف والفقر والهزيمة، كل ذلك زين للنخب العربية الحاكمة أن تتجه إلى التعاون مع إسرائيل لتجد فيها حليفا يحميها من شعوبها ومن بعضها بعضا.

ولو ألقينا نظرة على المشهد العربي في وضعه الدولي لوجدنا أن الأمة العربية الآن هي أكثر أمة مستعمرة في العالم المعاصر، فهي مستعمرة سياسيا وعسكريا واقتصاديا وثقافيا. ليس في العالم نوع من الاستعمار لم يمارس على الأمة العربية، من الاستعمار الاستيطاني، وهو أقدم أنواع الاستعمار إلى سياسة الإلغاء وهي أحدث أنواع الاستعمار.

على أن المشهد الداخلي أشد سوءا من التبعية العربية للعالم الخارجي. فمذابح الحروب الأهلية تنتشر في بقاع كثيرة من العالم العربي، كلها دول تسير على طريق لبنان الذي نزف عشرين عاما ليتوقف من حيث ابتدأ في الخلاف حول حقوق الطوائف. ولو كانت هذه الحروب طبقية لأعادت تشكيل المجتمع بحسب مبدأ اقتصادي إنتاجي يساعد على تقدم المجتمع وفق مبادئ عقلانية.

أما الصورة السريالية الفريدة في العالم فتقدمها العلاقات بين الدول العربية التي صنعت عصر الانحطاط الحالي. أساس هذا الانحطاط هو أن كل نظام عربي يعتبر نفسه مستقلا تمام الاستقلال إزاء المنظومة العربية، وحرا كل الحرية في التصرف إزاء مشاكل المنطقة فيما يوافق مصلحته ويعزز موقفه الخارجي والداخلي، أيضا يعتبر كل نظام نفسه لاعبا رئيسيا في المنطقة بصرف النظر عن حجمه وإمكاناته وارتباطاته المحلية والدولية، هذا ما ألغى كل الفروق بين القوة والضعف والتقدم والتخلف والاستقلال والتبعية والوعي والظلامية، ما دام لكل نظام صوت فالجميع متساوون وكل التوجهات متساوية وتكون النتيجة عطالة في الحركة الجمعية للأمة العربية هدمت تراكم الناتج الاجتماعي والثقافي والإنتاجي في مراكز الحضارة العربية الأساسية، مما جعل ناتج العمل العربي صفرا خلال نصف القرن المنصرم على الأقل. فهذا ما أحبط كل عمل عربي مشترك، بدءا من ميثاق الدفاع العربي المشترك، والسوق العربية المشتركة، حتى انتهينا إلى اختلاف الأنظمة حول المخزون النووي الإسرائيلي، وهل يعيق انخراط الأنظمة في العملية السلمية أم لا. هناك تفاوت في المواقف، لكن المصير العربي لم يوضع في الاعتبار، لأن المسألة أكبر من إنشاء علاقات دبلوماسية أو الاعتراف بدولة، ذلك أن النخب العربية الحاكمة تحصر المسألة في حدود الاعتراف والتجارة، وهذه نظرة إلى الأمور تحددها المنفعة الوقتية للنخب الحاكمة - أسارع إلى القول بأني أعني بالنخب الحاكمة كل الفعاليات المؤثرة في المجتمعات العربية المجزأة، وعلى رأسها المثقفون وحملة الشهادات العليا وأصحاب النفوذ والسلطة من رجال الدين والمخابرات إلى أصحاب الملايين، هؤلاء كلهم يرون في الانهيار القومي الذي ساهموا فيه، فرصة للالتحاق بالمشروع الإسرائيلي يساعدهم على تأييد مواقعهم في التسلط على المجتمع، ويحميهم من طغيان بعضهم على بعض. وبذلك تدخل إسرائيل في لعبة التوازن بين الأنظمة العربية، وتصبح مركز الثقل في المنطقة العربية حيث تتنافس النخب لجر إسرائيل إلى جانبها.

من الذي يجر الآخر؟

غير أن إسرائيل سوف تجرهم قبل أن يجروها. فهي قادرة ببنيتها العلمية البسيطة - ولكن الحديثة جدا - أن تصبح مركز الاتصالات الإلكترونية في المنطقة، كذلك تستطيع بفضل أقمارها الصناعية أن تستقطب البث التليفزيوني وتعيد توزيعه في المنطقة، وقد تتمكن إسرائيل من إقناع أصحاب الملايين العرب بإعادة أموالهم من بلاد الغرب، لأن المنطقة العربية ما زالت بكرا تستوعب الكثير من المشروعات الإنمائية والصناعية الخفيفة والسياحية - لكن الأموال العربية ستعود هذه المرة عن طريق إسرائيل لأن قوانينها تكفل لهم الاستثمار وسحب العائدات مع رأس المال.

والمشكلة ليست في أن العرب لا يعرفون، فالخبراء العرب أكثر عددا وأغزر علما، المشكلة هي أن النخب العربية الحاكمة لا تملك الوعي، ولا الإرادة للقيام بعمل عربي مشترك، فهي قد فقدت الرغبة في التطور كما أنها لا تؤمن بقومية ولا دين ولا حضارة، ولم تؤمن في أي يوم بغير ذاتها ومكاسبها. والسبب في ذلك أنها فوق أي قانون أو محاسبة أو مراقبة. ولهذا فإن هذه النخب يشك بعضها ببعض داخل القطر الواحد، وتشك نخب القطر بالأقطار العربية الأخرى من حولها مما يجعل كلا منها يبحث عن حليف يتكل عليه من خارج المنطقة، هذه الاتكالية تشمل نواحي الحياة العربية بأكملها. في السياسة الداخلية والخارجية، وفي الاقتصاد والثقافة.

هذا الاتكال على الغريب أمر قديم مصدره عدم ثقة العرب بعضهم ببعض وفقدان المشروع السياسي الذي يجمعهم على سلطة تستمد مشروعيتها من الإجماع الشعبي على إنجاز مشروع تاريخي ما. فمنذ عام 830 تقريبا سرح الخليفة المعتصم العباسي الجيش العربي وشكل جيشا تركيا ما لبث بعد عشرين عاما أن قتل الخليفة المتوكل وعين غيره واستمر التلاعب بالخلفاء حتى أضحت الخلافة رمزا دينيا كما استمر الأتراك وغيرهم من الحكام في احتكار السلطة وإبعاد العرب عنها، بحيث جاء القرن العشرون وقد فقد العرب تقاليد ممارسة السلطة، كما فقدوا تقاليد الحرب والدفاع المشترك وقيادة الجيوش. فخلال مائتي عام من الحروب الصليبية (1098 - 1291) كان الحكام وجيوشهم مماليك شراكسة أو أتراكا أو تركمانا، أما صلاح الدين فكان لديه كتيبة كردية، في حين أن الشعب العربي كان لا يحارب إلا عند حصار المدن، كما حدث في دمشق إبان الحملة الصليبية الثانية عام 543/ 1148م وفي مصر في الإسكندرية وأسيوط.

تحالفات مشبوهة

ومما يلفت النظر أن حكام دول المغرب العربي الذين بايعوا السلطان سليم الأول أو حكام الجزيرة العربية أو حكام العراق وبلاد الشام، كل هؤلاء لم يوحدوا جهودهم ضد العدوان الأوربي، ولا أقاموا دولة متسعة، بل فضلوا أن يبايعوا السلطان التركي، كما فضلوا بعد أربعمائة سنة أن يتحالفوا مع الإنجليز على أن يتحالفوا فيما بينهم، أدى هذا الاتكال المستمر على الغريب إلى فقدان العرب للحس الاستراتيجي والحس التاريخي والحس بالاتجاه. فالحس الاستراتيجي يوحد الأمة تجاه قيم ومصالح أساسية تمس وجودها ككل، مثل النفط أو الأرض. الغريب في الأمر أن الولايات المتحدة هي التي تعلن أن النفط العربي سلعة تتعلق بأمنها القومي وأنها ستحارب للمحافظة على هيمنتها عليه تنقيبا وإنتاجا وتسويقا وتسعيرا وعوائد وفوائض. وقد حاربت على مدى العشرين عاما الماضية في أفغانستان وفي حربي الخليج الأولى والثانية.

والحس التاريخي يزود الأمم بالشعور بوحدتها وتضامنها وإبداعها ودورها في الحضارة البشرية.

أما الحس بالاتجاه فينتج عن إجماع الأمة على مشروع حضاري سياسي تتكاتف نخبها على تحقيقه على مراحل، وفقدان الحس بالاتجاه لا يؤدي فقط إلى الضياع، بل يصيب الأمة بالشلل وعدم القدرة على الرؤية والحركة.

المصير العربي من يملكه؟

الفرضية الثالثة هي أن هذا هو الوضع الأمثل لكي تتحول فيه إسرائيل إلى إمبراطورية تتحكم بالمصير العربي لمئات من السنين المقبلة، إذا ظلت بنية المجتمع العربي الاقتصادية والسياسية تسير في اتجاهها الحالي. فمنذ عشرين عاما إلى اليوم تتسارع حركة استقطاب فظيعة في أوساط المال والسلطة في الوطن العربي حتى كاد القرار الاقتصادي والقرار السياسي ينحصران في أيدي عدد من الرجال لا يتجاوز العشرين أو الثلاثين في كل قطر على أبعد تقدير. فقد تم بالسرعة القصوى، تدمير الطبقة الوسطى، وإسقاط قيمة العمل الشريف لصالح الثراء السريع والانتهازي، فسقطت بذلك سلسلة القيم المرافقة للعمل من شرف وقناعة ومنافسة للارتقاء بالذات وبالمجتمع. أخيرا، ومع سقوط البرجوازية سقطت الثقافة بمؤسساتها وآفاقها المتوسعة وروحها المتسامحة أو التي تدعو إلى التسامح مع الذات، مع الماضي، مع الآخر، مما يسهل دخولنا في العالم والمشاركة فيه. البرجوازية تفرض نوعا من الديمقراطية على أساس حق دافع الضرائب في أن يكون له ممثلون في السلطة. إننا نعيش في ركود ثقافي قد يطول بطول عصور الانحطاط، إننا نتحدث عن هزيمة المشروع القومي فنعدد الأسباب السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية، لكننا نغفل عامل التردي الثقافي وما يعقبه من ضيق الأفق وتكسير أجنحة الخيال: فنحن لسنا عاجزين فقط عن إيجاد بديل للوضع الحالي، بل أيضا نحن عاجزون حتى عن خلق قصيدة حب أو ابتكار هندسة لمبنى أو وضع تصور لمجتمع يحقق العدالة الاجتماعية مع التقدم والحرية، وقد دفنا أحلامنا بدولة عربية موحدة مصنعة ديمقراطية وحرة، وفيما تندفن الأحلام تطفو الوقائع.

صحيح أن ردم الهوة ليس بالأمر المستحيل، لأن العرب لا تنقصهم الخبرة والقدرة العلميتان، ولا المال أو الخيال، إنما تنقصهم الإرادة الجماعية والإيمان بأنهم أمة وكذلك التصميم على التقدم دون مساومة أو تراجع. فبقدر ما تلوح إسرائيل مشروعا إمبراطوريا في الشرق الأوسط بفعل تنابذ النخب العربية، تلوح عزلاء معزولة إزاء أي نوع من التضامن العربي. والتضامن الذي أعنيه وأقترحه هو إنشاء مجموعات طوعية من الدول العربية على غرار مجلس التعاون الخليجي، فهو أنجح تجربة صمدت للزمن، حين يتصرف العرب كمجموعات سياسية واقتصادية سوف ترتاح الشعوب من الصراعات العربية المزمنة، ويتاح لها مزيد من الفرص لمقاومة التطبيع وتفويت النصر السياسي الذي تحققه إسرائيل على الساحة العربية.

فهدف إسرائيل ترجمة قوتها العسكرية إلى مكاسب سياسية واقتصادية. ومجالس التعاون العربية المقترحة مع المقاومة الشعبية للتطبيع قادرة على تحجيم إسرائيل وعدم إعطائها دورا مركزيا في المنطقة العربية، خاصة إذا وجد حد أدنى من التنسيق بين المجموعات العربية لخلق موقف قومي جمعي يمنع إسرائيل من أن تكون قاعدة استقطاب لهذه الكيانات المفتتة المتنابذة. إن السلاح قد يكسب حربا لكنه لا يكون منتصرا مادام للمهزوم إرادة. فالمصير العربي ليس رهنا بمعاهدات.

الفرضية الرابعة إذن هي أن هذا الخيار العربي الذي يلغي المشروعات الإسرائيلية والشرق أوسطية لم يغب عن خارطة إمكانات السياسة العربية على الإطلاق. بل إن الخيار العربي يغدو مطلبا مصيريا للهوية العربية المهددة، كلما تكشفت مخططات الاستتباع المالي والاقتصادي والثقافي والعسكري. والغاية النهائية من هذه السياسة العربية الطويلة الأمد التوصل بالملاينة والضغط إلى ميثاق عربي تتعهد فيه كل دولة عربية بأن تقدم لكل الدول العربية التنازلات التي تقدمها لإسرائيل، إذ لا يعقل أن تكون الأردن أو الضفة الغربية مفتوحة للاقتصاد الإسرائيلي ومغلقة على الاقتصاد العربي، لأن هذا يؤدي إلى جعل إسرائيل الفريق الأقوى في حالة أي تعاقد منفرد. أما إذا تبلور العالم العربي على شكل مجموعات فسوف تغدو إسرائيل عاجزة عن الاختراق، وتسقط سياستها في أن تصبح مركز الجذب في المنطقة.

في الختام: أكرر أن الأمة العربية على مفترق تاريخي حاد وبالغ الخطورة. لكن الغريب العجيب في الأمر أن هذه الأمة، بالرغم من جميع الهزائم والإحباطات لا تزال تملك خيارات تقرر بها مصيرها، مع أن الوقت ينفد والخيارات أيضا تستنفد. فالتبعثر العربي وحده يسمح لإسرائيل بأن تنقلب من غزو استيطاني إلى إمبراطورية تستقطب هذه الكيانات المتنابذة، وتصبح مركز الثقل واللاعب الرئيسي لعشرات من السنين القادمة في هذه المنطقة العربية المنهوبة والمجزأة من داخلها، تماما كما حدث للعرب مع العثمانيين ومع فرنسا وإنجلترا، وأخيرا جدا مع أمريكا.

يهتم علماء المستقبليات العرب بكم ينقصنا من الحبوب خلال العقود الثلاثة القادمة في القرن الواحد والعشرين، وكم سننتج من اللحوم أو النسيج. وهي حسابات ضرورية للمسئولين عن تدبير أمور المجتمع.

المطلوب - إلى جانب ذلك - تأسيس علم يبحث في المصير العربي وسط هذه الغابة الدولية، وليكن اسمه "علم الصيرورة القومية" في عصر ثورة التخلف وانفكاك الأقليات المذهبية والعرقية عن جسد المجتمع العربي بحثا عن مصير مختلف.

 

محيي الدين صبحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات