أستاذتي سهير القلماوي

أستاذتي سهير القلماوي

يقال إنه لا يعرف الفضل لذوي الفضل إلا أهل الفضل. وهذه لمسة وفاء من كاتبنا الكبير جابر عصفور لأستاذته التي كانت رائدة لجيل كامل من المثقفين العرب.

أدين لأستاذتي سهير القلماوي بأشياء كثيرة, ربما كان أولها أنها جعلتني أدرك أن المرأة لا تقل كفاءة عن الرجل في ميادين العمل المختلفة, أو مجالات العلم المتباينة, وأن تفوقها في كل ما يمكن أن تنهض به من أعباء خارج منزلها لا يعوقها عن أداء دورها في منزلها بوصفها زوجاً وأماً وربة بيت. وأشهد أن هذه الأستاذة الفاضلة كانت أكثر حزما وأقوى إرادة, وأشد جسارة من كثير من الرجال الأساتذة الذين تتلمذتُ عليهم, وعملت معهم, ورأيتهم يمارسون أعمالهم ويؤدونها في فتور وعدم حماسة.وكانوا, أحياناً, يفرون من المواجهة إذا لزم الأمر, إيثاراً للراحة النفسية, وطلباً للسلامة السياسية أو الاجتماعية, بل تفضيلاً للاسترخاء العلمي والدوران في الدائرة نفسها. وما أكثر المواقف التي رأيتها لسهير القلماوي, والتي جعلتني أتتلمذ على هذه السيدة في الدراسات العليا, وأوثر العمل معها, بل يزيدني هذا العمل فخراً بنفسي وبنموذج المرأة الذي كان يتجسد في سهير القلماوي موقفاً وسلوكاً.

وكانت سهير القلماوي بطبيعة ثقافتها تجمع بين القديم والجديد, تعلمت الجديد في المدارس الأجنبية التي درست بها قبل أن تلتحق بقسم اللغة العربية بكلية الآداب, وأتقنت العديد من اللغات الأوربية, واستعدت لدخول كلية الطب, ولكن كلية الطب لم تقبل أوراقها لأنها فتاة, فقد كانت الجامعة المصرية تتردد في قبول الطالبات حتى عام التحاق سهير القلماوي بها.وذهب والدها الطبيب الشهير إلى طه حسين ليعينه على حل مشكلة ابنته ولكن طه حسين صرف نظر الطالبة عن كلية الطب, وأقنعها بالالتحاق بكلية الآداب, والدراسة في قسم اللغة العربية الذي كان أشهر أساتذته. ويبدو أن شخصية طه حسين الساحرة جذبت الفتاة سهير القلماوي إليه, فتعلقت به, واتخذته أباً ثانياً وأستاذاً ومشرفاً ورائداً ومثلاً أعلى في الحياة, وأجلّها الأستاذ وأعجب بها, ووجد فيها نموذجاً للمرأة الجديدة التي كان المثقفون المصريون يحلمون بها منذ أن كتب قاسم أمين كتاب (المرأة الجديدة) ونشره سنة 1900 من مفتتح القرن الماضي.

ومضى الزمن بسهير القلماوي في قسم اللغة العربية بآداب القاهرة, وتنقلت ما بين الدرجات العلمية بعد أن حصلت على درجة الماجستير عن أدب الخوارج في التراث العربي.

وحصلت على درجة الدكتوراه عن ألف ليلة وليلة, وانتهى بها الأمر أستاذة للأدب الحديث ونقده في القسم, وأصبحت رئيسة لقسم اللغة العربية وآدابها, فكانت الفتاة الأولى التي كانت تدخل إلى كلية الآداب, والفتاة الأولى التي تحصل على درجة الدكتوراه من جامعة مصرية والأستاذة الاولى التي تترأس قسماً من أقسام الدراسات العلمية بالجامعة وكانت في إشرافها على القسم نموذجاً للحزم الإداري, والصلابة الموضوعية, والمواقف المحايدة العادلة.

وقد تخرجتُ في قسم اللغة العربية وهي رئيسة له, وفوجئت هي بشاب لا تعرفه ويخجل من الاقتراب منها, بل يخجل من محادثة أي أستاذة أو حتى زميلة, يحصل على أعلى الدرجات, وينال درجة الامتياز بمرتبة الشرف, وهي درجة لا تزال نادرة في قسم اللغة العربية إلى اليوم. وكانت هي البادئة في الاقتراب, تحدوها رغبة معرفة تلميذها المجهول الذي لم يسألها سؤالاً واحداً في محاضرة, ولم يستعرض معلوماته كما يفعل أقرانه في السن عادة وكان حنوها في التعامل معي أكبر دافع في الاقتراب منها. وسرعان ما جذبتني إلى عوالمها: التفتح الاجتماعي, الموسوعية الثقافية, ضرورة إتقان لغة أجنبية والقراءة بها, الوصل بين المعرفة التراثية والمعرفة النقدية الجديدة, الجسارة في الحق والجرأة في إعلانه, الإيمان بقضية المرأة والدفاع عن حقوقها المهدرة, الانتماء الثقافي العربي الذي لا يتناقض مع الانتماء الإنساني. وبقدر ما كانت هذه العوالم تزيدني رغبة في الانتساب إليها علميا, والتعليم منها حياتيا, كانت هذه العوالم تصلني بأستاذها طه حسين الذي قدمتني إليه في يوم لا أنساه في منزله (رامتان) بالهرم, وكان الأستاذ أيامها قد تقاعد من العمل الجامعي.

وازدادت الصلة بيني وبين سهير القلماوي بتعييني معيداً في قسم اللغة العربية وبدأت أسعى لتسجيل أطروحتي لدرجة الماجستير معها, واقترحت عليها أن أعمل في الإيقاع الشعري, فقالت لي إنها لا تحبذ أن أبدأ حياتي الجامعية بموضوع لا أمتلك الكثير من أدواته واقترحت أن أنتقل من دراسة الإيقاع الشعري إلى دراسة التصوير في الشعر, وأخذت أعمل في الموضوع, وانتهى الأمر بتسجيلي رسمياً لدرجة الماجستير. واكتشفت في سهير القلماوي خلال ذلك الوقت أمّاً حنوناً إلى جانب الأستاذة, فكانت أمي التي ذهبت لأخذ موافقتها عندما قررت أن أخطب زميلتي التي أحببتها وأصبحت زوجتي وأم أولادي ورفيقة العمر إلى اليوم وشجعتني سهير القلماوي على أن أمضي فيما فعلت, بل قامت بدور الأم فعلاً, وكانت كذلك في حفل الزفاف الصغير الذي أقمناه, بل كانت الأم التي تلقت ابنتي الأولى التي أطلقنا عليها ـ أنا وزوجتي ـ اسم سهير التي أصبحت أستاذة جامعية اليوم, ولا تزال تذكرنا بأستاذتنا التي ندين لها بالكثير.

حماس الشباب

وكانت سهير القلماوي خلال هذه الأثناء قد انتقلت من رئاسة قسم اللغة العربية إلى رئاسة الهيئة العامة للكتاب, حيث أنشأت للمرة الأولى المعرض الدولي للكتاب الذي يدين لها في وجوده بالفضل. واعتدت أن أذهب إليها في مكتبها بالهيئة, وكان على كورنيش النيل, في العمارة المجاورة لعمارة دار المعارف التي يوجد بها مقر مجلة (أكتوبر) بالقرب من مبنى التلفزيون, وكنت أرى في مكتبها كبار الأدباء الذين يأتون لزيارتها أو متابعة كتبهم التي كانت تصدرها الهيئة. ويبدو أن هذا المناخ قد أثار المزيد من حماستي, ودفعني إلى العمل ليل نهار حتى أنتهي من أطروحة الماجستير. وبالفعل, حبست نفسي شهراً كاملاً وكتبت الفصل الأول من الأطروحة, وجعلت عنوانه (مفهوم الصورة الشعرية في النقد العربي القديم والنقد الأوربي الحديث والنقد العربي المعاصر). وفرغت من كتابة الفصل, وذهبت به فرحاً إليها, وأنا أقول لنفسي: انتهيت من الفصل الأول في شهر, فلا بد من الانتهاء من بقية فصول الرسالة كلها في أربعة أشهر, وأحصل على درجة الماجستير في زمن قياسي, ولم أكن أدري لفرط حماستي ولسذاجتي معاً أن الحد الأدنى لمناقشة الماجستير هو عام وليس أشهراً قليلة, وأنه من البلاهة المطلقة أن يفرغ باحث من دراسة النقد العربي كله, والنقد الأوربي كله فضلا عن النقد العربي المعاصر, في شهر واحد. ولا أزال إلى اليوم أضحك من حماستي وسذاجتي التي دفعتني إلى فعل ما فعلت.

المهم أنني أعطيت الفصل لأستاذتي في مكتبها, فأخذته مني, وقالت لي: هاتفني بعد أسبوع. وقضيت الأسبوع على أحرّ من الجمر, وهاتفتها, فطلبت مني الانتظار أسبوعا آخر, ولم ألتفت إلى أن نبرة صوتها كانت متغيرة عن المعتاد. وهاتفتها للمرة الثانية, فدعتني إلى مكتبها, وجلست أمامها قلقاً, فقد لاحظت تجهّم وجهها, واختفاء البسمة التي تقابلني بها عادة, وفتحت أحد أدراج مكتبها وأخرجت الفصل وأعطته لي دون كلمة, وأتبعت ذلك بأن قدمت إليّ ورقتين تزدحم سطورهما بكتابة إنجليزية. وقالت بحزم لا أنساه: هذه مراجع إنجليزية في الموضوع, اذهب إلى الأستاذة (س) بمكتبة الجامعة الأمريكية, وسوف تتولى معاونتك في الحصول على هذه المراجع والاطلاع عليها في المكتبة أوخارجها.ولم تترك ملامحها فرصة للاستفهام عن شيء, فتلقيت الأوامر صامتاً, مصدوماً, وخرجت من عندها إلى مبنى الجامعة الأمريكية القريب. وأذكر أن دموعي انهمرت وأنا سائر على كورنيش النيل, فقد تبخرّت الآمال والأحلام الوردية لإنهاء أطروحة الماجستير في أشهر. وأخيراً, وصلت إلى المكتبة, وتلقتني الأستاذة (س) بودّ جميل, وقرأت معي ما لم أستطع فك رموزه من خط أستاذتي باللغة الإنجليزية, واسترحت لأن نصف المراجع التي كتبتها كانت مقالات في دوريات أجنبية, أما البقية فكانت كتباً لا بد من قراءتها. ولحسن الحظ, كانت الكتب مرتبة بالأرقام, فقد حرصت الأستاذة ـ دون أن تخبرني ـ على أن أتدرج من السهل إلى الصعب, ومن الصعب إلى الأصعب.

وعدت إلى منزلي وبدأت القراءة, ومضيت في العمل بلا كلل, وبعناد من يريد أن يثبت لأستاذته أنه جدير بالتلمذة عليها. وبقدر ما كنت أقرأ, وأفهم, وأستوعب, وأعرف المناهج والمدارس, كنت أدرك سذاجتي وجهلي في الفصل الذي كتبته, والذي لم تعلق عليه الأستاذة بكلمة واحدة. وحين كنت أراها في الكلية, خارجة من الدرس أو داخلة إليه, كانت تسألني: هل تدرس الكتب التي طلبت منك دراستها, وكنت أجيبها بأني أدرس وأتعب, وكانت الإجابة قرينة الصمت. وتحول السؤال بعد ذلك عن الكتاب الذي وصلت اليه, وكانت الإجابة المتكررة: حسناً, أكمل الكتاب التالي, وظل الأمر على ذلك المنوال إلى أن فرغت من العمل الذي أخذ مني عاماً كاملاً من الجهد الشاق والمعاناة التي لا تنسى, وعندما انتهيت اتصلت بها, فدعتني إلى لقائها, وذهبت إليها وقد أصبحت مدركاً كل الإدراك لغبائي فيما كتبت, وكان إحساسي بالندم كبيراً على الفصل الذي كتبته من قبل والذي حملته معي كالذنب. وعندما لقيتها, وجدت الابتسامة عادت إلى وجهها, وقالت: أين الفصل الذي كتبته منذ أكثر من عام? فأخرجته من الحافظة, وقبل أن أعطيه إليها بادرتني بالسؤال: أخبرني أنت الآن عن رأيك في هذا الفصل? فاندفعت قائلاً في تأثر: كلام فارغ لا يكتبه إلا شخص جاهل.

فعاودها حزمها وقالت: إذن مزّقه أمامي, وتخلّص منه. وبلا تردد, مزقت الأوراق, أمامها وأنا أشعر بأنني أتخلص من مراهقتي العلمية وسذاجتي الفكرية على السواء. وابتسمت حانية, وقالت: أظنك تعلمت الدرس الأول واستوعبته. امض الآن واكتب أطروحتك. ومضيت, وبدأت في كتابة الأطروحة التي لم أفرغ منها إلا بعد سنوات, وعلى نحو كان يدفعها ـ كما كان يدفعني ـ إلى الرضا عما فعلته بي في الدرس الأول.

نقطة تحول

ولا أعرف هل كان هذا الدرس الأول الذي تعلمته من سهير القلماوي هو المسؤول بقسوته عما أصبح يلازمني كطبعي بعد ذلك من وسوسة وتدقيق وحرص على المراجعة ونقد نفسي قبل أن ينقدني غيري?! ربما كان الأمر كذلك, فأن تضعك أستاذتك حيث يليق بسذاجتك وحماستك الجاهلة أمر قاس على نفس شاب كان يحسب نفسه عالماً منذ الصغر.

وصعب على شاب يعتز بنفسه ـ حتى بغير حق ـ أن تكشف أستاذته التي يُجِلّها كل الإجلال عن شدة سذاجته وخيبة تصوراته عن نفسه.مؤكد أن هذا الدرس كان له أعمق الأثر في حياتي, بل أجدني الآن أمارس ما يشابهه مع طلاب وطالبات الدراسات العليا الذين أشرف عليهم, مؤمناً أن القسوة الصادمة للطلاب والطالبات في بدايات دراساتهم العليا تضعهم في الطريق السليم إلى العلم, وتعينهم على التخلص من أوهام المراهقة الفكرية وكسل البداية التي لم تقو فيها رغبة العلم فتغدو متجذرة في أعماق النفس. مؤكد كان في نفسي أشياء نافعة بنت عليها أستاذتي, وكانت هناك بذور ساعدها الدرس القاسي الأول على أن تنبت وتعطي ثمارها, وتترعرع.

وما أعرفه على وجه اليقين أنني منذ أن تركت مكتب أستاذتي سهير القلماوي في ذلك اليوم البعيد, من ربيع العام السادس والستين بعد ألف وتسعمائة, قد تحوّلت تحولاً كبيراً, كأنني قد نضجت فجأة, وكبرت على نحو لم أكن أتوقعه, وازددت إصراراً على أن أتفوق في الدراسات العليا كما تفوقت طوال سنوات الدراسة الجامعية الأولى, وكنت الأول على زملائي وزميلاتي في أقسام اللغة العربية, وبدأت أكتب أطروحة الماجستير, لا أهدأ في العمل, ولاأتوانى, وأنصرف بكليتي إلى البحث الجامعي الجاد لعل هذا البحث يعطيني بعضه. كما لو كنت أمارس على نفسي ومع نفسي تلك الحكمة الجميلة التي نطق بها إبراهيم بن سيار النظّام أستاذ الجاحظ في القرن الثالث, حين قال: العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلّك.

ومضيت أسعى إلى هذا البعض, أفرغ من الفصل الأول, وأعود إليه فأكتشف فيه ثغرات. فأعاود كتابته مرة أخرى, وأقرأ الفصل بعد الفراغ منه فلايرضيني, وأظل هكذا إلى أن أشعر براحة نسبية, فأترك الفصل, وأبدأ في غيره. وظللت أعاني من قلق الكتابة وعذابها, أكتب ولا أرضى, وأملأ الصفحات لأمزّقها, وانتابتني حالة من الوسوسة والشك فيما أكتب. ولولا حرصي على إنهاء أطروحة الماجستير ما فرغت, وما ذهبت في النهاية إلى أستاذتي سهير القلماوي لأقدم لها أطروحة كاملة, وكلي تردد وعدم ثقة, بل كلي توقع أن تفعل معي ما فعلت منذ سنوات, عندما جعلتني أمزّق ما كتبت أمام عينيها, وأفعل ذلك كما لو كنت أخلع عن نفسي أثواب السذاجة والمراهقة وأغدو عارياً إلا من الرغبة في البحث والإخلاص له.

وأخذت أستاذتي مخطوطة الأطروحة على وعد بقراءتها خلال أسبوعين, وقبل أن ينتهي الأسبوعان, اتصلت هي بي, واستدعتني إلى مكتبها, وقالت لي: هذا ما كنت أنتظره منك. وأتوقعه وأرجوه في آن. خذ المخطوط واطبعه على الفور, وقم بالتصويبات أثناء الطباعة فهي طفيفة جداً, فقط اكتب خاتمة للأطروحة لأنني لاحظت أنها بلاخاتمة, ولا داعي لعرضها عليّ.

وحملت أطروحة الماجستير المخطوطة, وجلست في أقرب مكان, وقلبت صفحات المخطوط لأعرف ملاحظات الأستاذة, فوجدتها كلها تصويبات أسلوبية وجملتين أضافتهما الأستاذة بخطها في موضعين لتوضيح المعنى. وحملت المخطوط إلى الطابع على الآلة الكاتبة (لم يكن نعرف الكمبيوتر في ذلك الوقت) الذي رجوته أن يبدأ على الفور, وذهبت إلى المنزل لكتابة الخاتمة التي لم أفرغ منها إلا بعد يومين.

عذاب الكتابة

وناقشت الماجستير, ودافعت عني مشرفتي أمام اعتراضات المناقشين, وانتهت المناقشة بحصولي على أعلى تقدير. وانتقلت على الفور إلى خطة الدكتوراه. وبدأ عذاب الكتابة من جديد, وقضيت في عذاب الإعداد والكتابة ما يقرب من خمس سنوات. وكنت أعاود كتابة الفصل أكثر من مرة, وأمضي به إلى أستاذتي سهير القلماوي, وتقرأ الأستاذة وتعيد الفصل مع ملاحظات يسيرة, وأعود بالفصل إلى المنزل, وأقرأ الفصل مرة أخرى فأجده لا يرضيني. فأكتبه من جديد, وأعود به مرة أخرى إلى أستاذتي سهير القلماوي, فتسألني ضاحكة: لماذا كتبته مرة أخرى?! فأقول لها: لأنني لم أره ناضجاً بالقدر الكافي, فتسكت, وتعدني بإرجاع الكتابة الجديدة بعد أسبوع, وتقول لي: معك حق, فقد صار الفصل أنضج. وأعود إلى منزلي وأقرأ هذا الفصل الأنضج فلا يعجبني, فأكتبه مرة أخرى وأعود به إلى أستاذتي التي بدأت في القلق لذلك السلوك, ولكنها تقبل الفصل وتعاود القراءة, وظللت على هذا المنوال في الفصل الثاني, وأذكر أنني ذهبت به إلى أستاذتي بعد أن كتبته للمرة الثانية, فأخذته من غير تعليق, وحين قابلتها بعد أسبوع سألتها عنه فأجابتني قائلة: الفصل ممتاز ولا يحتاج إلى مزيد?! فأطلب منها أن تعيده إليّ, فترفض قائلة: لا يا أستاذ, سأحتفظ بالفصل الثاني مع الفصل الأول الذي عندي إلى أن تفرغ من بقية الفصول, فأنا أعرف أنني لو أعطيتك الفصل فستبدأ في كتابته من جديد. وحاولت إقناعها بأن أحتفظ أنا بالفصلين, فلم تقتنع, وحكت لي ملخص إحدى روايات الروائي الفرنسي إميل زولا, وهي عن رسام شاب أراد أن يدخل المجد من أوسع أبوابه مرة واحدة بلوحة تقيم الدنيا ولا تقعدها في معرض الفن الحديث, وحبس نفسه مع الموديل التي كانت تحبه, وظل يرسم ويمحو ما يرسم, وطال الوقت, بل مضى الوقت, وافتتح المعرض وهو لم يفرغ بعد, ومنى نفسه بالمعرض القادم, فالمهم أن ينجز ما لم ينجزه أحد من قبل, ومرّ معرض ثان وثالث ورابع, واللوحة لا تكتمل, والرسام المسكين يدخل في دوامات الجنون تدريجيا, إلى أن انتهى به الأمر إلى تمزيق اللوحة بسكين كشط الألوان, وتمزيق جسد حبيبته الموديل, ثم انتحاره بعد ذلك.

وسكتت أستاذتي بعد أن حكت هذه الحكاية على تلميذها, وتوقفت عن الكلام لبعض الوقت, لعلها كانت تريد مني أن أستوعب المعنى والمغزى, وأخيراً قالت: لا يمكن لأحد أن يصل إلى الكمال, الكمال مثل أعلى نسعى إليه طول العمر, حسبنا أن نقوم كل مرة بواجبنا حسب قدراتنا التي نصل بها الى أقصى ما نستطيع من عمل وجهد. وكل مرة ننجز فيها شيئاً نتعلم من إنجازنا, ونقترب بهذا الإنجاز من ذلك الكمال الذي يتباعد عنا بقدر اقترابنا منه, كأنه يريد أن يدفعنا إلى الصعود على درجات سلّمه إلى ما لا نهاية له من العمل. وختمت أستاذتي كلامها بالسؤال: هل فهمت أيها التلميذ العنيد?! يكفيك ما فعلت في الفصلين. فأكمل الفصول الباقية.

وتركت أستاذتي, وعدت لأعمل في الفصول الباقية, وظللت أعمل لسنوات إلى أن فرغت. وكنت كلما مضيت إليها بفصل جديد, تقرأ الفصل, ثم تناقشه معي, متحدثة عن الجوانب المختلفة للفصل, ثم تضعه بعد ذلك في درج المكتب نفسه الذي تحتفظ فيه بالفصول السابقة, وترفض في صرامة تسليمي الفصول الجديدة, قائلة: ستتسلم الفصول كلها بعد الانتهاء من كتابة الدكتوراه. ومضت الأشهر, وفرغت من كتابة الفصول كلها, وذهبت إليها لأحصل على مخطوطة الدكتوراه كاملة, واستقبلتني كعادتها, وناقشت معي للمرة الأخيرة النقاط التي اختلفت فيها معها, وختمت المناقشة قائلة: لا بأس من اختلافك معي, فهذا هو المطلوب, فليس المهم في البحث العلمي الاتفاق, وإنما المحاجة المنهجية التي تعرض الرأي موضوعياً. وإليك مخطوطة الدكتوراه, اذهب بها إلى الطابع على الفور, فقد اتفقت مع الأساتذة المناقشين على موعد قريب للمناقشة, يسمح لك بالكاد بمراجعة النص المطبوع على الآلة الكاتبة وتجليده, وقد تعمدت ذلك, حتى لا تأتي مرة أخرى ومعك كتابة جديدة للموضوع, فحسبك وحسبي ما قد فعلت إلى الآن, وكانت كلماتها صارمة لا تدع مجالاً للنقاش أو الحوار أو الجدل. وأخذت الرسالة صاغراً إلى الطابع ليكتبها على الآلة الكاتبة.

اليوم المشهود

وجاء يوم مناقشة الدكتوراه. وامتلأت قاعة أكبر مدرجات كلية الآداب بزملائي وأصدقائي من المثقفين. وحضر الكثير من أساتذتي. وكان مساء مشهودا, لا أنسى منه أمرين. الأمر الأول هو حديث سهير القلماوي عن تلميذها الذي كان يكتب فصول الرسالة أكثر من مرة, ولا يكف عن معاودة الكتابة إلا بعد أن احتفظت هي بمخطوطات الفصول, ومنعته من ممارسة عناده الذي اقترن بالإسراف في الوسوسة. وحكت لجمهور الحضور عن إلحاحها على المناقشة السريعة, كي لا تدع لتلميذها مجالاً يمارس فيه وسوسته المقترنة بالرغبة في كتابة الأطروحة كلها من جديد. أما الأمرالثاني فكان قرين مفاجأتي بأنها تولّت الدفاع عن أفكاري التي اختلفت فيها معها, والتي ظلت تناقشني هي فيها مرات ومرات كي تثنيني عما انتهيت إليه, ولم تتركني إلا بعد أن تأكدت من حسن عرضي لاختلافاتي معها. وإذا بها تنسى ذلك كله, أو تتناساه, وتأخذ في الدفاع عن أفكاري, وتردّ هجمات الأستاذ الذي لم تعجبه هذه الأفكار, والذي ظن لحماستها أنها تدافع عن أفكارها هي وليس عن أفكار تلميذها الذي اختلف معها.

المثال والقدوة

وكانت سهير القلماوي في الأمرين معاً مثالاً للأستاذ الجامعي الأصيل, خصوصاً في احترامها لحق الاختلاف, وتشجيعها تلاميذها على أن يختلفوا معها, وعلى أن تكون لهم شخصيات مستقلة. والمفارقة الدالة حقاً في علاقة هذه الأستاذة الجليلة بتلاميذها أن الكثير منهم اتجه إلى اليسار, وتعاطف مع مناهج النقد اليساري, مع أنها هي كانت ليبرالية عنيدة, ترفض فكرياً كل صنوف الفكر اليساري, وتكره الشيوعية كل الكره. والمؤكد أن ليبراليتها والذهن المتحرر الذي انطوت عليه, والذي حفظ تقاليد طه حسين, كانت هي الأصل وراء سماحتها العقلية, ووراء فرحها حتى بجنوح تلاميذها إلى تيارات اليسار رغم رفضها لهذه التيارات. ولم تكن تحاسبنا إلا على شيء واحد, هو موضوعية المحاجة والعرض, مؤكدة أنه ما من أحد يملك الحقيقة الكاملة في البحث الجامعي, وأن كل بحث إنما يكشف عن جانب نسبي من أوجه الحقيقة العلمية, فالمهم هو التراكم وتنوع المداخل التي تثري العلم في النهاية. رحمها الله, فقد مرّت ذكراها دون أن يذكرها الكثيرون من تلاميذها الذين أعطت لهم من جهدها وصبرها ما جعلهم أساتذة كباراً بعدها. أما تلميذها الذي كانت تتحدث عن عناده المقترن بالوسوسة في العلم فإنه لم ينسها قط, وكيف ينـــساها وابنته أســـتاذة المــسرح الإســباني تذكّره ـ كل يوم ـ بسمــيتها الكبرى في السلوك والأفعال?!

 

جابر عصفور