الباحث عن نعشه

الباحث عن نعشه

قصة الكاتب البولندي: أدولف ديجاشينسكي

قريباً من (سيروتسك) يلتقي شريطان جميلان لكل من نهري (البوج) و(الناريف), يذكراننا لوناهما بسماء ذات لون زرقاء يشوبه لون رمادي. هذان الشريطان المائيان يتسعان عادة في الربيع, عندئذ يطلق الإنسان عينيه لتلتقي الأفق البعيد, فيرى من بعيد مياهاً عكرة, هائجة, ثائرة.

وعند اللسان ما بين (البوج) و(ناريف) تنام في مرقده حقول القمح, وأشجار البلوط, ومن بين هذه الأشجار هنا وهناك يقبع كوخ ريفي سقفه من القش.

لا تزال المياه الربيعية تذيب البقايا السابقة من الكتل الجليدية المتراكمة, أو تلك التي كانت, لا يزال خرير أصواتها يسيطر على كل ما يحيط بها. خرجت يوماً من الأيام إلى نهر (البوج), وصوبت ناظري نحو صخب تيار المياه, حيث تطير إليها طيور النورس من ناحية, ومن الناحية الأخرى يرمي أحد الصيادين سنارته في مياه الإله الواسعة وفضاءاته النهرية.

أثار انتباهي فجأة هذا الرجل, كان من دون قبعة فوق رأسه, ومن دون معطف خفيف, يجلس على حافة النهر, مسنداً رأسه فوق كفيه, وفي ظني أنه كان يتفكر في الكون, وكان يبدو لي عن بعد, ومن خلفه تقبع السماء, كأنه تمثال من التماثيل. لقد تصورته في مخيلتي وكأنه يعد نفسه للانتحار, ويقضي لحظاته الأخيرة من حياته في التفكر في ذكريات الماضي, وبعد ذلك بل من المؤكد أنه سيلقي بنفسه في أعماق النهر.

سرت بالقرب منه مرتين, وعندما ابتعدت عنه للمرة الثانية لم تكف عيناي عن متابعته. نهض الرجل فجأة سريعاً وعن غير توقع, فخلع قميصه, وقفز في النهر. ورغماً عني صرخت عالياً, ورغم ذلك لم يلتفت لصرختي. فقد كان يحوطني فضاء ساكن لا حياة فيه, وهدير المياه كان يمكن أن يغطي بصخبه أعلى الأصوات صراخا. نظرت متفحصاً المياه, بعدها تيقنت من أن (الرجل), ذلك الذي كنت أخاف على حياته, كان يسبح بمهارة, ويصارع بإصرار التيار القوي الماكر. شاهدته الآن بوضوح, إنه يسعى سعياً حثيثاً للإمساك بلوح خشبي قد ظهر فوق سطح المياه. التقطه سريعاً ليعود مع صيده (الثمين) إلى ضفة النهر:

إنه لأمر غريب! ينبغي أن يكون المرء مخبولاً مثل هذا الفلاح ـ حدثت نفسي ـ ليفعل ما فعله, ويضحي بحياته من أجل لوح خشبي لا قيمة له.

كنت أقف عند ضفة النهر, وتحديداً في المكان نفسه, حيث قذف رجلنا المجهول بنفسه خارج اللوح.

ـ هل أنت واحد من أصحاب الأرض في هذه القرية يا صاحبي?! ـ سألت الرجل مجهول الهوية.

ـ لست بصاحب أرض ـ يستطرد الرجل قائلاً ـ إنني مجرد عامل يقوم بصنع (الفودكا) في قصر أحد الإقطاعيين بقرية (زناخوري).

ـ لقد حصلت على لوح خشبي رائع, خسارة إنه أقصر من اللازم.

ـ ربما.. لكن الإله الكريم, لن يترك عباده المخلصين.

ـ من المؤكد أنك ستصنع من هذا اللوح مائدة, رفا من الأرفف, أو درجاً من الأدراج. أليس كذلك?!.

ـ وماذا يفيدني هذا?! ـ أجابني وهو يتنفس بصعوبة ـ سأصنع من هذا اللوح يا سيدي غطاء للنعش.

لطمني على وجهي هذا التعبير الأخير غير العادي في حوارنا المشترك. أصابني الصمت للحظة, وبعدها واصلت الحديث من جديد:

ـ إنني أراك في فتوة العمر, كنت أراقبك وأنت تسبح بمهارة قاطعاً المياه وهي في عنفوان هديرها, وبمقدورها أن تحمل الإنسان الضعيف بعيداً بعيداً خلف أسوار (سيروتسك)... لست أفهم الأسباب التي دعتك إلى أن تفكر الآن في (نعش)?!

ـ ضعيف أنا يا سيدي, ضعيف! سبعة وستون عاما أحملها فوق ظهري... لقد أرهقني العمل. يا إلهي القوي الجبار! لو أنني كنت في فتوة العمر ـ كما تقول يا سيدي ـ لعاشت (ماريشا)...

ـ هل مات أحد أفراد عائلتكم?!

ـ طفلتي ماتت... ابنتي قد ماتت!

استطرد الرجل مجهول الهوية مرتعشاً, كما لو كان الجليد قد مسه بقشعريرة. عاد من جديد إلى مكانه عند ضفة النهر, وضع رأسه فوق كفيه مصوباً نظراته نحو الماء قائلاً بصوت اتسم بغرابته:

ـ ماتت ابنتي الوحيدة.. قلبي الذهبي!.. كنزي الوحيد, نجمتي!.. انطفأت كالشمعة, سقطت, كالورقة الخضراء, منفصلة عن شجرتها, ذبلت مني المسكينة كالزهرة.

لم أجرؤ على أن أنبس ببنت شفة, أما هو ـ بعد لحظة صمت غير محتسبة من عمر الزمن ـ فقد واصل شكايته:

ـ كانت ستبلغ من العمر هذا العام تسع عشرة سنة.. لم تنتظر حبيبتي هذه السنوات. هذه العذراء كمريم (البتول).. رفيعة القد, ناعمة كانت, رائعة كالوردة, طيبة.. كان الناس يحسدونني عليها... وانطفأت فجأة. أما أنا ـ ذلك العجوز, ذلك الذي كان ينبغي أن يكون في قبره الأن ـ فإنني ما زلت حياً يرزق, وهي قد ماتت! ماتت!...

وفوق وجنتي العجوز السوداء, انهمرت الدموع قطرة قطرة, وارتعشت الشفتان أشبه برعشات ما قبل الموت, وكأنها ستنفجر دموعاً. أحسست أن قدسية هذا الألم تستشعره الطبيعة بأسرها, وأن جميع محاولاتي للتخفيف عن هذا الألم الإنساني بالكلمات الطيبة والمواساة, كانت ستبوء بالفشل. وضع (اللوح الخشبي) فوق ظهره, وبخطوات مترنحة اتجه به إلى مكان آخر, كما لو كان في حزنه العميق يبحث عن الوحدة والانفراد. اقتفيت أثره في صمت, معتقداً أن عليّ أن أعينه في ألمه ومعاناته.

ومن جديد اتخذ مكانه المعهود عند ضفة النهر, وعندما انساب من فوق ظهره (اللوح الخشبي) الثقيل, اقتربت منه, أردت أن أساعده في حمله.

ـ فليكافئك الرب يا سيدي ـ استطرد قائلاً ـ كانت تقوم بدلاً عني ـ أنا العجوز ـ بالعمل... لكن كل ذلك أوقفه الموت. كنت أسمح لها بأن تكدح كدحاً شاقاً. سمحت لها بأن تحمل أجولة (البطاطس) بدلا عني, كي تقطعها وتعدها لتصنيع (الفودكا)... لم يعد بمقدوري أن أحمل هذه الأجولة, والذي يؤكد هذه الحقيقة أنهم كانوا يريدون أن يطردوني بعد عشرين عاماً من العمل المتواصل. وكان بمقدورهم أن يلفظوني لولا وجودها, وجود (ماريشا) ابنتي الوحيدة!. العاملة (الكادحة), كانت تكسب من كدّ يدها... فلأحمل إذن إلى البيت هذا اللوح الخشبي أجعل منه غطاء لنعشها على أقل تقدير... بالأمس عند صياح الديك.. في الفجر.. ماتت (ماريشا).

ـ من المؤكد أنهم في القصر لن يرفضوا منحك لوحاً خشبياً كي تجعله غطاء للنعش ـ خاطبت العجوز المتألم قاصداً أن أبعده عن النهر, الذي يمكن أن يهمس له بفكرة (الانتحار). مال برأسه مستطرداً:

ـ كنت صباح اليوم في القصر من أجل الحصول على لوح خشبي أغطي به نعش ابنتي, لكني لم أحصل منهم على شيء... (أنت يا يوزيف عجوز, لا تصلح لشيء, وأنت لم تقم بفعل شيء للقصر, حتى تحصل في المقابل على ألواح خشبية) ـ أجابني السيد إقطاعي القصر. هذه هي الحقيقة... ظهر اليوم نفسه, حيث لا يوجد أحد في مخازن القصر, ذهبت هناك خلسة, وأردت أن آخذ صندوقاً قديماً وأصنع منه غطاء للنعش. ولحظي السيئ أمسك بي (خولي) الأرض, وخطف قبعتي ومعطفي. ودلفت إلى قصر آخر, ولكن صاحب القصر لم يكن موجوداً وقد أغلق قصره, فهو مسافر...لقد أرسل الإله الكريم لوحاً خشبياً واحداً إلى النهر, وإني في انتظار رحمته, ربما سيرسل لي لوحاً خشبياً ثانياً.

وقبل أن يكمل كلماته, انتفض من مكانه فجأة, وقفز بالقرب من الماء.

ـ ستحصل على كل ما تريد من ألواح! ـ صرخت فيه ـ فقط عد ثانية إليّ!

لكن العجوز كان يعدو نحو الماء كالشاب الفتي, فقد لمح ـ عن بعد ـ فوق سطح ماء النهر بضعة ألواح طافية, بعث بها الإله الكريم خصيصاً له كما كان يعتقد ويؤمن.

في هذه المرة لم يعد سباحاً ماهراً. فقد جرفه تيار مائي قوي, وهبط به إلى الأعماق, حيث انتهت حياته وانتهت معها آلامه, ومعهما انتهى بحثه الدؤوب عن (غطاء) النعش المنتظر.

 

هناء عبد الفتاح